دبابات إسرائيلية تغادر الأراضي اللبنانية عام 2000 (أرشيف - أ ف ب)
بدأ الانشغال الإسرائيلي بالوضع الذي ستكون عليه الجبهة مع لبنان في مرحلة ما بعد الانسحاب منه قبل أكثر من عام من تنفيذ الانسحاب، وبالتحديد منذ أن أثيرت على الحلبة السياسية في إسرائيل للمرة الأولى فكرة تطبيق القرار 425 في عام 1998 من جانب وزير الدفاع في حينه، إسحاق مردخاي. اهتمت دوائر صناعة القرار الإسرائيلية آنذاك ببلورة مقاربة جديدة للتعاطي مع هذه الجبهة البالغة التعقيد استباقاً للتغييرات التي ستشهدها في حال حصول الانسحاب
افترض القادة الإسرائيليون، ممن تبنوا فكرة الانسحاب الأحادي من جنوب لبنان، وعلى رأسهم مرشح رئاسة الوزراء في حينه، إيهود باراك، أن خروج جيشهم من لبنان سيسحب بساط الذرائع من تحت سلاح المقاومة، وسيؤدّي إلى تقويض شرعية نشاطها العسكري ضد إسرائيل، لبنانياً ودولياً. رغم ذلك، لم يشأ هؤلاء القادة أن يتركوا شيئاً للصدفة، أو أن يراهنوا بأمن الشمال على فرضية مجنحة، وخاصة أن المعطيات الميدانية والظروف السياسية، في ذلك الوقت، كانت، كلها، تصب في خانة استنتاج وحيد، مفاده أن المقاومة اللبنانية، متمثلة بحزب الله، لا تنوي إلقاء سلاحها بعد الانسحاب، بل إنها تعد نفسها، من الناحية الاستراتيجية، لمواجهة مقبلة مع إسرائيل.
في ظل ذلك، كان لا بد من صياغة مقاربة خاصة بهذه الجبهة تأخذ تعقيداتها بعين الاعتبار، وتُعنى بتأمين الردود اللازمة على سيناريوهات التصعيد المحتملة، استراتيجياً وتكتيكياً.
نظرية «تفعيل القوة»
بناءً عليه، أصدر رئيس الأركان في حينه، شاؤول موفاز، تعليمات بإعداد تصور للطريقة التي ينبغي للجيش أن يتعامل وفقاً لها مع الجبهة اللبنانية، وأُلفت، بناءً على ذلك، في شهر آب 1999، «لجنة بحث» على مستوى قيادة المنطقة الشمالية في الجيش، برئاسة قائد المنطقة، غابي أشكينازي. اللجنة المذكورة انتهت إلى خلاصات خضعت للنقاش مجدداً في هيئة الأركان العامة، وأقيمت لاحقاً الأسس التي ارتكز عليها ما يُعرف بالقاموس العسكري الإسرائيلي بـ«نظرية تفعيل القوة».
صدرت الصيغة النهائية للنظرية عام 2002 في كتاب حمل عنوان «استراتيجية جيش الدفاع الإسرائيلي: توجهات وأفكار تأسيسية لبناء القوة وتفعليها»، إلا أن الصيغة التي تضمّنها الكتاب خضعت لاحقاً لتعديلات أدخلها رئيسا الأركان اللذان تعاقبا على قيادة الجيش بعد موفاز، موشيه يعالون (2002ـ2005) ودان حالوتس (2005ـ2007).
النظرية الجديدة لم تنحصر، بطبيعة الحال، في خصوصية الحالة اللبنانية وإنما اتسعت لتُعنى بتأمين الردود المطلوبة لحالة الحرب عموماً، بسناريوهاتها الشاملة، على عناصرها الكلاسيكية المعروفة، والسيناريوهات المحدودة، ضمن إطار ما يعرف «بالمواجهة المنخفضة التوتر»، التي عادة ما تكون في قبالة جهة غير «دولتية»، كالمنظمات المسلحة على وجه الخصوص.
ولما كانت الظروف السياسية التي تعيشها إسرائيل في تلك الفترة تفضي إلى تقدير وضع يفترض أن تهديداً بإمكان شن حرب من جانب الدول العربية المحيطة (دول الطوق) هو أمر مستبعد جداً، وكان التهديد الحسي المباشر الذي تكابده يومياً يتمثل بالانتفاضة الفلسطينية من جهة، وبالسيف المصلت الذي يلوّح به حزب الله على الجبهة الشمالية، من جهة أخرى، كان بديهياً أن يتركز الاهتمام في تطوير النظرية الجديدة على سيناريوهات الحرب المحدودة، غير التماثلية، في محاولة لإيجاد معالجة محدَّثَة وناجعة لهذا النوع من التهديدات الذي كانت إسرائيل تتخبط به.
انطلاقاً من هذه الخلفية صيغت مبادئ «بناء وتفعيل القوة» في الجيش الإسرائيلي، فتم، على سبيل المثال، تعريف «الغاية الاستراتيجية» للمواجهة بأنها «التعبير عن الرؤية الشاملة للبيئة الإقليمية المطلوبة في نهاية المواجهة».
أما الهدف من الرد العسكري في المواجهة المحدودة فهو بحسب النظرية «إحداث تغيير في الوعي لدى صناع القرار عند العدو».
وتأسيساً على هذا المقاربة، ارتكز الأسلوب في استخدام القوة العسكرية على مفهوم «الرافعات والمؤثرات»، الذي اعتبر أن بالإمكان تحقيق الحسم في الحرب عن طريق تفعيل رافعات ضغط غير مباشرة، سياسية وشعبية، على العدو وتنفيذ عمليات جريئة ذات طابع بطولي يكون من شأنها التأثير على معنويات العدو لجهة التسليم بدونيته في مقابل قدرات الجيش الإسرائيلي العملانية والاستخبارية.
كما لم تغفل النظرية الجديدة التعويل على مبدأ «الصدمة»، حيث رأت أن المزج المتزامن بين «النيران الدقيقة وعناصر الحركة البرية والبحرية والجوية... الموجهة بشكل متزامن ضد كل أبعاد المنظومة المعادية... ستضع العدو أمام معضلات وصعوبات أكثر خطورة من تلك التي كانت ستنشأ في حال اللجوء إلى عملية متدرجة».
إلا أن «الحركة» في هذه الحالة لا تعني استخدام قوات كبيرة الحجم وبنطاق واسع وعميق داخل أراضي العدو بهدف احتلالها. فالحركة بهذا المعنى لم تعد هدفاً، كما هي الحال في التفكير العسكري الكلاسيكي، بل تحولت إلى عبء. أما الحركة المقصودة فهي تلك التي تقوم على مبدأ «الجزيء الديناميكي».
«الجزيء الديناميكي»
في عام 2003 صدر كراس «الجزيء الديناميكي»، الذي أعده «طاقم التفكير الآخر»، وهو فريق عمل شكله يعالون من أجل إثارة الإشكاليات أمام طريقة التفكير العسكرية القائمة في الجيش الإسرائيلي بهدف تغييرها. الكراس كان الأساس النظري لتصميم استعدادات الجيش لحرب محتملة مع لبنان، وفقاً للسيناريو الذي تحقق لاحقاً في 12 تموز 2006.
وتتمحور نظرية «الجزيء الديناميكي» حول فكرة «القتال المبعثر»، وهي فكرة قامت على عدد من الفرضيات أهمها فقدان الأرض لأهميتها في حسابات كسب المعركة، وخصوصاً عندما يكون العدو منظمة شبه عسكرية أو جيشاً ضعيفاً يختبئ في أرض معقدة المعالم ويستدرج الجيش الخصم للتمرغ في وحلها وللغرق في حرب استنزاف معه.
بناءً على ذلك، لا يعود حسم المعركة متأتياً من طوابير المدرعات التي تخترق خطوط العدو وتدمّرها، أو من سيطرة قوات المشاة على مدينة ما وتدميرها لمنظومة السيطرة التابعة للعدو فيها. المهم، بحسب «القتال المبعثر»، هو القدرة على تدمير أهداف العدو، والوسيلة للقيام بذلك تتألف من ثلاثة عناصر هي: النار الدقيقة والسيطرة الاستخبارية على ساحة المعركة وقوات صغيرة ومتنقلة، أو «جزيئات ديناميكية»، قادرة على الصمود في الميدان وعلى إطلاق وتوجيه النيران الجوية والبرية والبحرية، مع الحفاظ، في نفس الوقت، على حد أدنى من الاحتكاك بقوات العدو من خلال التحرك في الخفاء من دون التعرض للاستهداف. النتيجة المفترضة لمثل هذا النوع من الحركة هي إحداث الشلل لقوات العدو جراء عدم قدرتها على تشخيص مَن وكيف ومِن أين يتعرض للاستهداف.
خلاصة الفكرة إذاً هي أن امتلاك التكنولوجيا العسكرية الحديثة، مع التشديد على التفوق الجوي فيها، أصبح يتيح الانتقال من «حرب الحركة والنار» إلى حرب «النار الدقيقة» المقترنة بحركة محدودة وسيّالة والهادفة إلى: أولاً، السيطرة على ساحة المعركة عن بعد، ثانياً، تدمير أهداف العدو من دون الاحتكاك به، وثالثاً، التأثير على وعيه بطريقة تدفعه إلى الانهزام النفسي.
هذه الفرضيات عكست بطبيعة الحال القناعات السائدة في قيادة الجيش الإسرائيلي، وقد وجدت تعبيرها في الخطط العملانية التي أعدتها هذه القيادة في مواجهة حزب الله؛ كما شكلت، لاحقاً، الأساس النظري الذي انبنى عليه قتال الجيش الإسرائيلي في لبنان خلال عدوان تموز 2006.
تجدر الإشارة إلى أن تقرير لجنة فينوغراد سيحكم، بعد نحو خمسة أعوام، بخطأ هذه الفرضيات، مشيراً، كما كشفت الحرب على كل حال، إلى أن «حزب الله أعد نفسه بالضبط لنوع كهذا من الخطط، فعمل مسبقاً على تقليص الأضرار المحتملة التي كان يفترض بالقدرات الكبيرة للنيران الدقيقة لدى الجيش الإسرائيلي أن تلحقها به».
كما تجدر الإشارة إلى أن حكم تقرير فينوغراد لم يكن سوى تظهير متأخر لحقائق كان الجيش الإسرائيلي نفسه استنتجها في أعقاب مناورات أركانية أجراها في حزيران 2004 على الجبهة الشمالية. فقد هدفت هذه المناورات إلى محاكاة حسم الحرب وفقاً لنظرية «تفعيل القوة» الجديدة، وقامت فيها «جزيئات ديناميكية» من الوحدات الخاصة بالتجول، افتراضياً، في أرجاء جنوب لبنان وباصطياد منصات الكاتيوشا ومقاتلي المقاومة من خلال إطلاق وتوجيه النار.
إلا أن نتائج هذه المناورات، بعد تحليلها، أفضت إلى خلاصات أظهرت أن العمق الإسرائيلي تعرّض لإصابات بالغة، وأن وقف استهداف العمق تطلب عملية برية واسعة لم يتم تنفيذها، في وقت تبيّن فيه أن معظم القوات التي شاركت في المناورة لم تكن قد خضعت للتدريب منذ وقت طويل.
بعد الحرب، لخص أحد الضباط الكبار في الجيش الإسرائيلي تقويمه للنظرية الجديدة بالقول «سنضطر، يوماً ما، إلى محاسبة أنفسنا على ما كنا نعتقد به خلال ورشات صياغة نظرية تفعيل القوة الجديدة للجيش، التي كان يُهيّأ لنا فيها أننا نخلق عالماً عسكرياً جديداً».
خطط الحرب الإسرائيلية
كما أشير أعلاه، تزامن العمل في بلورة «نظرية بناء القوة وتفعيلها»، خلال الفترة المذكورة، مع العمل على إعداد الخطط العملانية للحرب المفترضة على الجبهة اللبنانية. وفي سياق يعكس عدم تمكن النظرية الجديدة خلال هذه الفترة من الإطباق على العقل التخطيطي العسكري الإسرائيلي، وبالتالي بقاء مساحة معتبرة فيه للتفكير الكلاسيكي على هذا الصعيد، اعتمدت هيئة الأركان مبدأ التدرج في الخطط التي وضعتها، بدءاً من الاقتصار، في بعضها، على الهجمات النارية، الجوية والمدفعية، وحدها، وصولاً إلى سيناريوهات تتضمن تصعيداً وتدهوراً خطيراً في الموقف يؤدّيان إلى تساقط كثيف للصواريخ على الشمال، الأمر الذي يُلزم القيام بعملية برية واسعة وعميقة تهدف إلى السيطرة المؤقتة على جنوب لبنان، وتالياً إطلاق عملية سياسية تنتج وقفاً لإطلاق النار يكون مبنياً على تفاهمات تقوم على تغيير في «قواعد اللعبة».
أولى الخطط التي وضعتها قيادة جيش الاحتلال للتعاطي مع المستجد على الجبهة اللبنانية، المتمثل بالانسحاب من الجنوب، صدرت في تشرين الأول 2000، أي بعد نحو خمسة أشهر من تنفيذ الانسحاب. هذه الخطة، وفقاً للمصادر الإسرائيلية، كانت في الواقع تتمحور حول إدارة مواجهة نارية مع المقاومة، من دون تفعيل القوات البرية. في وقت لاحق، 2001، تبلور في قيادة المنطقة الشمالية لجيش العدو تصور لضرورة إعداد «خطط برية» أيضاً، وذلك في ضوء التوصل إلى اقتناع بعدم إمكان وقف الكاتيوشا، في أية مواجهة مع المقاومة، من التساقط على الشمال من خلال النيران المضادة فقط. لذلك، قام الجيش بتطوير خطة جديدة قوامها شن عملية برية في جنوب لبنان.
الخطتان بقيتا متوازيتين، وجرى التعاطي مع كل واحدة منهما على أنها رد على سيناريو مستقل من سيناريوهات التصعيد المفترضة. لكن مع الوقت، أدّت إعادة النظر في المسألة إلى اتخاذ قرار بوجوب بناء خطة واحدة متكاملة، تتضمّن عناصر الصعق الناري للعدو إضافة إلى احتمال رفده بحركة برية مكملة. في ضوء ذلك، تم في عام 2002 تطوير خطة جديدة تلبي متطلبات القرار المتخذ، وحظيت هذه الخطة بمصادقة هيئة الأركان في كانون الأول من العام نفسه، ثم، في شباط 2003، بمصادقة وزير الدفاع آنذاك، شاؤول موفاز الذي عرّف هدفها بـ«إزالة (وليس فقط تقليص) التهديد الصاروخي (لحزب الله) مع التشديد على الصواريخ البعيدة المدى، إضافة إلى توجيه ضربة قاسية للحزب من دون الوصول إلى تدهور شامل (للوضع)». في منتصف عام 2004 أجرى الجيش الإسرائيلي، ضمن سياق التفكير في تطوير خطة جديدة، مناورة أركانية كبيرة اعتمدت على نظرية «الروافع والمؤثرات» التي أشير إليها أعلاه. وتركزت المناورة على محاكاة السعي إلى إسقاط القرار السياسي للمقاومة من خلال الضغط على دمشق والحكومة اللبنانية عبر ضرب أهداف عسكرية سورية في لبنان، وأخرى مدنية لبنانية على شاكلة بنى تحتية. المناورة، كما ذكر، تكشفت عن فشل ذريع في تحقيق النتائج المرجوة مع إخفاق النار وحدها في وقف الكاتيوشا المتساقطة على الجبهة الداخلية.
في أعقاب الانسحاب السوري من لبنان عام 2005، تعزز الاقتناع في أوساط الجيش الإسرائيلي بضرورة إعداد خطة جديدة لمواجهة حزب الله، وفي تشرين الثاني من العام نفسه، أصدرت هيئة الأركان أمراً لقيادة المنطقة الشمالية للقيام بذلك. الخطة الجديدة، «مياه الأعالي»، كما سابقتها، تأسست على فرضية أن الحسم في قبالة حزب الله غير ممكن من خلال استخدام النار فقط، من دون حركة. ولذلك تقرر في «مياه الأعالي» أن تكون النار الابتدائية في الحرب تمهيداً لعملية برية واسعة في لبنان تصل حد احتلال جنوبه بهدف القضاء على مجموعات وصواريخ الكاتيوشا. في الواقع، كانت الخطة الترجمة العملية لقرار استراتيجي يمكن أن يتخذ لحسم الحرب مع المقاومة عسكرياً، بالمعنى الكلاسيكي
للكلمة.
في أيار 2006 صادق رئيس الأركان الإسرائيلي دان حالوتس، على فكرة هذه الخطة، ليصار في حزيران إلى إجراء مناورة عليها، تمهيداً لإقرارها نهائياً بعد إجراء مناورة إضافية كانت مقررة في تشرين الأول 2006. إلا أن عملية الأسر، والحرب التي شُنّت تذرعاً بها، أجهضت سياق استكمال هذه الخطة، فبقيت قيد الإعداد في الأدراج.
في موازاة ذلك، كانت شعبة العمليات في هيئة الأركان تعمل على بلورة خطة «كاسحة الجليد». غاية هذه الخطة، وفقاً لما نصت عليه مسوّدتها، كانت إنتاج وضع جديد ومختلف على الساحة اللبنانية عن طريق عملية نارية كثيفة تقترن بها حركة برية محدودة، لكن غير واسعة. «الوضع الجديد والمختلف» عُرِّف في أدبيات الخطة بالتالي «تحسين الواقع الأمني على الحدود الشمالية، إلى جانب زيادة الكوابح اللبنانية الداخلية على حزب الله وتحفيز تدخل دولي من أجل تجريد الحزب من سلاحه وتطبيق المسؤولية السيادية اللبنانية في جنوب البلاد». أما طريقة القيام بذلك فهي استغلال فرصة، عملية صغيرة، تخرج عن الاحتواء المتوقع، والتلويح بالحرب الشاملة ضمن سياق اختلاق أزمة إقليمية هدفها لجم حزب الله وردعه وصولاً إلى تغيير قواعد اللعبة.
«كاسحة الجليد» كانت، من حيث الفكرة، مرحلة أولى يتم خلالها الوقوف على حجم الأهداف التي يتم تحقيقها، على أن يصار إلى الانتقال، في حال عدم تحقيق الأهداف، إلى مرحلة تصعيدية أخرى، هي «مياه الأعالي» والقيام باجتياح بري واسع للبنان.
وهكذا يكون الجيش الإسرائيلي عاد، مع مطلع عام 2006، إلى النمط التخطيطي العملاني الذي كان سائداً عام 2002، بحيث كان كل من النار والحركة منفصلين في إطار خطتين مستقلتين لا تجمعان بينهما إلا جزئياً.
الخلاصة أنّ الخطّة العملانية الوحيدة التي كانت مُقرَّة رسمياً عشية العدوان هي الخطة التي أعدت عام 2002، إلا أنها لم تكن قد حُدّثت وفقاً للتطورات التي شهدتها الساحة اللبنانية، وأهمها انسحاب القوات السورية. أما خطتا «كاسحة الجليد» و«مياه الأعالي» فلم تكونا قد استكملتا وبالتالي لم تكونا نافذتين. نتيجة ذلك كانت: أولاً، أن مستوى التأهيل والجهوزية وإعداد القوات في الجيش الإسرائيلي عانى قدراً معتداً به من الإهمال جراء عدم وجود خطة واضحة يتم ذلك وفقاً لها؛ وثانياً، كما رأى تقرير فينوغراد، أنه «مع بداية الحرب حدّد رئيس الأركان هدفها الاستراتيجي وكذلك فكرتها الاستراتيجية لكن من دون إقرانهما بشكل واضح لأي من الخطط العملانية المشار إليها، رغم أنه يمكن القول إن العمليات في الميدان تضمنت ملامح بارزة من نظرية «كاسحة الجليد».
خروج متسرّع عن سياسة الاحتواء
إن المعمعة التي مرَّ بها الجيش حول النقاشات المتعلقة بنظرية تفعيل القوة كانت شديدة، وكان لها تأثير مباشر على مجالات كثيرة ومهمة متصلة بالحرب التي حصلت في لبنان. برأينا، لقد تضمنت محاولة ملاءمة نظرية التفعيل المحدثة للواقع الجديد في ساحات العمل المختلفة أوجهاً تعارضت مع المبادئ الأساسية لتفعيل القوة العسكرية، كما أن النظرية الجديدة في الحرب المحدودة كانت أكثر ملاءمة للإرهاب الفلسطيني منها للقتال ضد منظمة شبه عسكرية على شاكلة حزب الله...
من المفترض بخطة عمل كاملة أن تستوعب في داخلها الخبرة والمعرفة المتصلة بالساحة اللبنانية على تعقيداتها الكثيرة، والإشارة إلى بدائل عسكرية ممكنة ومتأتية عن ذلك. كان يجدر بالجيش، في ظل جدية وحسية تهديد حزب الله بتنفيذ عملية أسر، إيلاء الأولوية لإعداد خطة متبلورة لهكذا وضع، على أن تكون محدثة ومقرة ومنسقة وطُبقت في المناورات...
صحيح أن الجيش بلور خططاً عملانية لمواجهة حزب الله، إلا أن هذه الخطط لم تقر بشكل رسمي من رئيس الأركان، لذلك لم تشكل قاعدة متفقاً عليها لإعداد القوة العسكرية بما يتناسب مع الحرب.
الأهم من ذلك أن حالة الخطط العملانية في الجيش لم تكن فقط نتيجة إهمال تنفيذي، بل إنها عكست، على ما يبدو، ارتداعاً داخله، وكذلك في المستوى السياسي، من أصل فكرة العملية البرية الواسعة في لبنان، بموازاة إدراك أن الاستهداف الناري لا يشكل رداً كافياً على التهديد الصاروخي القصير المدى...
وهكذا، عندما قررت الحكومة الخروج بسرعة عن سياسة الاحتواء، لم يكن في أيديها أو في أيدي الجيش خطط عملانية ناضجة وكاملة، بل مجرد أفكار غير مبلورة لعمليات كان نطاق الإنجازات المتوخاة منها محدوداً مسبقاً بسبب ظروف ساحة المعركة.
دان حالوتس
كاتيوشا في حيفا (أرشيف - أ ف ب)
تدريبات عسكرية إسرائيلية في الجولان (أرشيف - إي بي أي)
تعليقات: