في كل زمان ومكان.. فمن يتعظ..!
لا ادري اذا استطعت ان افهم جيدا طبيعة الرسالة التي ارادت مسرحية "كلهم ابنائي" للكاتب العالمي ارثر ميلر والتي عرضت في المسرح الوطني الفلسطيني مؤخرا بدعم وتمويل من الملحقية الثقافية في القنصلية الامريكية في القدس..! ولكن يمكنني القول ان الرسالة الاساسية للمسرحية كانت في كشف وتعرية تجار السلاح والحروب او ما يطلق عليهم بأغنياء الحرب الذين يعيشون على ويلات ومصائب الاخرين..! – مصائب قوم عند قوم فوائد- . وطبيعي لا يمكن حصر هذا المفهوم على الفترة التي حاولت المسرحية الايحاء بها وهي الحرب العالمية الثانية ومحاربة الفاشية والنازية في اوروبا بعد ان شاركت الولايات المتحدة الى جانب الحلفاء في هذه الحرب الكونية التي حصدت ارواح عشرات الملايين من البشر على مذبح التقاتل على ثروات العالم واحتكارها من قبل دول كبرى. بل انه من الضروري بمكان ان يتم اسقاط هذا المفهوم او المعنى على ما يحصل حاليا وخصوصا في المنطقة العربية من هجمة مسعورة تهدف الى تحطيم الامة العربية ونهب ثرواتها وتحويلها الى امه غازية سابحة في الفضاء. واذا كان هذا هو المقصود بالفعل من رسالة "كلهم ابنائي" يمكن القول ساعتها ان اميركا - اي الولايات المتحدة- ما زالت بخير من حيث انه ما زال هناك من يدرك مخاطر الحروب الاستباقية والاطماع غير المشروعة للادارة الاميركية الحالية على اقل تقدير.. وان هناك من يحاول اعادة نوع من التوازن للسياسة الخارجية الاميركية حتى تصبح اكثر اتزانا وتوازنا واعتدالا..! فالعالم في اعقاب 11 ايلول والرد الامريكي المتهور اصبح في خطر وعلى كف عفريت..! ولا بد من لجم سياسات التوسع والاستفراد والهيمنة من دولة كبيرة على العالم والا فان العالم يصبح في مهب الريح..!
اذن فكرة المسرحية في غاية النبل والانسانية كونها تدافع عن الانسان وان كان اميركيا فحسب..! ولكن يمكن تسويغ هذا الفهم ان الحرب آنذاك كانت موجهة ضد قوى شريرة في اوروبا وهي النازية والفاشية..! وكانت بشكل او باخر دفاعا عن اوطان ودول تشكلت حديثا.. والآن يأتي تفسير رسالة هذه المسرحية على انها تقف بحزم ضد استباحة اوطان الاخرين وقتلهم وابادتهم بحجة تعليمهم الديمقراطية كما يحصل في العراق على سبيل المثال..ومن هنا يمكن القول ان اوساطا واسعة في الولايات المتحدة الامريكية وحتى في اروقة صناعة الحكم في البيت الابيض وفي مجلسي الشيوخ والنواب بدأت تدرك اكثر من اي وقت مضى ان اسلوب البلطجة وفرض المفاهيم الامريكية على العالم بالقوة اصبح من الماضي وانه بدل ان يكحلها عماها..! اما اذا كان هدف المسرحية هو تجميل الوجه الاميركي القبيح في العالم اليوم فحسب..فاننا نقول – ماذا ينفع التمشيط في الشعر العكش- وماذا سينفع التجميل في الوجه القبيح.. ولتعلم ادارة المحافظين الجدد ان كل "صابون" نابلس لن ينظفها مما فعلته من اراقة دماء ومذابح بالجملة في المنطقة العربية والاسلامية فقط..!
على اية حال .. هذا ما فهمته او استنبطته من مضمون المسرحية التي قدمت من طاقم فني تمثيلي محترف.. اشهد.. وقد تفاجئت من القدرة التمثيلية للفنانة ريم تلحمي التي عهدتها بصوتها الجميل الدافئ في الغناء ولم يسبق لي ان شاهدتها على خشبة المسرح الا في هذه المسرحية حيث جسدت دور الام بقوة واقتدار واقناع له كل الاحترام والتقدير.. وكذلك ادهشني الفنان مروان عوض بصوته القوي وحركاته المضبوطة على الخشبة الساحرة..وعدنان ابو اسنينة بقهقاته الغريبة المضحكة وصوته المثير.. وعماد مزعرو الذي بدا حاملا هموم الدنيا على ظهره لدرجة انك تحسب انه لا يمثل بل يتحرك على المسرح على سجيته وبتلقائية عادية جدا.. ومحمود عوض بامكانياته الفنية المعروفة على الدوام.. والطفل محمد عوض والممثلتين شادن زماميري وسوزان زعبي ومحاولاتهم الجادة للولوج الى عالم المسرح الرحب..! وفيما يتعلق بالديكور والاضاءة فقد كان في غاية البساطة والتناغم لدرجة احسسنا اننا في احدى ولايات الغرب الامريكي.. وهذا يدلل انه عندما تتوفر الامكانيات المادية المعقولة فانه يمكن استخراج طاقات فنية مبدعة في مختلف مجالات المسرح من فن تمثيل وديكور واضاءة وصوت وغير ذلك من الامور التقنية. كما شدني الحوار الممتع على خشبة المسرح الذي انطلق بسلاسة وبلهجة فلسطينية محكية مقدسية محببة.. لقد عشت قرابة الساعة والربع وانا مشدود باعصابي الى ما يدور على المسرح ولم استطع احيانا من منع دمعة او عبرة من الترقرق في عيني الواهنتين..! شيء واحد ازعجني.. بعض الهمس الذي كان يدور بين بعض المتفرجين او رنات "الخلوي بيه" قاتله الله..! تحية لكل طاقم المسرحية من ممثلين واداريين وتقنيين من وليد بدر الى رمزي الشيخ قاسم الى عماد سمارة الى عبد السلام عبده الى عبير النابلسي الى جمال غوشة كبيرهم الذي علمهم الفن والمسرح.. والذي اعلن في ردهاته ان المسرح الوطني مهتم بأن تكون نصف اعماله لكتاب وفنانين فلسطينيين وجزء اخر لكتاب وفناني عرب والربع الاخير لكتاب عالميين كما حدث العام الماضي بعرض مسرحية "اشباح "للكاتب العالمي ابسن" وذلك كمحاولة لكسر العزلة المفروضة على الشعب الفلسطيني. المسرحيه من اخراج كامل الباشا .
تعليقات: