شيرين بعد مرور عام على نجاتها من المجزرة
لم تكد تبزغ تباشير فجر الثلاثاء 24 تموز، حتى ألقت الطائرات الإسرائيلية حممها على منزلين متجاورين في النبطية الفوقا. ولم تسمح للمنقذين أو المسعفين بالتوجه نحوهما سوى بعد نصف ساعة، لتسفر النتائج عن مجزرة ضحاياها: الفلسطيني أحمد حمزة (56 عاماً) وزوجته اللبنانية إنعام العزي (46 عاماً) وولدهما محمد (19 عاماً) في بيت حمزة، وأربعة شبان في البيت المجاور: حسن غندور، علي كلاس، قاسم مكي وعلي كريكر.
لم ينجُ ممن كان في بيت أحمد حمزة، بائع القهوة المتجول، غير ابنته شيرين (مواليد 1984)، التي طمرتها الغارة تماماً كما والدها ووالدتها وشقيقها محمد. أما الشقيق الثاني لشيرين، محمود فقد حملته أقداره إلى خارج البيت قبل نحو ثلاث ساعات.
بعد عام من المجزرة «يستحيل أن أنسى تفاصيل ما حدث. أشعر في كل لحظة بأنهم ما زالوا معي، من البداية حتى اللحظات الأخيرة، كيف جلس أبي معي، كيف خرج إلى باحة الدار ليدخن سيجارته، كيف بكت أمي وطلبت أن نغادر البيت خوفاً مما يجري، لا تمرّ ليلة من دون أن أعود إلى ذاك المشهد». لم يشعر «أبو محمد» قط بالخوف. خرج ذلك اليوم، إلى سوق النبطية يلتقط رزقه، وعاد محمّلاً بما تيسّر. بيد أن ما حمله من النبطية التحتا نحو النبطية الفوقا، سبّب له آلاماً معهودةً في الظهر، فاضطرت الجارة نداء إلى وخزه بإبرة سكّنت له الوجع. قبل حلول المساء أغارت الطائرات على مغسل «الكوثر» في النبطية الفوقا. طلبت «أم محمد» باكية أن يغادروا المنزل: «أخرِجنا من هنا ما بدّي موت، فلّلني من البيت». وراحت تجمع كل الأوراق والبطاقات والصور، تحسّباً لتفاقم الوضع.
تروي شيرين: «حضرت جارتنا وقت الغداء. رفضت والدتي تناول الطعام وبكت مجدداً. اقترب والدي منها واحتضنها، كانت المرة الأولى التي أراه يحتضنها، قالت له مجدّداً: دخيلك أخرجني من هنا، خذني لعند ابنتي رلى في كفررمان، فأجابها: وحّدي الله، ما بياكل الإنسان أكثر من نصيبه».
عندما حصلت الغارة على مغسل الكوثر، سألت شيرين والدها: «إذا أتى صاروخ عند جيراننا، فهل نموت؟»، ضحك وأجابها: «أكيد يا بيّي». كانت الأمور غير طبيعية: تحليق كثيف للطائرات الحربية، غارات وهمية. زارت شيرين جارتها ورفيقتها في الملجأ، وراحتا تتحدثان، وقبل أن تغادر قالت لها شيرين: «الليلة بدنا نموت، سامحيني!»، فردّت أمها: «لا تكرري هذا الكلام، نامي هنا، أنت مثل ابنتي».
أما شقيقها محمد أحمد حمزة فكان يذهب منذ بداية العدوان إلى مستشفى غندور، حيث توجد عشرات العائلات النازحة من بيوتها، ويعود متأخراً، فيما ينام شقيقه محمود هناك. «في تلك الليلة عاد محمد باكراً وكنت أشكو من آلام في ضرس العقل، ولكي أخفف عني رحت أكثر من الكلام، فعلّق محمد: «إذا الحكي بيخفف وجعك احكي».
أما نزيهة فكانت قالت لابنتها شيرين ردّاً على رؤيتها لثلاثة أيام متتالية ملاك الموت يخيّم فوق البيت: «إنك تتوهمين، اتلي آيات من القرآن». وحين بدّل محمد غرفته، تمنّت عليه الوالدة أن يعود إليها، فأجابها: «هون أبرد، في هوا». حضر محمود هو ورفيقه إلى البيت، فطلبت من ابنتها «أن تكسب ثواباً وتطعم الشابين». ثم دعتهما الوالدة إلى النوم في البيت بدلاً من الذهاب ليلاً إلى المستشفى فرفضا، وأصرّ محمد على الأمر «عادت أمي عن كلامها وقالت لهما: أحسن لكما المبيت في المستشفى، هناك أكثر أمناً ولن تضربه الطائرات».
ودّع محمود والدته. نام الجميع. بعد الساعة الواحدة فجراً، نهضت شيرين وحاولت الانتقال نحو الخارج حيث مرحاض البيت. طلبت منها الوالدة التريّث قليلاً «حتى تهدأ حركة الطائرات الكثيفة فوق المنطقة». حاولت مغادرة فراشها «لكن شيئاً ما ألصقني به، ربما غبت عن الوعي، استفقت لأسمع والدتي تصرخ. كان أبي يردّد «لا تناموا حتى لا تغيبوا عن الوعي»، وأمي تدعو «يا رسول الله ساعد أولادي». الحرارة تحتي لا توصف. حاولت القيام لكنني شعرت بأنني مطمورة، شعرت بوجود مياه في فمي، كان دماً. يدي حارّة بدأت أحفر بها لعلّي أصل إلى أبي الذي كان يجاورني في الفراش، في البداية كنت أسمع صوته قربي إلا أن أنفاسه راحت تتلاشى شيئاً فشيئاً وشعرت بأنه يكاد يختنق، وهو لا يردد غير عبارة «يا الله». كنت أشعر بأن أمي تسمعني، لكن من صراخها علمت أنها لا تسمع. أما ما حماني من الردم المباشر فهو أن الكنبة وفراشي شكلا فاصلاً بيني وبين الردم. ناديت أبي مجدداً، فسمعته يتلو الشهادة ثم سكت، وكذلك كانت تفعل والدتي».
تتذكر شيرين أن والدتها بكت كثيراً يوم استشهاد ليال نجيب، وردّدت أكثر من مرة «يا حرام». سمعت شيرين أصواتاً في الخارج، صفارات سيارات الإسعاف بدأت تقترب من المكان. يسكت كل شيء، يغادر الصوت وسيارات الإسعاف لتعود بعد نحو ساعة. قلت: «يا الله لا تعذبني أكثر من ذلك، يكفي هذا، أعطني يا الله بعض القوة لأساعد أهلي. شعرت بأن أحدهم دخل إلى المكان: هل من أحد هنا؟ إنه صوت محمد حدرج وشقيقه مازن، جيراننا. قلت: أنا هنا. هذه أنت يا شيرين؟ يدي التي كنت أبحث بها عن أبي، خرجت إلى الهواء. سألني المسعفون: رأسك إلى أي جهة، قلت لجهة الباب، اقترب صوت الطائرات مجدداً، شعرت بأنهما سيغادران، صرخت لا تتركوني، أكاد أموت، والهواء ينقطع عني، فأزالوا الردم عني».
حين كُشف وجه شيرين، رأت المنقذين يلفون جثة شقيقها محمد «وضعوها على طاولة فسقطت، سألت أحدهم: هل مات؟ فردّ: توكلي على الله». كانت شيرين تشعر بآلام في قدمها، وأذنها، وعندما وُضعت على الحمّالة طلبت من محمد حدرج أن يتنبه «فهو يقف فوق الحجارة حيث أمي، يصل الشيخ عادل نادر، وسألني هل من أحياء في الداخل، فأجبت: كل أهلي».
في مستشفى غندور، في النبطية الفوقا، طلبت شيرين رؤية شقيقها محمود «لم يعد لي غيره هنا. عندما جاء حاول تهدئتي وقال: أنا رأيت أبي ووالدتي وشقيقي محمد، كلهم ما زالوا أحياءً. وغادر بعدها إلى كفررمان حيث تقيم أختي رلى».
لم تعرف رلى بما جرى لوالديها وشقيقها وشقيقتها إلا عند الصباح «بعدما أخبرها محمود وأكدّ لها أن أهلي راحوا كلهم ولم يبق منهم غيري». في ذلك الوقت كان المسعفون قد سحبوا جثة والدها ولا يزالون يبحثون عن جثة الوالدة.
تعتبر شيرين أن والديها، على عكس شقيقها، ماتا اختناقاً تحت الردم، كان يمكن المسعفين لو وصلوا باكراً إنقاذهما، لكن «الله يرحمهم، إنهم شهداء». وقد شُيّعوا بعد ثلاثة أيام في جبانة البلدة، بمشاركة حشد من أبنائها.
لم ينل الناجيان من مجزرة النبطية الفوقا، شيرين ومحمود، تعويضاً عن المنزل الذي كان والدهما يستأجره في النبطية الفوقا من أقارب الزوجة، «مبالغ التعويض كلها راحت لصاحب البيت، ولم ننل قرشاً واحداً حتى عن أغراضنا وأثاث البيت الذي كان، ولم نُخرج منه غير الأوراق التي جهزتها أمي تحسّباً للرحيل وهناك من شاركنا في التعويض الوحيد الذي تلقيناه عن والدتي الشهيدة، لأنها لبنانية، أما والدي وشقيقي فلا تعويض يشملهما».
اليوم، تسكن شيرين ومحمود عند شقيقتهما وزوجها في كفررمان. تتابع شيرين تخصّصها الجامعي في «غرافيك ديزاين» في جامعة خاصة في النبطية، وتتولى مؤسسة «جهاد البناء» تكاليف الجامعة والدراسة، «فوالدي لم يحرمنا شيئاً على رغم أحواله المادية المتواضعة. خلال امتحانات شهادة البكالوريا قال لي: انجحي، ولن أبخل عليك في الجامعة، حتى لو اضطررت إلى أن أشحد، النتيجة صدرت ولم نفرح بها كثيراً بسبب العدوان، ليت والدي كان موجوداً ليرى أنني أتابع دراستي في الجامعة».
دمار خلّفته واحدة من الغارات على النبطية
(أرشيف ــ كامل جابر)
تعليقات: