ختم طلبات التعويضات في بلدية عيناثا
يتمشى الفتى نازلاً في الشارع. يحمل بيديه ورقة علاماته المدرسية. يتفقدها. بتهاديه البطيء، بشعره القصير وبشرته السمراء، يضفي سكوناً على سكون عيناثا، في واحد من الصباحات اللاهبة. يضعها في صورة القرية.
شقيقة بنت جبيل أكثر هدوءاً من أختها «المدينية». ملامحها قروية: بيوتها وساحاتها وطرقاتها الذاهبة صعوداً وأراضيها المزروعة تبغاً وقمحاً وزيتوناً. وكغيرها من القرى والبلدات في هذا الجانب من العالم، تدعوك البيوت إلى التفضل على القهوة والشاي، قبل أن تعرف عنك شيئاً أو تعرف ما الذي تريده منها. ودائماً، فإن الودّ صادق والحوار يجري برقة هذه الوجوه التي تجيد الابتسام.
«فلاحون من حيث أتى»، يقول الحاج محمد علي خنافر. قبل مقاطعته، كان وحفيده يعملان على القدر العملاق يسلقان فيه القمح. زوجته، الحاجة كاميلا، كانت تعبئ حبات قمح اخرى في الكيس بعدما فلشتها في الشمس.
فلاحون.. والحرب السابقة نهبت موسم التبغ. كانت خسارة الحاج بالملايين ولم يجد من يعوض عليه. هذه السنة زرع من جديد. الأرض لا تعطي حيث سقطت القذائف. لكن الحمد لله. هذه حياتنا، كانت كذلك وما زالت. والذين يعيشون في عيناثا يعتمدون على مواسمهم الزراعية. أما عن الحرب، فإن القطريين لم يدفعوا بعد لأولاده الذين تضررت بيوتهم.
تأخر القطريون في الدفع لأولاد الحاج ولغيرهم. نائب رئيس البلدية حسين فضل الله يبدو كأنه الوحيد الذي يداوم في مبنى البلدية المستعار من مدرسة. يستقبل رجلين يحملان الأوراق المطلوبة لتقديم طلب الدفعة الثانية بعد بناء السقف الأول. لا يؤخرهما. دقائق قليلة كافية لأخذ الأوراق. هو سيتكفل بتعبئة الطلبين. يصافحانه ويخرجان. يرن هاتف المكتب. نعم. هناك مشكلة كبيرة في الماء. سنعمل على حلّها. المياه التي تصل من صديقين انقطعت والمشكلة بدأت. فضل الله يقول لابن بلدته إن البلدية ستحفر بئراً تملأ منه خزاناً وعلى الناس نقل المياه إلى البيوت بالتنك. يستغرب الصوت على الخط الثاني من الهاتف، يضحك فضل الله: هل لديك خطة بديلة؟
لا يحكي كمسؤول «رسمي» بالطبع، بل ببساطة واحد ممن يخدمون الناس. «نعم. تأخر القطريون بالدفع. دفعوا الدفعة الأولى وتأخروا في الثانية. والناس استدانوا ليكملوا بناء بيوتهم. يريدون العودة إلى أرضهم ورزقهم. عيناثا دفعت ثمن مقاومتها لعدوها. دُمّر وسطها القديم بالكامل لأن الإسرائيليين عجزوا عن احتلاله. قدمت 14 مقاوماً شهيداً من أبنائها في معركة مشهودة، إضافة إلى مجزرتين في المدنيين». في صباح اليوم الثاني على وقف إطلاق النار، كان مسجد القرية يطل على أشلاء الناس تسحب من بين الركام بعد أيام طويلة على رحيل أصحابها. كان الإسرائيليون قد دمروا 370 بيتاً. محوا وسط البلد العتيق. الحكاية المكررة عن تدمير البيوت القديمة في القرى والبلدات الجنوبية لا تخفف من كآبة الحدث.
لولا مساعدة حزب الله في البداية لما دبت الحياة في عروق البلدة. لكن القصة متعبة. من لم يعد إلى بيته بعد يتمناه ولو كان بديلاً عن قصر. القنابل العنقودية التي زرعت هنا أرهقت الزراعة في مجتمع محلي يعتمد عليها بشدة. عشرة في المئة فقط من الأراضي التي كانت تزرع حرثت وزرعت هذا الموسم. ابحث عن القنابل العنقودية. هي السبب الأول والأخير. مع ان العمل في إزالتها صار متقدماً. الناس ليست مرتاحة. نحو ثلاثة آلاف نسمة تقطن في عيناثا. ولولا المساعدة التي تأتي سكان البلدة من أبنائهم المغتربين لكان الوضع كارثة. أما المغتربون، هؤلاء الذين يضخون حياة في المنطقة صيفاً، فمعظمهم لن يأتي هذه السنة. الأوضاع الأمنية مخيفة.
التغير بعد الحرب صار جذرياً جذرياً. الناس كانوا مرتاحين هادئين. الحرب غيرتهم وأرهقتهم، وما زالوا يعيشون في هذا الإرهاق. والآن بات الوضع الأمني هاجساً جديداً. هذه هي عيناثا وهذه هي المنطقة.. بؤس وشقاء وعذاب.
أعلاه كان نائب رئيس البلدية. أما في مكان آخر...
الحديث الوحيد
عند ساحة البلدة يقف حافظ فضل الله في دكان سمانة ما زالت واجهته من دون زجاج. يصف يوماً عادياً: الناس مشغولون بإعمار بيوتهم. يشير الى الورشة التي تطل على دكانه. غبار لا يهدأ وطرقات حفرت. في الزيارات المتبادلة صار الحديث يتيماً: التعويضات والتأخير والإعمار. نسي الناس معنى أن تكون الحياة طبيعية. أن يعلم الواحد أولاده ويزرع ويمضي أمسيات لطيفة. ماذا تريدهم أن يفعلوا؟ كيفما التفت رأيت آثار الحرب ماثلة أمام عينيك. والطيران الاسرائيلي ما زال يحلق فوق رأسك. الكهرباء نادرة وأزمة المياه تتفاقم. الحياة التي كانت، تحتاج الى وقت طويل لتعود. وإذا ظل الاعمار على هذا البطء، فسيطول الأمر. تغيرت الحياة هنا. تغيرت كثيراً.
رأي رابع؟ هذا محمد سمحات. سبعيني أمضى عمره مغترباً وعاد في التسعينيات الى قريته ميسور الحال. عاش بعضاً من أيام الحرب في القرية وكانت موتاً أحمر. الآن عيناثا «ورشة عمار.. وتخوف من الآتي». يضع الرجل إصبعه على جرح افتقاد الأمان الذي يبدو عاماً: «ما يحز في النفس أنك تعيش في بلد غير مفهوم ابداً. لا تدري لماذا تتنازع فئاته. وليس من فئة مستعدة لبعض التنازل. كل ما نريده هو إكمال اليومين اللذين علينا بهدوء. لكن لا».
تهدم نصف بيت سمحات. التعويض أتى مخيباً لأمله. خسر عشرين الف دولار ونال ثمانية آلاف. ومن لا ينتمي الى طرف سياسي لا أحد ينظر اليه. أناس لم يكن لديهم ربع الذي لدينا (من مال) صاروا فوق الغيم فجأة. غرفة واحدة صارت خمس وحدات. آخرون يستحقون ولم يصلوا الى حقهم. بعضهم اعترض وما زال ينتظر إعادة الكشف. والناس باتوا ينظرون في بعضهم البعض. هذا أخذ. وذاك لم يأخذ. الكلام كثير. بدأنا نفقد الإلفة التي كانت. والعلاقات تحكمها الغايات.
محمد سمحات لم «يعترض» عند القطريين. فضلّ أن يدفع من جيبه وينهي المسألة. ليس مستعداً للذهاب كل يوم وطرق الأبواب.
حظه جيد. ليس الجميع مثله. هنا، كما قال الحاج خنافر، الناس «فلاحون من حيث أتى..». من الذي أتى ومن أين؟ لا إجابة. هذا قول يراد منه الدلالة الى القدم في الزمن. والناس هنا سيعتمدون على الزمن. وحده الزمن كفيل بإعادة الحياة الى ما كانت. وسننتظر. هذه بلادنا. لا نعرف غيرها، يقول الحاج، ويحدق فيه حفيده بعينين واسعتين. أنهى الصبي عامه الدراسي، ووقته الآن صار يشبه نصاً مقتطعا من كتاب اللغة العربية: حقول وجد وجدة، وقمح وزيتون وشتلات تبغ. وقته صار يشبه هذا النص الى حد ما.. وليس تماماً.
محمد خنافر وحفيده يقلبان قدر القمح (الصور لـ: علي علوش)
تعليقات: