يقف على دبابة إسرائيلية في بنت جبيل (وائل اللادقي)
تحية وبعد،
نحن طلابك في السنة الأولى ــــــ ميكانيك صناعي وكهرباء في مهنية بنت جبيل التي تعرفها جيداً منذ عام 1996. إنه العام الذي دخلت فيه مجال التعليم بعد عودتك المفاجئة والنهائية إلى لبنان متخلياً عن أعلى المناصب في الكويت حيث نشأت، وفضّلت أن تعود وتفتح ورشة «خراطة» في بلدتك بنت جبيل.
نطمئنك إلى أننا أصبحنا في السنة الثانية. هل نسيت أننا تعلّمنا على يديك ودرسنا. لكننا نجحنا في غيابك وأنت مشغول عنّا بدروس أخرى علمنا لاحقاً أنك تلقّنها للعدو.
لن نقول لك كيف عدنا لمتابعة دروسنا مع بداية العام الدراسي المنتهي بعد عدوان تموز. عدنا إلى قرانا المرابضة على طول خط المواجهة، فيما لم تعد أنت ومعك 13 زميلاً لنا فضّلتهم علينا وأخذتهم معك وتركتنا هنا. كان علينا أن نجاهد في العلم أكثر كلما استقبلنا كل صباح وجهك الباسم وعيونك المطمئنة المستلقية في حديقة مدخل المهنية. كنا لدى دخولنا نطلب رضاك ولدى خروجنا نعدك بالأفضل. هل تعلم أن دروسك لا تزال تصدح في الصفوف وفي لوحة الحائط حيث يرتفع اسمك وخطب ومحاضرات كنت ألقيتها في مناسبات مختلفة في المهنية. لكنك حاضر أكثر في أحاديثنا، إذ لا ننفكّ نخبّر عنك الطلاب الجدد أو الذين لم ينعموا بفرصة التعلّم على يديك. لا يصدّقون أن مهندس الميكانيك الصناعي المتخصص بالمصانع يمكن أن يؤدي أدواراً مختلفة: معلّماً وهادياً وواعظاً وأخاً أكبر و... أشياء أخرى عرفناها لاحقاً.
هل تريد أن نحدّثك قليلاً عن أحبائك؟ شهيد وأمير مثلاً؟
ولداك لم يبكيا لفراقك، لقد ربّيتهما جيداً وسيسيران على دربك لا محال. وكيف لا يكملان نهجك وأنت رتّبت كل شيء في حياتهما لهذه النهاية. أتذكر عندما سمّيت ابنك البكر شهيد الذي ولد وأنت في معتقل الخيام في عام 1999؟ هل سمّيته ليناديه الناس «شهيد راني بزي»؟. لن نخبرك عن أمك وأبيك. إنك تراهما الآن من عندك. كيف يجلس والدك في غربته في الكويت حزيناً ومفتخراً ومشتاقاً لك، فيما تقوم والدتك وتقعد وتروح وتجيء وهي تبكي وتستذكر كلمات قلتها لها وتدرك الآن فقط ما كان قصدك منها. تستعيد قصتها معك منذ ولدتك حتى اخترت نهايتك، وخصوصاً عندما اقتادوها إلى معتقل الخيام وأهانوها وعذّبوها لأنها أمك. كان العملاء قبضوا عليك بـ«الجرم» المشهود وقد فخّخت منزل العائلة لينسف دوريات العدو وعملائه. فكّ الصليب الأحمر الدولي أسر والدتك بسبب تدهور حالتها الصحية، فيما انتظرت أنت يوم التحرير في 23 أيار 2000 لتحرّر.
أما بيتك المطل على بنت جبيل الذي أنجزته ولم تسكن فيه، فقد بقي على حاله منذ أقفلت بابه فجر 12 تموز وودّعت أهلك فرحاً ووعدتهم بالعودة باكراً فوعدوا أنفسهم بألا يدخلوه ريثما تعود. فإذا عدت ماذا سترى من على شرفتك، هل ستنظر كالجميع إلى ركام المدينة المقابلة أم ستوجّه نظرك إلى مسارح بطولاتك المتنقلة في عيتا الشعب وتلة مسعود وجبل الباط ومحور الصمود ومارون الراس ووادي الحجير؟؟
هات أخبرنا يا أستاذ راني عن زملائنا، طلاّبك الذين سبقوك إلى الحصّة الأخيرة. أحمد وحسن ومحمد ويوسف ومروان ومحمد وحسين وأحمد ومحمد وكفاح وهشام وعمّار وزيد. قل لعمّار مبروك لأنه نجح في الامتحان الرسمي ونال الشهادة في الفندقية. وخبّر مروان أن أم نضال لا تزال مناضلة صلبة كما تركها، وليعذر دموع أبيه الذي لم يقو على تحمّل فراقه فأصيب بفالج. فليعذره لأن مروان غاب في مطبخ بيت أهله حيث لا تزال رائحة رحيله تعشعش في كل زاوية. فهنا رصد أعداءه وقاتلهم وهنا صلّى صلاته الأخيرة بعدما كشفه الجنود من شباك المطبخ فألقوا عليه قنبلة أصابته شظاياها فتراجع إلى الخلف ومسح الدم عن وجهه ونام نومته الأخيرة. وليوقن أن والده لا يعتب عليه لأنه حوّل بيت العائلة إلى دشمة يستمتع منها برؤية مجزرة الدبابات في تلّة مسعود ومارون الراس ويقاتل منها الجنود الإسرائيليين المتقدمين في بلدته عيناتا، لكنه يحزن لأنه لم يمهله وقتاً لكي يشبع منه، فهو بالكاد أمضى معه شهراً واحداً منذ عودته النهائية إلى لبنان بعد هجرة دامت 31 عاماً. وليعلم مروان أن والده يعتب أكثر على أمه التي كانت تتفقده يومياً من دون أن تخبره. فأم نضال قاتلت مع «الشباب»، أرسلت «مراسيل وأمانات» إلى ذويهم تحت الخطر في عيترون، وخبزت لهم وطبخت وتنقّلت في حقول البلدة في عز المواجهات، لتجمع الخضر والفواكه وترسلها إليهم حتى طلب منها مروان أن تتوقف عن التحرك وتغادر فوراً حينما ودّعها للمرة الأخيرة وقبّل يدها وقال لها «إذا استشهدت سامحيني ولا تبكي»، وهو ما فعله بعد يومين في 24 تموز مع ابنها الروحي زيد حيدر.
أخبرنا يا أستاذ راني عن يوسف، كم هو فرح الآن بعدما حقق حلمه الكبير وقاتل الإسرائيليين وجهاً لوجه في عقر داره، عيتا الشعب، وهو ابن الـ20 عاماً. لم يعطنا مجالاً لتهنئته بنجاحه في الامتحان الرسمي في المحاسبة والتجارة، إذ انشغل سريعاً بالتدرّب في أحد المصارف في بنت جبيل وكان يستعدّ للسفر إلى فرنسا لمتابعة دراسته، الى أن وقعت الواقعة في خلّة وردة فترك كل شيء وحمّلته أمه سلاحاً وقالت له «ما إلك قعدة بالبيت».
كم خسرنا لأننا لم نستأنس بيوسف الجميل الهادئ كفاية. ليته لم يكن كتوماً وأخبرنا كيف كان منذ الثامنة من عمره يرافق صديقه الأقرب في مهمّات سرية في زمن الاحتلال، يضع عبوة ناسفة على طريق دوريات العدو وينقل السلاح إلى الشباب. لهذه الدرجة كان همّه كبيراً؟ ليته فضفض مرة لنا كيف تحمّل مسؤولية أخويه لدى اعتقال أبويه في الخيام عام 1998. الحمل كان أثقل منه فماذا فعل؟ كيف طبخ لهما وحضّر ملابسهما ودرّسهما وحضنهما؟ نطلب منك يا أستاذ راني أن تبشّره بأن ذلك قتل فوراً الجنديين الإسرائيليين اللذين قتلاه وغنم منهما السلاح والبذلة العسكرية في مواجهات عيتا.
سلّم على طلاّبك يا أستاذ راني وقل لهم إننا نتفقّدهم كل صباح وهم يلعبون في الحقول المحيطة بالمهنية ونحن نظنّهم يسطّرون أعظم البطولات ضد العدو في محور الصمود. سلّم على الأخوين في الدنيا والشهادة حسن وأحمد حميّد وعلى الشهيد ابن الشهيد، أحمد جغبير. سلّم على الأحبة وعلى زيد عبد الله الشهيد الأول في المهنية عام 1995 من جبهة المقاومة الوطنية.
أما أنت فسلّم على راحتيك اللتين «خبرتا» المتفجرات وقادتا معركتيْ وادي الحجير وإنزال الغندورية اللتين غيّرت المعادلة.
سنبقى نهمس في سيرتك. سيرة القائد اللوجيستي الذي خسرته المقاومة بحسب السيد حسن نصر الله. سيرة «العبد الفقير لله»، كما تحب أن تنادى، راني عدنان بزي.
تعليقات: