عيناتا حيث تتزاوج حكايا الشهادة والصمود

انتشال ضحايا المجزرة (أرشيف ــ وائل اللادقي)
انتشال ضحايا المجزرة (أرشيف ــ وائل اللادقي)


ليس سهلاً أن تدخل منزلاً لأسرة استشهد أغلب أفرادها لتقابل من بقي منهم. وليس سهلاً أيضاً أن تفاجأ بأن من بين صور الشهداء المعلّقة على جدران صالة المنزل صورة لطالبة كنت قد درّستها، عندما كنت أستاذاً في ثانوية بنت جبيل الرسمية، لتلمع في المخيلة صورتها على مقاعد الدراسة.

ستة شهداء من أسرة إبراهيم فضل الله علّقت صورهم على أحد جدران منزله. من بين تلك الصور صورة ابنه أحمد، الشهيد الأول في العائلة، الذي استشهد في 27 تموزعام 1999 أثناء قيامه بعمله الجهادي في موقع حداثا، والذي كان من أبطال عملية أنصارية الشهيرة. الصور الأخرى هي لشقيق أحمد، أمير الذي استشهد في 27 تموز أيضاً، لكن من العام الماضي أثناء تصديه للعدوان الإسرائيلي قرب عيناتا، ووالدتهما مريم وأختهما زهراء وزوجة أمير وابنها خضر ابن الثلاث سنوات، الذين استشهدوا معاً في 27 تموز أيضاً (بعد ساعات قليلة من استشهاد أمير) في ملجأ في عيناتا عند وقوع المجزرة التي استشهد فيها 19 مواطناً من البلدة.

نجا والد الشهداء إبراهيم فضل الله من المجزرة بعد أن قرّر مغادرة الملجأ للعودة إلى منزله. لا يستطيع الكلام كثيراً فهو يعاني ضعفاً في السمع ومشاكل في النطق، لكنه يقول بحزن: «قصف المكان ودخلت رائحة الدخان إلى الملجأ فأحسست بالاختناق، طلبت منهم أن يأتوا معي إلى المنزل، لكنهم لم يستجيبوا لندائي». يبكي دائماً كلما صعد إلى منزل ابنه أمير الكائن فوق منزله، ويعاتب من بقي من أسرته لأنهم لم يستجيبوا لنصيحته.

يصعب التمييز في هذا المنزل بين المقاوم الشهيد والمدني الشهيد. فالأم رفضت مغادرة البلدة رغم تأمين السيارة لذلك. فضلت البقاء، وطلبت استخدام السيارة لنقل أسرة أخرى، حتى أن أحد شبان البلدة يقول: «سمعتها تقول للذين يغادرون البلدة رافعين الرايات البيضاء: إلى أين تذهبون وتتركون الشباب، فغداً ستعودون سريعاً حاملين الراية الصفراء». وكانت أم كريم تشارك في المعركة عبر قيامها بطبخ الطعام وخبز الخبز للمقاومين، وتضعهم في أحد المنازل التي يقصدها هؤلاء.

يروي ابنها شادي: «تعرضت أمي أثناء الاحتلال وبعد استشهاد أخي أحمد للاعتقال، فسجنت سبعة أيام في سجن الخيام وعذبت كثيراً، لكنها لم ترو لنا ذلك، كذلك أبي فقد ضربه عملاء إسرائيل كثيراً». أما زهراء، العروس الجديدة، التي أعلنت خطوبتها قبل أشهر من الحرب على أحد شبان البلدة من رفاق درب أمير، فقد كتبت وصيتها في الملجأ أثناء القصف وقبل استشهادها بقليل، وكان حلمها الشهادة كما ذكرت ذلك في وصيتها. صورتها معلقة مع أخيها أمير وأبنه خضر وهم يرتدون الثياب العسكرية.

استشهد في مجزرة عيناتا أيضاً عفيف خنافر وأسرة أخيه فايز بأكملها، المؤلفة من سبعة أفراد هم فايز خنافر وزوجته ريما سمحات وأولادهما: دموع (سنتان)، محمد (4 سنوات)، عبد الله (6 سنوات)، علي (7 سنوات).

يروي أخو الشهيدين فايز وعفيف، عباس خنافر قصة مجازر إخوته المتنقلة، ويقول: «تركت أسرة أخي فايز في أحد منازل البلدة مع أسرة إبراهيم فضل الله، وذهبت مع أسرتي إلى صيدا، وفي يوم الهدنة، قدمت إلى البلدة بواسطة سيارة إسعاف لنقل من بقي من المدنيين. بحثت عن أسرة أخي حيث تركتهم فلم أجدهم، توجهت مسرعاً إلى الملجأ الذي أعرفه جيداً، فهو عبارة عن غرفة صغيرة تحت منزل من طابق واحد، كان يستخدم سابقاً مخزناً للتبن، واستخدم أيضاً في الثمانينات ملجأً للأهالي. كان الدمار يحيط بالمكان، فعلمت باستشهادهم جميعاً، فقد شاهدت جسد أم كريم».

يتابع عباس بحسرة: «توجهت عندها إلى منزلي، قرب مطعم التحرير في بنت جبيل، حيث تركت أمي واثنتين من أخواتي، فوجدت إحداهن ممدّدة أرضاً قرب المنزل ومحاطة ببحر من الدماء، إذ كان الإسرئيليون قد لجأوا إلى المنزل المجاور، وأطلقوا عليها النيران من الشرفة. أما أمي وأختي الثانية، فبقيتا قرب أختي الشهيدة مدة ستة أيام تنتظران مصيرهما. نقلتهما معي وتركت أختي الشهيدة أرضاً، وذهبت إلى بلدة يارون حيث منزل أختي الأخرى زينب وأسرتها، لكنني علمت لاحقاً بأنها استشهدت أيضاً مع زوجها وابنتيها الصغيرتين لانا وزهراء فرحات».

عينا عباس خنافر لم تذرفا الدموع، لكنهما تشيران إلى حزن عميق وصلابة شديدة، صعب عليه التذكر، أو هو يحاول ذلك دائماً ليحارب قساوة الحياة. وفي مجزرة عيناتا استشهدت والدة الزميل حسين أيوب، أم هاشم، وكذلك الحاج محمد علي وهبي، العجوز المقعد، وزوجته كاملة مصطفى، التي رفضت الهروب مع الأهالي سيراً على الأقدام لأن زوجها لا يستطيع ولا يريد ذلك، ففضلت البقاء والموت معه.

وبلغ عدد شهداء عيناتا أثناء الحرب 45 شهيداً، من بينهم أربعة عشر شهيداً مقاوماً. وفي عيناتا أيضاً عدد من العجزة صمدوا طوال فترة الحرب وحيدين في منازلهم، يروون قصصاً من الصمود والمعاناة. فقد بقي المُقعَد علي مصطفى إبراهيم (76 سنة) مع ابنته سميرة في منزله، طوال فترة الحرب من دون أن يشاهدا أحداً من المسعفين، لأن منزله بعيد عن الشارع العام. ساعد علي إبراهيم ضعف سمعه، وكان يحاول إقفال أذنيه، لكي لا يسمع أصوات القذائف. غلب عليهما الخوف والجوع. والراديو كان المخبر الوحيد عما يجري. في البداية كانت المؤونة تكفي أياماً، فتطبخ كل مرة سميرة طبخة تكفي يومين، إلى أن نفد كل شيء، يقول علي إبراهيم «كتبت على ورقة عبارة (نحن موجودون في الطابق السفلي) وعلقتها أمام مدخل المنزل، على أمل أن يأتي أحد لإنقاذنا، لكن من دون جدوى. وفي الأيام الأخيرة لم يبق شيء نأكله سوى بعض أوراق العنب الخضراء وأحياناً أوراق الزيتون». أما محمود إبراهيم (86 عاماً) الذي بقي وحيداً في منزله فيروي قصة مشاهدته للجنود الإسرائيليين ودخولهم منزله وحرمانه علبة الحلوى الوحيدة التي كانت لديه بعد أن أكلوا ما فيها. يقول محمود إبراهيم: «كنت في الحقل خارج الدار فوجدت ثمانية جنود إسرائيليين يحملون اثنين من الجرحى، فقالوا لي «ابق مكانك لا تتحرك»، وذهبوا بعيداً. وبعد دخولي المنزل وجدت بداخله ستة جنود آخرين ومعهم عدد من الجرحى، كل واحد منهم يحمل بندقية ويتمركز على إحدى نوافذ المنزل، وجهوا نحوي السلاح وأجلسوني حوالى ست ساعات قربهم على كرسي من دون أن يسمحوا لي بالحراك، كانوا مختبئين وخائفين من المقاومة. لكنهم أكلوا علبة الشوكولا الوحيدة التي كانت عندي، فلم يبق لي شيء آكله. بقيت أكثر من أربعة أيام من دون طعام، حتى أصبحت عاجزاً عن الحراك».

ويروي فؤاد إبراهيم قصة الأخوات: سكينة(60 عاماً) ومنيفة (71 عاماً) وفاطمة (75 عاماً) اللواتي بقين وحيدات في منزل في وسط البلدة أثناء الدمار ومعهن علبة من الجبنة من دون خبز، كل يوم تأكل كل واحدة قطعة واحدة من الجبن، إلى أن قررن الهروب، رغم أن فاطمة كانت تعاني الإعاقة وعدم القدرة على المسير، فقامت أختاها بسحبها طوال الطريق لمدة اثنتي عشر ساعة، بين الركام وتحت القصف العنيف. إلى أن وصلن الى بلدة كونين القريبة. انتظرن ساعات أخرى إلى أن وصلت سيارة من الصليب الأحمر لتقلّهما إلى مستشفى تبنين، ومن بعدها إلى صيدا. القصص كثيرة والمأساة لا تنسى. لكن أهالي عيناتا يفضلون الصمت على الكلام. لا داعي للكلام فالبلدة لم يزرها حتى الآن أي مسؤول حكومي. وهم يجدون في الصمت مزيداً من الصمود والمواجهة.

من وصية «زهراء فضل الله»

في غمرات الليل أكتب الوصية التي أوصانا النبي (ص) بكتابتها.

الموتُ آتٍ آتٍ لا مُحال وهذا الموت لا يرحم طفلاً أو صغيراً أو كبيراً أو شيخاً، فالأمانة لا بُّد أن ترد مهما طال الزمن. وعندما خلقنا الله لم يستشر أحداً وحين يأخذنا لن يستشير أحدا.

إني كم أتمنى أن لا أكون من أموات الفراش بل من أموات «شهداء» ساحات الجهاد ضد العدو، ولا أرغب بأن يبقى جسدي كما هو بل أن يتمزق إلى أشلاء كلُّ نتفاً منه محروقة ولكن الله يختار طريقة موت عباده.

إن الشهادة لشيء عظيم لا يستطيع الإنسان وصفه (...) سوف يقول الكثير أني أتكلم عن الشهادة وهي بعيدة عن الفتيات لسبب تافه «أنهن لا يستطعن عمل ما عمله الشباب». وإنما أقول الفتيات نصف المجتمع والبناء لا يرتكز على النصف الأساسي، «إذن يستطعن الاستشهاد» فكثيرات من فلسطين استشهدن وأخريات ينتظرن فرج الله. لن نتخلى عن الشهادة في سبيل الله ما دام يوجد إسرائيل وأميركا وبريطانيا المثلث المشؤوم في بلادنا الإسلامية وبخاصة أرض الوطن (لبنان) وأرض الشهادة (العراق) وأرض المعراج (فلسطين).

جامع البلدة وإلى جواره جثث الشهداء<br>(أرشيف ــ وائل اللادقي)
جامع البلدة وإلى جواره جثث الشهداء
(أرشيف ــ وائل اللادقي)


تعليقات: