الدكتور كامل مهنا والوزير السابق بهيج طبارة
معرفتي بالدكتور كامل مهنا تمت من خلال مؤسسة عامل وتعود لبضع سنوات خلت.
وقد توطَّدت معرفتي به وأصبحنا نجتمع بصورة دورية مع شلة من الأصدقاء المشتركين لنتحدث في أوضاع البلد العامة، ونتبادل المعلومات عن الاشخاص الذين يعملون في الحقل العام، وعن الاحداث التي يمر بها البلد والمنطقة بشكل عام.
بعبارة اخرى، فإني لم اواكب كامل مهنا في المعارك العديدة التي خاضها منذ سني دراسته الى الحرب الاهلية التي عاشها لبنان. من هنا اهمية الكتاب الذي صدر مؤخراً والذي يروي يومياته لأن تواضع كامل مهنا والخفر الذي يرافق حديثه عن نفسه وعن ماضيه يحجبان – حتى عن القريبين منه – وقائع وأحداث لا تعني كامل مهنا فقط، بل تهم وتعني كل واحد منا وتشكِّل درساً ومثالاً يُحتذى لشباب لبنان الذي يبحث عن دور له يتناسب مع آماله وطموحاته.
كان كامل مهنا في فرنسا في أواسط الستينات يدرس الطب. صدف ان ذهبت انا ايضاً الى فرنسا لإكمال دراسة الحقوق والقانون – لكن قبله ببضع سنوات. لذلك لم التقيه هناك مع اننا مررنا أثناء اقامتنا في فرنسا بالمدن ذاتها. باريس بالطبع وغرينوبل.
عندما قرأت فصول الكتاب عن تلك الفترة تذكرت ان الطلاب اللبنانيين، والطلاب العرب عموماً، كان يمكن تصنيفهم وتوزيعهم الى ثلاثة انواع:
فريق منصرف الى الدراسة، تجده مواظباً على الحضور في المدرَّجات اثناء محاضرات الاساتذة، وفي المكتبات، لا يلتفتون يميناً ولا يساراً. وهؤلاء بالطبع كانوا قلة. وفريق آخر استهوته الحياة الفرنسية، حياة اللهو والانس والتجارب . وفريق ثالث ملتزم ايديولوجياً منذ قدومه من لبنان كان يلتقي مع زملائه من الطلاب في توجهاتهم، ويخصص قسماً كبيراً من وقته للنشاط السياسي الذي يمارسه حسب اهوائه ومعتقداته.
اللافت في يوميات كامل مهنا انه استطاع ان يجمع بين كل هذه التوجهات. فإن اهتمامه بمتابعة دراسة الطب – بالرغم من امكاناته المادية المحدودة – لم يمنعه من المشاركة في التحرك من اجل القضية الفلسطينية.
كما لم يمنعه كل ذلك من الدخول في مغامرات عاطفية يرويها الكتاب بطريقة جميلة ومشوِّقة.
كامل مهنا كان دون شك، كالعديد من الشبان في عمره، متأثراً بأمثولة تشي غيفارا. أذكر عندما تعينت وزيراً في العام 1973 في حكومة الدكتور امين الحافظ مع الدكتور زكريا نصولي، ان الصحفيين الذين قابلوا النصولي في منزله في ذلك الحين لاحظوا وركَّزوا على ان صورة تشي غيفارا كانت معلَّقة على الحائط.
وبالفعل، نقرأ في الكتاب ان كامل مهنا عندما سُئل في تلك الفترة اذا كان طموحه ان يصبح قائداً وزعيماً سياسياً أجاب بصوت لا يخلو من الحدَّة : من قال ذلك؟ ان ارنستو تشي غيفارا ترك الزعامة في هافانا وذهب ليقاتل في غابات بوليفيا. أمامي العالم كله اناضل فيه وتريد مني ان اصبح زعيماً على زاروب؟
لا شك ان غيفارا كان قدوة لكامل مهنا. هذا القائد الثوري الذي لم يكتف بما تحقق في كوبا، فذهب ليناضل في جبال بوليفيا مع الثوار، وهو اصلاً من الأرجنتين، فقُتل هناك واصبح اسطورة. يكفي اليوم ان تلفظ كنيته "تشي" لكي تُعرِّف به. والطريف ان تشي غيفارا كان هو ايضاً طبيباً تطوَّع لمحاربة الفقر والظلم وانعدام المساواة بين البشر.
من يعرف اليوم اين يقع اقليم ظفار؟ هل هو في اليمن كما قد يتبادر الى الذهن، ام في سلطنة عمان، كما هو الواقع؟
المهم ان ثورة ظفار كانت، في نظر كامل مهنا، ثورة ضد الفقر والقهر والعذاب. كان السؤال، بالنسبة اليه: ان تكون ثورياً او ان تكون ثرياً. تلك هي المسألة. وبالطبع، فإن خياره كان المشاركة في الثورة، لأن ظفار في تلك الفترة كانت بمثابة "فيتنام بريطانيا".
تخصص كامل مهنا في الطب وتخرَّج طبيباً في وقت كانت المنطقة التي ينتمي اليها، والطائفة التي ينتسب اليها بالولادة، تفتقر الى اهل الاختصاص، في ميدان الطب وفي سواه من الميادين.
لذلك فقد كان من السهل على الدكتور كامل مهنا ان يمارس مهنته كطبيب وان يثري كما اثرى العديدون.
غريب ان لا يكون فعل ذلك؟ قد يبدو هذا الامر غريباً لمن لا يعرف مدى عدم اكتراث كامل مهنا بالامور المادية. هناك فرح وسعادة يوفرهما العطاء لصاحبه عندما يكون العطاء دون مقابل، لا يمكن مقارنتهما بأي مردود يمكن ان توفره الماديات لأصحابها.
وقد كان خيار كامل مهنا واضحاً منذ البداية.
قرية الخيام اساسية في مسيرة كامل مهنا. فالخيام تقع على شبكة تقاطعات دول ثلاث هي لبنان وسوريا وفلسطين.
الخيام بلدة جنوبية تطل على فلسطين، ومنها كان كامل مهنا، منذ طفولته، شاهداً على المواجهة مع العدو الصهيوني. كان من خلالها شاهداً، في الوقت ذاته، على بطولات المقاومة وعلى تهجير الفلسطينيين الى لبنان بعد النكبة. كانت قوافل اللاجئين التي لا تنقطع تمر من هناك، قوافل الذين يحملون همَّ الرحيل المباغت وأحلام العودة.
كان يسمع، وهو طفل، ان فلسطين ضاعت. لكنه كان يتساءل، ببراءة الطفولة : كيف يضيع بلد بأمه وأبيه؟ ويعيد السؤال: أين ضاعت، وكيف؟ فيأتيه الجواب: أخذها اليهود! ولكن الى اين؟
هذه المشاهد ، هذه التساؤلات، تبقى في ضمير الطفل، وتكبر معه. وتبقى لتشكِّل خلفية تفكيره والمحرِّك له في كل اعماله.
ثم ان الخيام هي قرية من جنوب لبنان في زمن الاقطاع السياسي وفي زمن الحرمان. وهي تفسر تمرد كامل مهنا على الكبت والتسلط وتعلقه بالإمام موسى الصدر.
الحرب الاهلية في لبنان التي انطلقت شرارتها الاولى في 13 نيسان 1975 ذكَّرت كامل مهنا بالحرب الاهلية الاسبانية.
حرب اليسار ضد اليمين. حرب العلمانية ضد الطائفية. حرب المقاومة المسلحة ضد "قوة لبنان في ضعفه". بالاضافة الى ابعادها الاقليمية والدولية.
الحرب الاهلية اختصرت في ذهن كامل مهنا هافانا وهانوي وجبال ظفار. فكيف يقف منها على الحياد؟
وهكذا تنقَّل بين المواقع الساخنة، من منطقة الفنادق الى المسلخ والكرنتينا، ثم الى برج حمود وجسر الباشا وتل الزعتر معرِّضاً حياته اكثر من مرة للخطر الاكيد.
ان الفصول التي يخصصها الكتاب للحرب الاهلية يجب ان تُقرأ وان تُعمَّم، وقد قيل انها تصلح كسيناريو لفيلم سينمائي. هناك تعرَّف على برنار كوشنير (أطباء بلا حدود) وتوطدت بينهما صداقة دفعت هذا الاخير الى دعوته الى سان كلو مع ممثلين عن القطاع الاهلي وبعض السياسيين من اتجاهات مختلفة في محاولة لإيجاد الحلول للأزمة اللبنانية المستعصية.
مؤسسة عامل هي الحلم الذي تحقق. هي الانجاز الكبير في حياة كامل مهنا.
وضع فيها خلاصة خبرته وتجاربه المتراكمة. لجأ الى اصدقاء له وبدأ العمل منذ العام 1979 للإهتمام اولاً بالأطفال، وتلقيحهم بعشرات الآلاف، ثم انشاء المراكز الصحية وذلك بالتعاون مع المؤسسات الانسانية في هولندا وسويسرا.
وما تزال مراكز مؤسسة عامل محجة يقصدها اللبنانيون والسفراء والأجانب ويدهشون في كل مرة بما يشهدونه من انجازات على الارض.
ولا عجب ان تكون مؤسسة عامل بمثابة الاسرة الكبيرة لكامل مهنا. يتعلم من مدرستها، كما يقول ويردد، ان الانسان عندما يتمنى شيئاً، ويصدق، فإن العالم كله لا يستطيع ان يقف في وجهه.
"عامل" بالنسبة اليه، هي الوطن كما يحلم به الاطفال.
..
* معالي الوزير بهيج طبارة
تعليقات: