الخروج الحريري الثالث: بين الوالد والولد
للمرة الثالثة في تاريخ لبنان وتاريخ «العائلة»، يخرج حريري ما من رئاسة الحكومة. غير أن الفوارق ضخمة بين هذه المرة والمرتين السابقتين. حتى ليمكن القول في الحالة الراهنة، كأن مسرحها ليس لبنان نفسه، أو كأن الخارج اليوم ليس «حريرياً»، أو كأن أمراً بحجم الاثنين قد تغير، أو سيتغير.
الخروج الحريري الأول من الحكومة كان بعد أيام على وصول إميل لحود الى رئاسة الجمهورية في 24 تشرين الثاني 1998. جرت الاستشارات النيابية للتكليف. نال الحريري أكثر من 20 صوتاً أقل من الذين انتخبوا غريمه قائد الجيش للرئاسة. الباقون «خرقوا» دستور الطائف الذي نسجه الحريري بتأن قبل عقد، فجيّروا أصواتهم للرئيس العماد. تفحص الحريري الأسماء، فوجد بينها أقرب المقربين الى دمشق. فاستنتج أنها رسالة، وقرر العزوف.
الخروج الحريري الثاني من السرايا الكبيرة، كان في تشرين الأول 2004. ومرة ثانية مع «وصول» ممدَّد للحود. لكن في ظل ظروف دولية مختلفة، عنوانها القرار 1559. قيل يومها إن رئيس الحكومة عمل على كسب الوقت علَّ العاصفة تهدأ، فيقبل التكليف مجدداً. لكن حتى صديقه شيراك نفد صبره منه. قال له ذات يوم في الإليزيه: ماذا تفعل؟ تنحَّ من دربنا، لأننا ذاهبون للقضاء على بشار. ولا أريد أن «أتفركش» بك في الطريق... قيل يومها إن صديقه الباريسي لم يرافقه مودعاً حتى درج القصر، ولم يزوده بالعناق والقبلات، ففهم الحريري الأمر، وخرج من حكومة بيروت، كما خرج من قصر الإليزيه.
لكن اللافت في المرتين، أن رفيق الحريري كان يسارع الى الرد، بالتماهي أكثر مع سوريا، وبالتطابق أكثر مع نظريته في الدفاع عنها وعن مصالحها. والأهم، أنه كان ينكبّ بعدها، مراهناً على العملية الديموقراطية في لبنان، وعلى استحقاق انتخابي للعودة.
سنة 1998، قيل إنه بعد خروجه عاد الى «أرض المعركة» مدققاً، فاكتشف أن قصة أصوات التكليف والامتناع لم تكن فعلاً رسالة سورية، بل مجرد اجتهاد لبناني صرف، بدأ نتيجة إصرار نائب ماروني عقائدي من بيروت، على رفض إعطائه صوته للحريري. فوُلدت عفواً خبرية إيداعه لدى رئيس الجمهورية. استحسن آخرون الفكرة، فانتقلت عدواها... أدرك الحريري خطأه، وقرر إصلاحه. والأهم أنه حدد الهدف: الانتخابات النيابية لعام 2000. أما الوسائل، فكل شيء مباح ومتاح. من قانون غازي كنعان، الى مغازلة بكركي عبر النواة الأولى للقاء قرنة شهوان، وخصوصاً الالتصاق بسوريا، عبر مثلث الشهابي ـــــ خدام ـــــ كنعان.
سنة 2004، كان الكثير من تلك الظروف قد تغير. الخروج كان أكثر دوياً. ولم يكن ينقصه غير دوي الأول من تشرين الأول مستهدفاً مروان حماده، ليعيد التذكير بزمن ماض، أو بظرف مماثل في عاصمة قريبة اسمها بغداد. والأهم أن الثلاثي الحريري الدمشقي كان قد اختفى. ومع ذلك، ظل خيار سيد قريطم واضحاً: تصحيح العلاقة مع سوريا، والرهان على الاستحقاق النيابي في ربيع 2005 للعودة. هكذا منذ اللحظة الأولى للخروج الحريري الثاني، بدأ الاهتمام ينصبّ على قانون الانتخابات. حتى قيل إن «بيروت الثانية» وحدها، كانت كل القانون، وكل مضمون السهرات مع جميل السيّد. حتى صبيحة اغتياله في 14 شباط 2005، كانت إحدى صحف بيروت تنقل عنه حديثاً مفصلاً: أنا مع سوريا. وأنا أنتظر الانتخابات...
الخروج الحريري الثالث يبدو مختلفاً. فبدل الرهان على سوريا، رهان على سقوطها. وبدل التطلع الى الانتخابات، بدأ التوجس من تطييرها، ومن أن تكون الطريق الوحيدة الممكنة للعودة الى الشرعية، عبر شيء من أنواع «الشرعية الثورية». لا بل كأن الحريري الثالث، بعد رفيق وبهاء، يدمر كل جسور الخروج الثالث، ويحرق كل مراكب العبور. الوالد كان يتحصن بالصداقات. الولد يذهب الى العداوات. الوالد كان يمترس في بيروت، كأنها خندقه الثائر. الولد يغادرها بلا عودة، كأنها غرفة في فندق عابر. الوالد كان يعيد نسج علاقاته الضعيفة، من طهران الى الضاحية، لتتويج استعادة المكانة السورية. الولد يفتحها حرباً نهائية: على «الفرس» وعلى «هيمنة السلاح»، وعلى «نظام حزب البعث». الوالد كان يصلِّب الحلفاء، يشدّ مع جنبلاط، يغازل نبيه، ويداري الخصوم. الولد يقطع مع جنبلاط، يفتح حرباً على بري، ويذهب في استعداء خلفه، ولو كان من أكثريته مثل ميقاتي، حتى الكلام الكبير في دار الإفتاء...
لماذا هذه الفروقات؟ قد يكون السبب اختلافاً في طبائع الأشخاص. وقد يكون تبدلاً في الظروف والأوضاع. وقد يكون إشارة الى حدث عظيم قد يحصل، مثل أن ينتهي لبنان الذي نعرفه، أو تنتهي سوريا التي نعرفها، أو يظل الاثنان على حالهما، ويكون الخروج الحريري الثالث هو الثابت.
تعليقات: