أبو حسين علي عبد الحسن مهدي
المشهد الأول:
ترددتُ كثيراً قبل أن أسألها من هي.. من تكون!
أريد أن أعرف عنها أيُّ شيء، وفي كلُّ مرة حاولتُ أن أستوقفها، لكنّ الخوف كان أكبر منّي. وفجأة تغيّر كلّ شيء ووقفتُ في دربها وجهاً لوجه، وقلتُ لها :
* من انت؟
* أجابتني: عمّا تسأل؟
* قلتُ لها مرةً ثانية: أنت من تكونين؟
* قالت لي وبإبتسامة مجنونة: أنا لستُ أنا.
* إذاً مَن؟
* قالت: لا أعلم، كلُ ما أعرفه أنّي أنا لستُ أنا.
وضحكت بأعلى صوتها.
فجأة ملأ الدمعُ عينيها وتبع هذا الدمع بكاءً، ثمّ صمتت.
أخذتني الحيرة، وتعلّقتُ بها أكثر ولم أنفك أسألها... وبرعشة خوفٍ أصبحتُ أخاف من جنونها: ما الذي يضحكك؟
وما الذي يبكيكِ؟
بربك قولي لي مًن تكونين، مَن تكونين؟..
وللمرة الألف عدتُ وكررت هذا، ثمّ ضحكت وبأعلى صوتها ضحكة لم أعتد أن سمعتها من أحد، وكأنها صدى صوتٍ آتٍ من الزمن، من الماضي السحيق.
* أتريد أن تعرف من أنا؟.
* قلت: أجل.
وبفرحة ما بعدها فرحة، علّني أصل الى هذا اللغز. قالت انا هو: قلتُ لها : من يكون هذا الهو؟
* قالت: لم يَحُن الوقت بعد كي تعرف.
وتعلّقتُ بها أكثر فأكثر. وهنا كَبُرَ اللغز وضعت في دهاليز سرّها المظلم.
ونظرَت لي وكأنّ في وجهها ألفُ عينٍ، وفي كلُ عينٍ ألفُ دمعة حزنٍ. وبصوتٍ مرتعشٍ: هل لي أن أنصرف؟
* قلتُ لها: الى أين؟
* قالت لا تخَف، سوف أراك غداً.
وأُصبتُ بشيء من جنونها صارخاً وبأعلى صوتي: لا لن تذهبي، لن تذهبي، سوف تَبقين معي، لن أتركك تنصرفين في هذا الوقت المتأخّر، فالليل في منتصفه والطّريق غير آمن، الا تخشينَ الظلام، ألا تخافينَ من الموت؟
ومرة ثانية عادت الى جنونها وبصوتٍ مرتجف قالت لي: أنتَ مَن؟.
لكن هذه المرة كانت جادّة في الرّحيل، وإبتعدَت عنّي دون أن تلتفت لي.
وفي وسط هذه العتمة السوداء إختفت ورحلت ورحل معها ذاك اللغز العميق.
..
المشهد الثاني
وتمرُّ أيام وشهور إذ أفاجأ بها ثانية تمرُّ وبنفس الطريق، لكن هذه المرة كانت هادئة؛ سألت نفسي، هل أقف أمامها كما كنت أفعل في الماضي؟
هل أتغلّب على خوفي؟ وأستنفر شجاعتي ومن غير أي تردد، وأعيد لها السؤال نفسه الذي كنت قد طرحته عليها سابقاً.
من أنت ومن تكونين؟
وها هي الآن مقبلة نحوي وبخطى ثابتة وقد أصبحنا معاً وجهاً لوجه إبتسمت وبادرتني بكلام هادىء: هو أنت ثانية؟!
قلت أجل أنا الذي سألتك عن إسمك ومن تكونين.
نعم أذكر ذلك جيداً وما الذي تريده الآن؟ هل تريد معرفة إسمي الحقيقي؟
أجل
أنا إسمي حياة.
قلت لها أهو لغز أم ماذا وما تغيّر؟
قالت تريد ان تعرف سبب هذا اللغز وشيء عن قصتي؟
أجل وهنا تبدأ القصة.
إذاً لنعد سنين الى الوراء، عندما كنت أبلغ من العمر عشرون عاماً، وعلى شيء من الجمال وبثقافة مقبولة.
كنت أذهب الى المدرسة سيراً على الأقدام، عندما شاهدته أوّل مرة كان يسير بخطى سريعة، بادياً عليه شيء من الإرتباك، ولكن بالنسبة لي كان شيئاً عادياً.
ويتكرر المشهد ولأيام عدة وأصبحت أرتاح لرؤيته، وعلى غير عادة إنتظر قدومي، وما إن وصلت الى حيث كان يقف إقترب مني وكأنّه أراد أن يقطع الطريق أمامي وبإبتسامة فيها شيء من الخجل، قال لي صباح الخير يا... وقبل أن يكمل؛ قلت إسمي حياة، فردّ وأنا وسيم ضابط في الجيش.
وتابع كلٌ منّا طريقه لكن هذا لم يكن كلّ شيء، وتكرر اللقاء وزاد شوقي لرؤيته، وبدأ حبي له يغزو قلبي وعقلي، وكان لي أوّل لقاء معه وأخذ منّا بعض الوقت تحدثنا في كلّ شيء، عن الحب والحياة والجمال.
وإتفقنا على تكرار هذا اللقاء الذي أصبح شبه يومي، وقد دخل الحب بقوة ليضع حداً لهذه اللقاءات.
..
المشهد الثالث:
وتكلل بالزواج وعشنا حياة سعيدة لم تدم طويلاً، وتغير كلُّ شيء الى الأسوأ إذ نشبت حرباً بين بلدنا وبلدٍ آخر، وكان وسيم من ضمن الفرقة التي أسندت إليها مواجهة الطرف الآخر في حرب لم تدم طويلاً.
وكنت أسناء هذا الحدث المفاجىء لي ولزوجي وسيم حامل في الأشهر الأولى.
ووضعت الحرب أوزارها وعاد الجيش الى ثكناته مع ما يحمل معه من قتلى وجرحى وبعض الأسرى.
وعلًقت أسماء هؤلاء على يافطة عند مدخل المعسكر، فأصبت بخيبة أمل وبخوف شديد لأن إسم وسيم لم يكن وارداً على هذه اللائحة.
سواءٌ لجهة القتلى أو الجرحى أو الأسرى وحتى مع من عاد سالماً وإزداد خوفي عليه.
إتصلت بأعلى المراجع القيادية بما فيهم قيادة الجيش علّني أصل الى أي إشارة تدلني عن وجود وسيم، حتى الآن لم يُعرف عنه أيُ شيء، بما فيهم قيادة الفرقة التي قاتل معها.
وكان لهذا الحدث وقعاً مدمراً كان أكبر من أن أتقبله أوأتحمله وأصبح وضعي الصحي يسوء كوني أصبحت في مرحلة متقدمة من الحمل.
ولم يطل الوقت كثيراً حتى عادت الحياة بين البلدين الى وضعها السابق.
وذهبت الى البلد الآخر باحثة عنه في كل مكان سواء لناحية السجون أو الى بعض المشافي.
حتى الآن ليس هناك أي بصيص أمل كي أعرف عنه أي شيء، وقررت العودة الى بلدي وإستقليت أوّل سيارة أجرة وكنت في حالة من الإرهاق الشديد يصعب أن اتحمله، لكن القدر لعب دوراً كبيراً في حل هذا اللغز.
أي لغز إختفاء زوجي وسيم، وإذ بأحدهم في السيارة يحادث الآخر الذي كان بجابنه عن قصة جندي أصيب في الحرب التي نشبت بيننا وبين الطرف الآخر.
حيث عُثر عليه مصاباً نازفاً الكثير من دمه، فاقداً وعيه، ونقل بطائرة الى أحد المشافي كي يعالج، فكان أحدهم طبيب من ضمن الفريق الطبي الذي أشرف على علاجه.
أمّا أنا فكنت أستمع الى هذا الحديث بشغف وبكل إهتمام مما جعلني أشارك بالحديث مع هذا الطبيب الذي عالج ذاك الجندي، ووجهت إليه سؤالاً:
سيدي الطبيب هل تعلم أيُّ شيء عن هذا الجندي الذي تتحث عنه؟
أجابني ومن غير تردد: كلُّ ما عرفته عنه بعد أن إستعاد شيء من صحته وذاكرته.
- سيدتي على ما أشكر إسمه وسيم.
..
المشهد الرابع:
وهنا أُصبت بإنهيار تام لأجد نفسي في اليوم الثاني في المشفى وبجانبي ذاك الرجل الكريم الذي لم يفارقني حتى عُدت الى كامل عافيتي.
ولم أعلم كيف إرتميت بين قدميه مستعطفة إيّاه بعد أن قبّلت يده وكدت ان أغرق بدموعي، التي إنهمرت من أعيني كي يخبرني عن المكان الذي يعالج به.
وهنا الطبيب رأى من العجب هذا الإهتمام الزائد بوسيم ليسألني من يكون لك هذا يا سيدتي؟
أجبته: إنّه زوجي.
أرجوك أن تأخذني الى حيث يعالج، أجابني لكن الوصول إليه فيه شيء من المشقة لبعد المسافة.
وعدت ثانية وإرتميت على قدميه وأخذت أقبلها، ونظر لي مخاطباً إيّاي: إهدأي قليلاً....
لا تقلقي سوف آخذك الى حيث يُعالج، وذهبنا معاً الى محطة القطارات وإستقلّينا أوّل قطار متجه نحو المدينة التي يعالج وسيم بإحدى مشافيها.
وبعد مشقة لم تدم طويلاً وأنا بغاية الشوق ولم اشعر بطول المسافة فكلّ ما كنت أطمح إليه مشاهدة وسيم وهو معافى.
هذه كانت رغبتي وأخيراً وصلنا الى مركز المدينة، لنستقل سيارة أجرة لتوصلنا الى المشفى الذي كان يخضع للقيادة العسكرية.
وعلى باب المعسكر واجهنا أحد الحراس بسؤاله:
من الذي تريدون رؤيته وهنا تدخل الطبيب كونه عسكرياً ويعالج في هذا المشفى وسمح لنا بالدخول.
وذهبنا مباشرة الى الغرفة التي يعالج فيها وسيم، وفوجئنا عندما سألتنا الممرضة عن إسمي وعن إسم المريض الذي نريد مشاهدته.
أجبتها: سيدتي أنا إسمي حياة وزوجي إسمه وسيم، فشهقت الممرضة وقالت:
- أيكون هو زوجك؟
أجل يا سيدتي، لقد كان ينطق إسم حياة دائماً ولا ايُّ شيءٍ سوى هذه الكلمة.
كلّما سمحت له ظروفه الصحية بذلك، أو ربما هذا ما كان عالقاً بذاكرته.
وسُمح لنا بالدخول، وإذ أنا وهو وجهاً لوجه وإرتميت على صدره وإحتضنته، وإنهمرت الدموع من أعيني، وأخذت أقبله بجنون إذ إنّه كان غائباً عن الوعي.
وكأنً الدمع الذي إنهمر كالمطر على وجهه سمح له أن يفتح عينيه وكان آخر ما فعله مع كلمة نطق بها زوجتي حياة، وأغمض عينيه وفارق الحياة، وأنا لم أزل أحتضنه وأقبله.
وعدت الى بلدي، ولم يمر سوى أيام قليلة حتى وضعت مولوداً ذكراً أسميته وسيم، على إسم زوجي الذي مات لكنّ حبي له لن يموت أبداً، كوني كنت بأيام حملي الأخيرة.
هذه هي قصتي يا عزيزي وبإحدى المراحل الصعبة التي عشتها وزوجي غائب عني لم أعد أذكر إسمي وكلً ما أعرفه إنّي أنا هو أي زوجي الذي لا يمكن لي ان انساه ابداً.
تعليقات: