الفنان التشكيلي الدكتور يوسف غزاوي
عاش العالم الغربي، منذ الحرب الكونية الثانية في القرن الفائت صراعاً محبّباً، من نوع آخر، يختلف عن الذي اعتدنا عليه وعلى سماعه؛ فقد عرف العالم صراعات عسكرية واقتصادية كان هدفها السيطرة على العالم، تارة عبر الحرب الباردة، وطوراً عبر الحروب المباشرة كما حصل في الحروب الكونية، ولم يزل الصراع قائماً بصور تختلف باختلاف الأنظمة والدول والأمكنة، إلا أنّ الأهداف المبطنة تبقى دائماً واحدة: قيادة العالم كما تدل عليه التجارب مع الولايات المتحدة الأميركية.
الصراع الذي نودّ الإشارة إليه هو الصراع التشكيلي؛ فعند احتداد المعارك في أوروبا بسبب حروب النازية والفاشية الممثلة بـ"هتلر" و"موسوليني" هرب عدد لا بأس به من الفنانين والشعراء السورياليين الأوروبيين، ولا سيّما من فرنسا باتجاه أميركا طلياً للأمان والسلام والسكينة أمثال "ماكس ارنست Max Ernst" و"أندريه ماسون André Masson" و"إيف تانغي Yves Tanguy" و"أندريه بريتون André Breton" وغيرهم، فأقيمت هناك النشاطات والمعارض الفنية التشكيلية في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تعيش في سبات الفنون القديمة والكلاسيكية والواقعية دون أن تطرق الحداثة أبوابها بسبب وقوعها في المقلب الآخر من العالم. كان لتلك النشاطات، ومن ضمنها الكتابات الفنيّة، واحتكاك الفنانين الأوروبيين بنظرائهم الأميركيين، الوقع المباشر لإنشاء حركة فنيّة أميركية بدأت تباشيرها بالظهور مع "التعبيريّة التجريديّة L`Expressionnisme abstrait" يأتي على رأسها الفنان "جاكسون بولوك Jackson.Pollock" إضافة إلى العديد من الأسماء التي أصبحت مرجعاً مهماً للكثير من الفنانين في العالم كـ"وليم دي كوننغ W.de Kooning" ومارك روتكو Mark Rothko" و"مارك توبي Mark Tobey" و"هانز هارتونغ Hans Hartung" و"فرانز كلاين Frans Kline" و"سام فرانسيس Sam Francis"...الخ. انتقلت حينها الدفة التشكيلية من أوروبا إلى أميركا، وسُحب البساط من تحت أرجل الأوروبيّين، وعلى الأخصّ الفرنسيين الذين كانوا روّاداً ومرجعاً للفنون الحديثة.
إنّ لعبة الثقافة والفن هي على شيء كبير من الأهمية في الصراع الذي يدور في هذا العالم نظراً لما تحمله من موارد مالية وسياحية ودعائية لنشر ثقافة ولغة هذا البلد أو ذاك، وهو جانب لا تعي أهميّته الدول النامية، إن لم نقل المتخلفة... كبلادنا.
حاول الفرنسيّون إعادة الدفة إليهم في هذا السباق الفني التشكيلي، فنشأت مدارس مرادفة للفنون التي نشأت في أميركا، وأخذت بالانتشار في العالم وفي أوروربا كحركة "اللاشكلي L`informel" و"الدعامة - المسطح Support- Surface" التي جاءت بمثابة ردّ مواز لحركة "المنيماليسم Le Minimalisme" الأميركية التي كان على رأسها الفنان "دونالد جاد Donald Judd" إضافة إلى فنانين آخرين أمثال "دون فلافان Dan Flavan" و"روبيرت موريس Robert Morris" و"كارل أندريه Carl André" و"سول لوويت Sol Lewitt"،الخ... وهناك "الواقعية الجديدة Nouvelle réalité" أو "New realism" التي عُرفت بنسختها الفرنسية عبر "مدرسة نيس L`Ecole de Nice" على رأسها الفنان "إيف كلاين Yves Klein" الذي سنتوقف مليّاً عند تجربته...
Support/Surface دعامة/ مسطح:
على غرار "التعبيرية التجريدية" الأميركية، فإنّ تيار "المينيمال آرت The Minimal Art" هو فن أميركي معاصر محرّر من التأثيرات الأوروبية المباشرة. قابله في فرنسا حدث ال Support/Surface، الوقتي والسريع الزوال.
ففي صيف عام 1970 اجتمع خمسة فنانين في جنوب فرنسا غير معروفين، وأقاموا تظاهرات فنية في الهواء الطلق؛ وضعوا على الشواطىء وفي القرى قماشات من دون "شاسيه" (الإطار الخشبي الداخلي)، نصف أعلام، نصف بيارق وبضعة حبال فيها اقتراح مُعارض وردة فعل على طغيان التمركز الفني في باريس العاصمة وفي الولايات المتحدة الأميركية، وللتمييز بين الصبغة اللونية La teinture والتصوير الفني La peinture، أو بين الخلفية Le fond والشكل La forme، وتقاليد الإطار واللوحة، ومتطلبات السوق الفنية، وإكراه الغاليري والمتحف! بالرغم من ذلك، وبدءاً من خريف ذلك العام، نجد أعمال هؤلاء الفنانين في متحف الفن الحديث في باريس حيث رضيوا بعرض أعمالهم تحت عنوان "matérialiste" Support/Surface.
كل عمل، كما يقول "كلود فيالا Claude Viallat" أحد أبرز فناني هذا التيارالفني، هو "صورة العمل الذي أنتجه". هذا الفنان ارتبط بإظهار مادية بدائية.
هذه الانتروبولوجيا (علم الإنسان) الفنية وجدت عدتها التصويرية في شكل يشبه نصف الإسفنجة، نصف حبة الفاصوليا العملاقة، مكرّرة بنهم، سلباً أوإيجاباً positive ou négative. علامة مطابقة على غرار طبعات يد إنسان ما قبل التاريخ على جدران الكهوف حيث نجدها هنا على قماشات عديدة ودعامة support عذراء ومحايدة (شرشف، بساط، قطعة شراع سفينة، ستارة أو غطاء من القماش...).
من هؤلاء الفنانين نذكر: دانيلا دوزوز Daniel Dezeuze، لوي كان Louis Cane، برنانر باجيه Bernard Pagés، توني كران Toni Grand، مارك ديفاد Marc Devade....الخ.
الواقعية الجديدة La nouvelle réalité:
جاءت الواقعية الجديدة، في ثلاثينيات القرن العشرين، كردّة فعل على تيارات التعبيرية التي وُصَفت حينها بال"منحطة"، وإن لم تختلف عنها في توجّهاتها ورسالتها. هي انطلقت من الواقع الاستهلاكي. كانت الأعمال جريئة تنتقد الوضع الاجتماعي ورياء الإنسان وإجرامه في الحروب، فكانت ناقداً اجتماعياً لاذعاً، مما حدت ب"هتلر" إلى إلقاء خطاب بمناسبة افتتاح "البيت الجديد للفن الألماني" في ميونخ عام 1937، أعلن فيه ميوله للفن الكلاسيكي المحصّن، واشمئزازه من الفن التعبيري الذي وصفه بالمنحط. لكن المثير للاهتمام أنّ كلا الحركتين: "الواقعية الجديدة" و"التعبيرية" ينتقدان المجتمع، ويسخران منه ومن الطبقات الحاكمة، ويشجّعان أفكار الشيوعية.
تعدّدت تسميات الاتجاه الجديد؛ من بينها: "ما بعد التعبيرية"، "التعبيرية المُحدثة"، "الواقعية السحرية"... حتى غلبت التسمية النهائية بالألمانية: " Neue Sachlichkeit" أي "الموضوعية أو الواقعية الجديدة". مهما يكن من أمر، فهو اتجاه يُعبّر عن الواقع من خلال ألوان قليلة وخطوط مستقية ضمن جوّ بارد وجامد الأحاسيس... وُلدت في ألمانيا وأميركا حيث ستتمثل أولاً ب"ماكس بيكمان Max Bekman"" يليه الفنان "أوتو ديكس Otto Dix" و"جورج غروس Georg Grosz" و"جيرارد ريشتر Gerhard Richter" و"إدوارد هوبر Edward Hopper"، قبل أن تنتنقل إلى بلجيكا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من الدول...
في فرنسا، عُرفت "الواقعية الجديدة" بفنانيها "إيف كلاين Yves Klein"، "مارسيل رايس Marcel Rayesse" و"آرمان Arman" فنان "التجميع L`Assemblage"... كان أبرز هؤلاء "إيف كلاين" الذي كان بمثابة ظاهرة فنيّة وفكرية ضمن هذا التيار الفني...
إيف كلاين Yves Klein:
وُلد إيف كلاين عام 1928 في "نيس"، المدينة الفرنسية المطلة على البحر الأبيض المتوسط. درس التجارة البحرية، وعمل في مختلف الأشغال والوظائف.
أحبّ كلاين أن يدخل عالم الرسم والتصوير من ناحية مميزة، فأخذ يمزج رسمه باستعمال مواد طبيعية، واستعمل في "أعماله النارية peintures de feu" ورقاً محروقاً على الخشب ممزوجاً بغاز قابل للاشتعال، كما استعمل الماء والهواء في الأعمال المرتبطة بنظرية تكوين العامل "Cosmogonies"، إضافة إلى الشتاء والهواء المتحرك والصاعقة والأرض.
ابتدأ كلاين يرسم بطريقة الطباعة عام 1948م، وبعدها دخل "مرحلة زرقاء"، حيث يُعتبر الأزرق لون كلاين المثالي والأول من مجموعة "دراسات أحادية للون Monochrome". لم يتقبل النقاد نظرة كلاين الفنية، وعام 1955 رفضت لجنة صالون الرسم الواقعي الجديد أن تعلق إحدى أعماله "الأحادية اللون" في الصالون لأنها لا تمثل شيئاً.
عرض كلاين عام 1957 حوضاً مملوءاً بمسحوق اللون الأزرق، وأطلق على هذا اللون تسمية "أزرق كلاين العالمي International Blue Klein"، واختصر هذه التسمية بثلاثة أحرف: IKB، وهي ترمز لاستعماله اللون الصافي بحالة المسحوق الأول، قبل أن تدخل عليه أي مادة. دهن كلاين صالة عرض "إيريس كلير" باللون الأبيض عام 1958، وكانت ردة فعل الجمهور قوية جداً، إذ أنهم لم يجدوا أثراً للوحة معلقة كمعارض الرسم العادية، بل واجهوا صالة فارغة بيضاء تدعو للتأمل.
بدأ كلاين عام 1960 العمل على مجموعة "مقاييس الجسد المثالية"، أو "تناسب الجسد الإنساني Authoropométrie"، ومجموعة "أكفان Suaires" ومنها "الكفن ذو المقاييس المثالية"، المسمى أيضاً بأحرف مختصرة (ANEU2). عبّر كلاين عن مخاوف الإنسان المتمدن الحديث، وعن خوفه من "الوجود" و"الموت"...
يقول كلاين عن اللون الأزرق: "يذكرني اللون الأزرق بالبحر والسماء، وهو اللون الأكثر تجريداً في الطبيعة التي نراها ونلمسها".
يعتبرريستاني أعمال كلاين المثال الأول لتصوير فلسفة هيغل، وبحسب منهج هذه الفلسفة لا شيء ثابت أو جاهز أو نهائي. كل شيء يتحرك، ويتغير، ويولد، ينمو ويموت، وفي الحقيقة هو لا يموت، يموت شيء منه، ليولد في منزلة أعلى أو شكل أعلى وأغنى في حركة الإنسان والعالم, وإلى المجتمعات والدول والفنون والأديان والحضارات. الديالكتيك، أو الجدل، يأخذ عند هيغل شكلاً معروفاً ومشهوراً وهو الانتقال من القضية(Thesis) إلى نقيضها ((Antithesi، ومن تناقض القضية ونقيضها ينشأ التركيب أو ((Synthesis الذي هو أعلى وأغنى من اللحظتين الأوليتين. ثم يتحول التركيب (Synthesis) بعد برهة إلى قضية تستدعي نقيضها، فينشأ عن النقيضين تركيب جديد، وهكذا دواليك".
تأثر بجدلية "غاستون باشلار Gaston Bachelard) الروحية وبآراء الفنان "ديلاكروا Delacroix) في آن واحد، وبفلسفة "هيغل" وبالدين المسيحي وبالثقافة البوذية . يقول الفنان بأنه يعتبر نفسه رساماً انطباعياً، وتلميذاً لدولاكروا".
وضع كلاين اللوحة على مسند في وسط حديقة، وأاطلقت الصواريخ يوم افتتاح إحدى معارضه، فأعطت دخاناً أزرق اللون بعد أن حلقت في السماء. وشاهد المتفرجون صورة تشبه ناراً زرقاء، تمثل النار التي يتكلم عنها باشلار...
أثرت مبادئ إيف كلاين كثيراً بتكوين جماعة "الواقعية الجديدة". يؤمن "كلاين" برمزية استعمال ثلاثة ألوان فقط في الأعمال الفنية (الأزرق والذهبي والزهري). اعتبر كلاين مصدر هذه الألوان من عالم الكواكب والفضاء.
عبّرت الألوان الثلاثة عن الشمس والنار من خلال اللون الذهبي، والدم من خلال اللون الزهري، وعن الماء والسماء من خلال اللون الأزرق.
لاحظ كلاين بواسطة حسه أنّ للنار علاقة رمزية بعلوم الخيمياء، ومن هذا المنظور أقام علاقة بين النار والضوء، النار والشمس، النار والدم، وأخيراً النار والماء.
أراد كلاين، على حدّ تعبير الناقد بيار رستاني Pierre Restany، "أن يربط الخيمياء بالله الذي أخذ شعار القديسة ريتا، فأهداها كلاين أعماله كأعمال خيرية دينية".
تعتبر اختبارات كلاين بمثابة تفتيش عن "الحقيقي" و"الأصلي"، "والبحث عن الحقيقة... البحث عن البحر الحقيقي... وعن السماء بذاتها... فكان كلاين يؤمن بالتوحد مع الحقيقة المطلقة".
أسس كلاين مع زميليه "رايس Rayesse" و"أرمان Arman" مدرسة نيس l"école de Nice. وابتداء من العام 1960م أعلن الثلاثة استقلالهم عن مدرسة باريس L"Ecole de Paris. يقول رايس: "سوف تسمى مدرستنا مدرسة نيس، وإنّ فكرتها الأساسية مبنية على أهمية الحياة، فالحياة تبقى أجمل من كل شيء، وهي الأسمى".
استقرّ أعضاء المجموعة في باريس، وقام الناقد الفني "بيار رستاني" بعرض أفكار ومفاهيم مدرسة نيس. وجد رستاني أنّ قواسم مشتركة تجمع أعضاء مدرسة باريس بفنانين آخرين: تانغلي Tinguely، ريمون هاينز R. Hains، سبويري Spoerri..
وأنّ هذه المجموعة استوحت أفكارها من مصدرين: الأول، اكتشاف فلكلور أوروبي مدني حديث موثوق بمعان جديدة لطبيعة المكننة والصناعة. والثاني، تكملة إيجابية لمفاهيم "مارسيل دوشامب Macel Duchamp" والأفكار التي أطلقها كدعوات "ضد الفن"، ولكن بطريقة بعيدة عن الدادائية التي تدعو "الفن للفن".
بهذا الاتجاه العصري الحديث، أقام "إيف كلاين" في صالة عرض "إيريس كلير Iris Clert" معرضاً تحت عنوان "الفراغ Le vide"، يبرهن من خلاله كيف أنّ القيمة الروحية غير الملموسة هي الحقيقة المطلقة التي تبتعد كلّ البعد عن نقيضها في عالم المحسوسات والأشياء التي نراها في حياتنا اليومية وفي الشوارع كالإعلانات وواجهات المحال التجارية والسيارات والنفايات... أفرغ كلاين صالة العرض كليّاً، ودعا المشاهدين إلى تأمّل داخل المكان الصامت والخالي من كلّ شيء.
كتب "البير كامو Albert Camus"، بعد رؤية معرض كلاين "الفراغ"، قائلاً : "في الفراغ قوى كامنة".
لقد احتشد آلاف الزوار لمشاهدة افتتاح هذا العرض الفني فكان الأمر بمثابة مظاهرة صاخبة.
بعد إقامة إيف كلاين لمعرضه "الفراغ le vide" في غاليري "إيريس كلير Iris Clert"، وفي نفس الصالة، أقام "أرمان" بعد سنتين معرضاً ، كرد على معرض كلاين، تحت عنوان "الممتلىء Le plein"، حيث ملأ الصالة بنفايات متعددة المصادر. إنّ أكثر أعمال "أرمان" تمييزاً تتألف من تكديس عشوائي لأشياء. لكن هذه الأشياء كلها من نوع واحد، معبّأة في علبة بلاستيكية شفافة. نشير هنا إلى عمله "أمل السلام L"Espoir de paix" عام 1995 المؤلف من دبابات وملالات حربية مغلفة بالباطون المسلح. يوجد هذا العمل في وزارة الدفاع في اليرزة في لبنان.
كتب بيار رستاني البيان الأول للواقعية الجديدة عام 1960م بمناسبة افتتاح معرض للمجموعة في صالة "أبولينير Apollinaire" في باريس. يقول ريستاني في هذا البيان:
"... يعيش رسم اللوحة على المسند آخر أيامه، كما أي طريقة تعبير كلاسيكية في مجال الرسم والنحت، بالمقابل، أي تجارب واحتمالات تنتظرنا؟ نشاهد مغامرة جديدة لمحاولة نقل الواقع من خلال استخدامه كما هو، فلم نعد بحاجة لنقله وتصويره. سندخل إذاً صميم علم الاجتماع كي ننتقي الأغراض المناسبة من الحياة الاستهلاكية، تلك الأغراض التي ستشكل المواضيع الفنية، ومنها الأغراض أو الأشياء الميكانيكة، اليافطات الإعلانية، النفايات المنزلية، كنفايات المطبخ أو نفايات الصالونات... سيصبح محور الإحساس والابتكار بالفن أوسع من الحدود المتوقعة والأليفة".
انطلقت أفكار ومفاهيم الواقعية الجديدة من الواقع الاستهلاكي. لم يتقبل الشعب والنقاد هذا الانقلاب في الفن. وهذا شيء يحصل دائماً مع الفنانين المجدّدين الذين يثورون على القديم والمتداول في الفن، وهي أمور تنتهك المفاهيم السائدة عند العامة وعند بعض الخاصّة أحياناً.
لم يثورْ "كلاين" على الدين ومعتقداته، بل على العكس فقد تأثر الفنان بالدين المسيحي؛ ترعرع كلاين في نيس في أجواء مسيحية كاثوليكية، وقد تأثر في أعماله بكتابات "ماكس هندل Max Heindel" عن تيار أو جمعية سرية اشتهرت في القرنين السابع والثامن عشر زعمت أنها تمتلك معارف سرية للطبيعة والدين. لكن كلاين لم يكن مؤمناً متعصباً.
في عمله "مقاييس الجسد المثاليةNSU2" تتحول المرأة في هذا العمل، الذي ينتمي إلى تيار الحدوثية The happening، من نموذج حي إلى أداة للرسم أو حتى إلى فرشاة للرسم تحوي اللون الأزرق حيث يغمس كلاين المرأة باللون الأزرق، ويمرر جسدها على المسطح أو القماشة البيضاء فيترك الجسد طبعته لأعضاء المرأة البارزة كالثديين والفخذين...
يستعمل كلاين طريقتين للطبع، فالأولى تكون طبعة إيجابية أي عادية، والثانية سلبية معكوسة، حيث المرأة مسطحة عارية على القماشة يأتي الفنان بمضخة تحتوي على اللون الأسود ويرشه بواسطة المضخة على القماشة المحاذية لجسدها (على حدود الجسد)، وحين تنهض المرأة نرى عملاً يشبه فيلماً فوتوغرافياً سلبياً، أو بالأحرى صورة أشعة X- ray.
استعمل كلاين في هذه الأعمال الألوان الأسود، الزهري والأزرق ليعطي إحساساً غامضاً قاتماً شبيه بأثر قنبلة هيروشيما الذرية. فبرأيه أنّ الإنسان شهد بعد هذه الحادثة تفكك المادة والجسد حتى أنه لم يبق منه إلا بقايا الظل على الأرض والجدران... هذا التفكيك سيصبح مبدأ أساسياً عند فلاسفة ومفكري ما بعد الحداثة (جاك دريدا على سبيل المثال). كتب كلاين عن هذا الموضوع قائلاً: "في صحراء كارثة هيروشيما الذرية لم يبق من الأجساد إلا الظلال. إلا أنّ هذه الظلال لم تبرهن عن فظاعة الحادثة بل أكّدت من جهة أخرى على وجود أمل لبقاء غير ملموس لعجينة الجسد".
أبرز ما يُظهر وجه الصراع الفني بين أوروبا وأميركا هي الرسالة التي أرسلها "كلاين" إلى الرئيس الأميركي "إيزنهاور Eisenhoure" عام 1958 بعنوان "الثورة الزرقاء" محاولاً من خلالها التركيز على الدور الفرنسي في اللعبة الفنية والفكرية الدائرة في العالم وذلك عبر تذكيره بمبادئ الثورة الفرنسية الحريصة على الإنسان وحريّته؛ مناسبة تلك الرسالة كان التغيير الحكومي الفرنسي. لم ينسَ أن يضعَ نفسه في موازاة وطنه كعاملين أساسيين للتغيير في العالم. يقول:
"مع هذا التحوّل في البناء الحكومي، نفكر، وطني وأنا، أن نعطي العالم بأكمله مثالاً لا يقل أهمية عن الثورة الفرنسية عام 1789 حيث الشعار العالمي "حرية- مساواة- أخوّة" كان ضرورياً في الماضي، ولم يزل حتى هذه اللحظة محافظاً على حيويّته الكاملة. إلى جانب هذه الفضائل الثلاثة يجب أن نضيف حقوق الإنسان، ويجب أن نضيف فضيلة رابعة اجتماعية، ضرورية ونهائية: "الواجب".
وكتب عندما كان في الثامنة عشر من عمره قائلاً:
"عندما كنتُ في عمر المراهقة عام 1946، كتبتُ إسمي في الجهة الأخرى من السماء وذلك خلال مرحلة خارقة وهميّة "واقعية- مُتخيّلة". في ذلك اليوم، عندما كنتُ ممدّداً على شاطئ "نيس"، أردتُ أن أُبرهن عن كرهي للعصافير التي تحلق هنا وهناك في سمائي الجميلة الزرقاء دون غيوم، لأنها حاولت أن تخلق فتحات في أجمل وأكبر أعمالي".
وفي مكان آخر يقول عن اللون الأزرق: "يذكّرني اللون الأزرق بالبحر والسماء، وهو اللون الأكثر تجريداً في الطبيعة التي نراها ونلمسها".
توفي كلاين شاباً في عمر الرابعة والثلاثين. كان بدون أي شك الشخصية الرئيسة والأبرز في تيار "الواقعية الجديدة" في أوروبا بما تركه من تأثيرات على الفن التشكيلي فيما بعد. ونذكر أنه كان أيضاً عازفاً لموسيقى الجاز، وخبيراً في الجودو التي تعلمها في اليابان، ووضع عنها كتاباً تحت عنوان "في الجودو".
سواء تعلق الأمر بالولايات المتحدة الأميركية أو بأوروبا فإنّ هناك حقيقة تفرض نفسها وهي أنّ صراعاً حضارياً وهماً فكرياً، فنيّاً وثقافيّاً، يعيشه العالم الغربي حيث السبق على أشدّه في رفد الإنسانية بعطاءات متجدّدة هدفها تطوّر هذه المجتمعات بدرجة أولى، وفرض هيمنتها على الآخر (المختلف والضعيف) بدرجة ثانية بما يستتبعه من مكاسب اقتصادية يدلّ عليه ثراء تلك الدول بالمتاحف والحركات الفنيّة التي تجعل منها محجة الزائرين والسائحين والدارسين الباحثين عن الجمال في هذا العالم المليء بالصراعات، حيث البقاء يكون للأقوى على مستوى العقل وما ينتجه من عطاءات... صراع لن ينتهي بل ستزداد حدّته بازدياد تعقيدات الحياة وحاجاتها الفكرية والجمالية التي نعيش على هامشها ونقلدها بعد عقود...
تعليقات: