مقاومون خلال التدريب (صورة خاصة بـ «الأخبار»)
علاء وسراج، شابان مقاومان من بلدة محيبيب التي شهدت مواجهات قاسية بين القوات الإسرائيلية والمقاومة. صمدا في البلدة ودافعا عنها مع مجموعات أخرى، سقط عدد من رفاقهما شهداء فيما أصيبا هما بجراح بالغة من دون أن يعرف أحدهما شيئاً عن الآخر. هما اليوم يتماثلان للشفاء، ويرويان قصة مواجهات بطولية ردّت العدو على أعقابه بعدما كبّدته بحسب اعترافه 52 إصابة بين قتيل وجريح
كانت الساعة تقترب من الرابعة فجر الأربعاء 2 آب 2006 عندما تسلّلت قوة إسرائيلية ضخمة تعدّ بمئات الجنود إلى بلدة محيبيب.
المجموعات المقاومة موزّعة في نواحي القرية وعند الحرش. كان علاء مع مجموعة من رفاقه المقاومين داخل أحد المنازل يتناوبون الحراسة تحسّباً لأي طارئ. تلك الليلة «حصل تشويش على موجات الإرسال في الأجهزة اللاسلكية وترافق ذلك مع قصف عنيف على أطراف البلدة منذ ساعات المساء الأولى» يروي علاء الذي كانت نوبته في الحراسة مع زميل له.
يستعيد بدقة ما جرى تلك الليلة: «قال لي زميلي إنه يسمع كلاماً في الخارج. ما هي إلا لحظات حتى رأينا مقبض (مسكة) الباب الخارجي يتحرّك. لم يكن هذا إلا جندياً إسرائيلياً حاول فتح الباب فلم يستطع. عاد الجندي إلى الوراء. سمعناه يقول «أوكي» ثم انفجر الباب. تراجعنا إلى الغرف الداخلية للمنزل واتخذنا مواقع قتالية ثم فتحنا النار على الجنود. لم يدم الاشتباك طويلاً، فبعدما سقط بين صفوف الإسرائيليين عدد من القتلى والجرحى تراجعوا إلى منزل مجاور وتحصّنوا فيه. أصيب جهاد الغربية (الشهيد إبراهيم خلف) فنقلناه إلى مكان آمن نوعاً ما بعدما انسحبنا من المنزل. صار الإسرائيليون يرمون علينا فذهب كلّ منا في اتجاه. بعدما استعاد «جهاد الغربية» شيئاً من قوته، حاول الالتفاف على الصهاينة ومباغتتهم فاصطدم مع مجموعة إسرائيلية أخرى وصلت إلى المكان لمساندة القوة الأولى (بعد اكتشاف أمرها) فاشتبك مع عشرات الجنود واستشهد».
وصل علاء إلى أحد المنازل حيث أدرك أنه أصيب أيضاً. كان جرحه قد بدأ يبرد، ثم لم يعد يستطيع تحريك قدميه فلزم مكانه. في اليوم التالي، وبعدما كان ورفاقه يظنون أن مجزرة ارتكبت بحق المدنيين الصامدين في البلدة نظراً إلى كثافة الغارات التي تعرّضت لها البلدة، فوجئوا بأحد الشباب يبلغهم أن الأهالي بخير وهم يتحضرون للذهاب إلى بلدة ميس الجبل المجاورة (تم ذلك بالتنسيق مع قوات الطوارئ).
طلب علاء من زميله أن يذهب إلى الضيعة ويستطلع الأمر «لما ابتعد عني قليلاً سمعت رمايات رشاشة قريبة، فظننت أنه استشهد. شعرت أنا بدوري أني سأستشهد عاجلاً أو آجلاً».
بقي علاء في الطابق السفلي من المنزل مع قنينة ماء فقط جلبها له الزميل قبل أن يغادر (تبيّن لاحقاً أنه لم يصب بسوء). تحامل على جراحه ودخل المنزل، أزال آثار الدماء والغبار عن جسده، غسل جروحه بالماء الذي كان معه وعندما رغب في الشرب انقطعت مياه الخزان.
«لزمت المنزل لا أعرف شيئاً عن أحد ولا أستطيع التنقل نظراً إلى إصابتي. آكل قليلاً من البرغل مع شربة ماء جلبتها من البئر المنزلي، وأتحلّى بملعقة مربى لكي أحافظ على قوتي فقط». في هذه الأثناء كانت القرية تُستهدف بالصواريخ الموجهة من وقت لآخر وتُسمع أصوات رمايات متقطعة داخل البلدة.
استمرّ الوضع على هذه الحال نحو 10 أيام، صار علاء في وضع يسمح له بالسير على قدم واحدة. «خرجت من المنزل، توجهت إلى الحرش في خراج محيبيب وقضيت ليلتي هناك». في اليوم التالي اشتد القصف بشكل عنيف ومركّز مع تحليق كثيف لطائرات الاستطلاع. «بتّ ليلتي الثانية في الحرش. صباح اليوم الثالث، عند العاشرة صباحاً، خرجت من الحرش. كان الجو هادئاً وتوقف القصف بشكل كامل. اقتربت من المنازل فوجدت عدداً منها مدمراً وقد تغيرت معالم وسط الضيعة بشكل كامل بعدما جرف العدو المنازل والأشجار وأقام سواتر ترابية لتتمركز آلياته».
عند الغروب توجه علاء الى نقطة البداية، أي المنزل الذي اشتبكوا فيه مع الجنود الصهاينة. على إحدى النوافذ وضع الجنود كيساً من القمح (شوال). «دفعت الكيس فتبيّن أنه مفخخ بقنبلة يدوية انفجرت على الفور، بعد عندي عمر وبدي عيش»، يعلّق مازحاً. راح يبحث في كل الاتجاهات في القرية عن أحد ما لكن القرية كانت شبه خالية تماماً، حتى الإسرائيليون كانوا قد أخلوا البلدة. «وجدت راديو، حاولت تشغيله لأعلم ما الذي يجري، فلم أفلح».
في صباح اليوم التالي بدأ يتوافد إلى القرية شباب من القرى المجاورة، «ففوجئوا بأني لا أزال على قيد الحياة وقد كانوا متيقنين من استشهادي نظراً إلى إصابتي ووجودي بين الاسرائيليين».
لم يكن علاء أيضاً يعلم ماذا حلّ بالشباب الآخرين «كلّ منا كان يظن أن الآخر استشهد» بعدما انقطعت كل وسائل الاتصال.
سراج، أحد أقارب علاء، كان في عداد المجموعة المساندة للمجموعة التي اشتبكت مع قوات العدو. أطلقت الأولى نيران أسلحتها المختلفة تجاه النقاط التي تجمّع فيها العدو بعدما حُدّد مكانها. يروي سراج «كان الهدف مساندة الرفاق المشتبكين مع العدو وكذلك إلهاء القوات المتقدمة وإرباك تحركها وكشف أماكن انتشارها». استشهد في هذه المواجهة خليل جابر، من أبناء محيبيب، وعندما حاول فرج الله جابر (من محيبيب أيضاً) الالتفاف على إحدى المجموعات المعادية، كشفته طائرة MK فعاجلته بصاروخ حارق.
أطلق سراج على الغزاة قذيفتي ب7، وانتقل إلى نقطة أخرى. كان يهمّ، منحنياًَ، بتجهيز القذيفة الثالثة (كان بقربه الشهيد فرج الله يساعده قبل أن يستشهد) فتلقى رصاصة في أعلى ظهره ناحية الكتف «نقلني الشباب إلى مكان كانت فيه مجموعة من الأخوات، تتولى إسعاف المقاتلين وتضميد جراحهم».
حدث هذا بسرعة كبيرة، وتحولّت محيبيب فجأة إلى ساحة حرب حقيقية. مئات الجنود الصهاينة انتشروا في البلدة، وتصدّى لهم بضعة مقاتلين. دويّ انفجارت يتوالى، اشتباك والتحام. صرخات جنود العدو تملأ الأرجاء. جرحى، شهداء، مسعفون، أو بالأحرى مسعفات أثبتن جدارة في المهمة التي وجدن أنفسهن أمامها من دون أيّ مقدمات وكان بينهنّ شقيقة الشهيد خليل جابر (أول شهداء المواجهة) ولم يثنها ما حل بأخيها عن عملها.
لم يقتصر عمل «فريق المسعفات» على تضميد الجروح، بل عملن أيضاً على سحب الجرحى من أرض المواجهة ونقلهم إلى أماكن آمنة. إحداهن (أصيب شقيقها في المواجهات) رفضت الذهاب مع ذويها الذين حضروا لاصطحابها يوم الهدنة واختارت البقاء على رغم أن محيبيب كانت محاصرة، والانسحابها منها لاحقاً صعب جداً، إضافة إلى افتقارها إلى مقومات الصمود في ظل فقدان المواد الغذائية والأدوية وغيرها.
كان سراج فخوراً، بارتباك، أمام صلابة فتيات قريته. شاب في مقتبل العمر، نذر نفسه للدفاع عن أرضه وأهله، لكنه الآن جريح يتلقى العناية ممن يفترض بهن أن يرعى شؤونهن. لم يمض أكثر من ربع ساعة حتى أصيب «مهتدي» (من مجموعة الإسناد أيضاً). أُحضر إلى المكان نفسه الذي يُعالج فيه «سراج». كان مصاباً في رأسه ورجله إصابات بالغة. يقول سراج إن الشهيد مهتدي، بعدما ضمّدت المسعفة جروحه، أصرّ على أن نغادر المكان حفاظاً على المدنيين وهكذا كان. «خرجنا من المنزل، اشتبكنا مع الجنود الاسرائيليين على رغم جراحنا، ولجأنا إلى أحد المنازل للراحة بعدما أخذ التعب منا مأخذه، إلا أن الصهاينة اكتشفوا أمرنا فرموا علينا قنبلة. بُترت ساق «مهتدي» ولم أستطع أن أساعده بشيء على رغم أنه كان قريباً مني. كان وضع إصابتي يتفاقم أكثر حتى إنني لم أعد أقوى على النهوض. صرنا، أنا وهو، نطلب الماء. أحسسنا بعطش شديد لأننا نزفنا كثيراً. حاولنا إيصال صوتنا للأخوات الموجودات في منزل قريب إلا أن الأمر اختلط عليهن مع أصوات جرحى الصهاينة التي كانت تسمع في أرجاء القرية طوال ساعات المواجهة.
ظل «مهتدي» (الشهيد علاء ياسين من بلدة حولا المجاورة) ينزف مدة نصف ساعة ثم بدأ صوته يخفت. سمعه سراج يناجي الله ويخاطب أولياءه الصالحين «ثم لم أعد أسمع صوته، تحاملت على نفسي واقتربت منه، حرّكته، فلم تصدر عنه أية إشارة حياة. هكذا استشهد «مهتدي».
يقول سراج «كان أنينه كأنه نعيٌ له ولي. أحسست أنني سألتحق به. كان الوقت يقترب من الظهيرة، لم يبقَ أمامي إلا الانبطاح على الأرض والزحف تجاه الباب. فتحت باب المنزل، فلمحتني إحدى الأخوات. أسرعت نحوي، طلبت منها أن تتوجه إلى «مهتدي» عساه يكون حياً، ففعلت لكنه كان قد فارق الحياة». عملت «أخت الرجال» على سحب سراج إلى منزل آخر. وتولّت تضميد جروحه بمشاركة أخرى. ثم غادرتا إلى جهة أخرى من الضيعة للاهتمام بجرحى آخرين.
عند العصر عادت المسعفة مع الأخت الأخرى لمعاينة سراج. لم يكن تحركهما سهلاً بعدما تمركز الاسرائيليون في الطبقات العليا لعدد من المنازل وراحوا يقنصون على الضيعة ويستهدفون أي تحرك. «أعطتني المسعفة دواء مسكّناً وطلبت مني البقاء في مكاني. صباح اليوم التالي لم يأتِ أحد. انتظرت حتى العصر من دون جدوى. مرّت أربعة أيام وأنا على هذه الحال. لا أستطيع النهوض مطلقاً ومن دون طعام، فقط قليل من الماء وبضع كسرات يابسة من الخبز. كنت أسمع دائماً أصوات رصاص وانفجارات (كان الصهاينة يمشطون محيط أماكن وجودهم) فيخيّل إليّ أن اليهود يصفّون المدنيين، ولذا لم يأتِ أحد إليّ. في اليوم الرابع سمعت حركة في محيط المنزل. أحسست أنهم سيأسرونني. لم يكن أمامي إلا احتمالان، إما الأسر أو الشهادة. وصل الجنود الصهاينة إلى مسافة قريبة من المنزل، أطلقوا بضع رميات رشاشة ثم غادروا المكان من دون أن يقتربوا من المنزل».
بعد أربعة أيام، عند الساعة الثانية ظهراً سمع سراج وقع أقدام في باحة المنزل. ظنّ أن الإسرائيليين اكتشفوا أمره فجاؤوا لقتله أو أسره، لكن تبيّن أنها إحدى فتيات القرية وقد حضرت برفقة أحد كبار السن. «أعلماني أن هناك من سينقلني إلى ميس الجبل المجاورة. طلبت منهما أن نحضر جثة الشهيد مهتدي وسلاحه، إلا أنهما أبلغاني أن لا مجال لذلك أبداً. وضعوني في سيارة وانطلقنا في موكب (بالتنسيق مع قوات الطوارئ) إلى ميس الجبل المجاورة».
في ميس أيضاً، بقيت أخت الشهيد فرج الله جابر، وهي ممرضة، تداوي الجرحى وأبلغت الشباب بضرورة نقل الجرحى إلى المستشفى لأن وضعهم سيئ. لم يكن هذا أمراً هيّناً. استمرّت المحاولات لثلاثة أيام حتى تجاوز أحد المواطنين بسيارته خط شقرا ـــــ صفد البطيخ وصولاً إلى مستشفى تبنين ومن ثم جبل عامل وأخيراً مستشفى بيروت الحكومي حاملاً معه ثلاثة جرحى بينهم «سراج» الذي أُخضع لعدة جراحات وشفي من جروحه بشكل كبير.
غنائم حرب معروضة في الضاحية (وائل اللادقي)
أطفال من بلدة محيبيب تحت لافتة لصور شهداء المقاومة
تعليقات: