الوزير السابق جورج قرم
في الظلام الداكن الذي يلف الساحة اللبنانية قليلة هي المصابيح التي تضيء حولها وتعطي بعض النور والأمل في إيجاد الطريق إلى الخروج من السجون التي تأسر اللبنانيين. أسماء السجون عديدة: سجن الطائفية المجنونة، سجن النرجسية الشخصية، سجن المذهبية، سجن الإفساد والفساد، سجن الفقر والتهميش، سجن انفصام الشخصية واللسان، سجن الأنانية وانعدام الأخلاق العامة والخاصة، سجن تجّار الوطن والطوائف، سجن التماهي مع مصالح الدول الكبرى.
في هذا الظلام نجد أشخاصاً عرفوا رغم كل العوائق، كيف يخدمون مجتمعهم عبر تجاربهم الغنية وعبر محبتهم للآخر وتفانيهم في تخفيف آلام الناس النفسية والجسدية. أشخاص، ان التقيت بهم، تعُد وتتنشق هواء طلقاً وليس هواء «السجون» العفن والكريه. أشخاص يعيدون إليك معنى الحياة وجمالها، حتى في أحلك الظروف. فهم الذين لم يفقدوا يوماً الأمل، هم الذين بقوا ناشطين في المعترك، ساعين إلى خدمة الإنسان في كل الظـروف والمناسبات، وكذلك بقوا ساعين في هبط السجون وتحرير من فيها.
ان حياة كامل مهنا لهي نموذجية، يمكن لكل لبناني ان يستلهم منها مواقف الجرأة والمروءة والأخلاق والمُثل العليا التي يا ليت يعتمدها اللبنانيون للخروج من ضياعهم ويأسهم وأنانيتهم، كي ينكبّوا على العمل من أجــل المصلحة العامة والانفـتاح الانسانوي على الآخر بغية إزالة العجرفة والأنانية والنرجسية والشعور بالخصوصية الهويتية المتقوقعة او التعالي العنصري الطابع او المادي، وأحيانا الاثنين معاً.
وقد أهدانا كامل مهنا أجمل هدية عندما قبِل، نزولاً عند إلحاح أصدقائه برواية سيرته الذاتية، من طفولته إلى يومنا هذا، وهي من أروع كتب السيرة الذاتية بتحرير رائع من شوقي رافع ومراجعة وتقديم ابراهيم بيضون.
فهذا هو كتاب «ملحمة الخيارات الصعبة» بشكل سرد ملـهم ليوميات كامل مهـــنا: «رحلة جهاد» كتب أحدهم عن هذه السيرة، «سيرة طبيب منـــاضل» كتب آخر عنها، «حياة زاخرة مدججة بأحــلام الــثورات المغدورة». كتب ثالث عن هذه السيرة الــذاتية، كمــا تم وصفها «من الرومانسية الثورية إلى المجتمع المدني».
مشوار آلام
والحقيقة ان هذا الكتاب هو كل ما وصف به حسب عناوين الصحافة حيث تم استعراض محتوى وأهمية الكتاب لكنه هو أيضا أكثر من ذلك كله. هو مشوار انسانوي طويل عبر آلام عقود من الزمن منذ الحرب العالمية الثانية وعلى جميع المستويات: مستوى البلدة الأنيقة الجميلة التي نشأ فيها في جنوب لبنان، ثم على مستوى فرنسا ونضال الطلاب العرب فيها لتأمين حرية أوطانهم المختلفة وكرامتها والدفاع عن فلسطين، ثم في جبال ظفار النائية الوعرة في جنوب جزيرة العرب، ثم في سراديب النبعة والكارنتينا المعرّضة لقصف وحشي خلال الحرب اللبنانية وهي تستقبل المصابين من مخيم تل الزعتر.
والغريب في الأمر، اننا طوال قراءتنا الكتاب، ورغم بعض الأحداث المروية المروعة أو ذات الغرابة كما في ظفار، لا يشعر القارئ إلا بالراحة والاطمئنان. ذلك انه يشعر بدفء الأشعة البيضاء الناصعة التي تحيط بصلابة البطل الذي لا يفقد أعصابه ولا يتعب ولا يخاف ولا يتردد، فهو يستنفر كل قدراته المعنوية والجسدية والأخلاقية للبقاء وفياً لتنفيذ رسالته على أكمل وجه في أهلك الظروف. تكاد تراه أمامك، وهو في جبال ظفار أو أعالي كفرشوبا أو تحت القصف المدفعي في النبعة، وابتسامته المطمئنة لا تفارقه، لأن هذا الرجل مؤمن برسالة محبة الآخر، والتــضحية بالــذات من أجل خدمة الإنسان، بكل الظروف وبشكل خاص الظــروف الصعبة ذات المخاطر على حياة هذا الإنسان ـ مهــما كان لونه ودينه وعقيدته ـ الذي كرّس كامل مهنا حياته له.
طبيب انسانوي بكل معنى الكلمة، لكن وفي الوقت ذاته طبيب سياسي بامتياز. والامتياز هنا يعني الفكر السياسي الراقي، النبيل، الفكر الساعي إلى التغيير نحو الأفضل، تغيير الإنسان وبالتالي المجتمع، وتغيير المجتمع وبالتالي الإنسان. وهو ليس طبيباً عقائدياً، يعمل حسب عقيدة معلبة، مبسطة، جاهزة للاستهلاك. لا! على عكس ذلك، فهو ان تأثر في أيام شبابه برياح ايديولوجيات ثورية وتقدمية الطابع، فلأنها كانت تحمل في طياتها قيم الانسانوية وهي محركه الأساسي، أي قيم تحرر الإنسان ابتداء من الجوع والفقر والمرض وانتهاء بالعلاقات السلطوية المستبدة، سواء كانت مبنية على بطريركية عشائرية او عائلية او مناطقية او على أوامر جائرة من ديكتاتور او رئيس ميليشيا او حركة مسلحة.
ضفتا المتوسط
لذلك بدأت رحلته باكراً برفض الخضوع إلى سلطة العائلات التقليدية في بلدته الجنوبية الجميلة، الخيام، لتستمر عبر كل مسيرته، سواء عبر مقاومته أجهزة المخابرات الفرنسية خلال أعوام دراسته في فرنسا، او خلال عمله كطبيب بعد ذلك في جنوب لبنان متحدياً القصف الإسرائيلي، او في ضاحية بيروت الشمالية التي كانت قد تحولت إلى جهنم من العنف. أما المشوار في جبال ظفار، وهو ربما من المراحل الأكثر شاعرية ورومانسية وعاطفية في حياة بطلنا كامل، فالقارئ ينتقل معه إلى هذه البقــعة النائية المنسية من العالم ويعيش فـيها إلى جانبه البطل كأنه مرافق له. يــرى ويفهم كيف بكلمات مختارة ودقـيقة وبتصرف في غاية من الدقة الهــادفة يتجاوز كامل كل العقبات في عمــله، وهو الذي أصبح يتفاعل ويتماهى مع الثوار الظفاريين وقضاياهم كي ينتمي إلى المحيط الجديد الذي ليس له جذور فيه. والقارئ يقع في حب هذه الامرأة الظفارية المقاتلة والصامتة التي ينجذب إليها ويحبها كــما أحبــها بــطل السيرة الذاتية، وتبقى أيضــاً عــند القارئ المرافق للبطل حــسرة في نفسه لان هذا الــحب لم يكتمل وقد بقيت شخصـية هــذه الامرأة غامضة وجميلة في آن معاً.
حياة صاخبة وهادئة في آن معاً عاشها كامل مهنا. صاخبة في الأحداث الجسيمة التي تميّزت بها كل مراحل حياته. وهادئة لأن الطبيب البطل يحافظ باستمرار على هدوئه وصفائه الذهني والنفسي. غير أن ما ان مالت حياته إلى الاستقرار ابتلى بفاجعة عائلية رهيبة بفقدان ابنه بشّار في حادثة حريق في نزل في منطقة الأرز، كأن القدر الملعون يكافئه بهذه المصيبة الشخصية على كل ما قدّم من خدمات وتضحيات لإنقاذ حياة الآخرين.
ومع ذلك بقي كامل مهنا على نشاطه دون أي وهن. فتوسعت شبكة مؤسسات عامل في خدمــة ابناء بلده وهو في ذلك يندرج في تقاليد العمل الاجتــماعي المــدني التطوعي الذي امتاز بها لبنان خاصة منذ عهد الرئيس فؤاد شهاب الذي أسس مصلحة الإنعاش الاجتماعي بالقيادة النيرة لجـــوزيف دوناتـــو وهو أيضاً في سياق توسع المؤسسات المدنية غير الطائفية على غرار الحركة الاجتماعية التي أسسها غريغوار حداد.
وقد أصبح كامل مهنا همزة وصل مهمة بين ضفتي المتوسط (لبنان وفرنسا)، واستطاع استقطاب العديد من المساعدات الاجتماعية الطابع من الضفة الأخرى، كما كان له دور غير مرئي في تغيير اتجاه السياسة الفرنسية تجاه لبنان بعد خروج الرئيس الفرنسي جاك شيراك من الحكم والذي كان منحازاً بشكل مطلق إلى فئة واحدة من اللبنانيين على حساب كل الفئات الأخرى.
أما اليوم وأمام الانتفاضات الشعبية التي تتحول إلى ثورات ديموقراطية في انحاء مختلفة من الوطن العربي، فهل يا ترى يستعيد بطل «ملحمة الخيارات الصعبة» ثورية المراحل الأولى من حياته؟ وهل سيدخل لبنان في فورة شعبية على غرار الثورات العربية الاخرى للقضاء على السجون المختلفة ـ التي ذكرناها في ما سبق ـ ولتحرير الإنسان اللبناني من كل أنواع القهر والظلم والطــائفية والمذهبية؟ مهما كانت التطورات المستقبلية فإن حياة كامل مهنا وعبرها يجب ان تبقى مرجعية معنوية وأخــلاقية لكل اللبــنانيين الساعين إلى تغيير أوضاع بلدهم من أجل تأمين كــرامة الإنسان اللبناني، وتحقيق طموحه في العــيش الكريم المتخلي عن الأمراض المزمنة التي نعاني منها.
تعليقات: