المرحوم حسن فارس خشيش
مرّت أعوام ستة على رحيل والدي ,والدي الذي هو اغلى ما كان وسوف يبقى أغلى واثمن من لدي في الوجود , هو شعلة الأمل الذي كنت احيا لأجله , هو الحنان الذي يروي بحرا" من الظمأ , هو الشعر الذي تتغنّى به الألحان , هو فعلا" الإنسان الذي يعجز أكبر المبدعين عن وصفه وتجسيده في بضعة كلمات .بعض الناس تقول عني مجنونة أو مريضة أنني مازلت غير قادرة على الإعتياد على فكرة رحيل والدي وأنّه لن يعود معي أبدا" , ولكن ما أقوله أنني لا أتمنى لأحد أن يكون مكاني أو يشعر بإحساسي أو يعيش معنى فقدان أغلى وأطهر وأعز من يملك في الحياة , لا أتمنى لأحد أن يخسر إنسانا" كان يأخذ من بريق عينيه حنانا" ومن رنّة ضحكته أمانا" ويجعله ينسى الدنيا وما فيها , وبرحيله لم يعد يوجد سوى الهموم .منذ أن رحل والدي وجاء الموت يسلبه مني في 28/07/2005 , كانت حينها الصدمة الكبرى التي غيّرت حياتي ,أو بالأحرى أنهتها .النهاية هنا لا أقصد بها الموت إنّما فقدت الحياة لونها الورديّ الربيعيّ الذي كنت أرى الدنيا بألوانها , نسيت معنى الدلال , ونسيت معنى الحنان , كرهت نفسي وكرهت من حولي في أكثر الأحيان , رأيت أن الدنيا لا تجلب لي سوى المآسي , رحت أبحث عن عطف الأب الذي خسرته , فلم أجد سوى حضن أمّي يحضنني التي هي كانت خير الأمّ والأب في آن واحد .إن أردت أن أصف حياتي بعد غياب والدي فأن الحجر الصوان يبكي من شدّة الحسرة . لا احد يلومني فإنني لا أطلب حنانا" من أحد لأن عطف وحبّ والدي هو نابع من قلبه وروحه ومن شرايين دمه لإنسانة هي قطعة منه جلبها الى الدنيا ليرافقها في دربها ولكن لم يكن أحد يتوقّع أن يكون الفراق باكرا" جدّا" .سلبتني الحياة ولو أنه القدر والمصير الذي لا مهرب منه أعزّ وأغلى ما أملك , كم أتمنى أن أنادي أبي ويسمعني فيجيبني ,كم أحلم أن أعود طفلة تتغلغل في حضن أباها وتغفو بين ضلوعه وتستيقظ على أريج عطره .إلى متى ظلمك يا دنيا ؟سلبتني أغلى الغوالي , حرمتني حلم حياتي , أفقدتني روحي ونبضي . أبي إنّك غائب عنّي منذ ستة سنوات , هل إشتقت إليّ كما إشتقت إليك ؟أبي يا عمري وروحي وحياتي ووجداني هل تدرك انني لا أحلم ان أرتدي الفستان الأبيض وأزف الى من سأكمل دربي معه , إنّما حلمي هو لبس الأبيض ولكن لأزفّ إلى مثواي الأخير حيث أجتمع معك وأعود الى أحضانك ونعيش سويا " في حياتنا الثانية حيث من المؤكد أنها مليئة بالراحة والسعادة .عندها تعود فرحتي إليّ وأرحل الى الإنسان الوحيد الذي لم يكن يحلم ويتمنى يوما" سوى براحتي وفرحتي ونجاحي .أبي كنت تجدني دائما" طفلة بريئة ولكن الدنيا جعلتني كدت أنسى ما هو الحنان والصدق فلم أجد سوى الأقنعة المزيفة للبشر .أبي هل يا ترى أنت دلّلتني أكثر مما يجب ولهذا لا أستطيع التأقلم أو الإعتياد على الحياة دونك , آه يا عمري لو بقيت أسألك وأكلمك حتى آخر العمر لما إنتهيت , لو أنك تعود إليّ يا ضيّ العيون .ولكن ها هي الأعوام تمر , والأيّام تمضي وعدّاد الزمن يسجّل سنة جديدة , وها هي نار فراقك تكويني يوما" بعد يوم ولم يبردها شيء .مرّت سنين ستّة ما أسهل مرورها بالعدد ولكن لا أحد يدرك لوعتها وصعوبة اليتم من بعدك يا والدي .ها بنا نعيش أيامنا ونمضي بها في حلوها ومرّها ولكن ما من بسمة إلاّ وباطنها غصّة نعاني بها من عدم وجودك إلى جانبنا . نار قلوبنا لم تبرد أبدا " يا أبي , وهل يا ترى تشعر بضعف بدني حينما أحتاجك جانبي ؟كم أنا مشتاقة أن أتأمل وجهك يا أبي !!!أبي هل تدرك كم أنا متعطّشة لغمرتك والجلوس في حضنك ؟ كبرنا يا بييّ , بموتك كبرت سنين العمر التي عشت بها في دلالك فلم يعد للدلال مكان ولا قيمة , ولم يعد لأيّ شيء مفرح معنى صادق .كل ما بقي لي ذكريات عشرون عاما" عشت بهم في كنفك وظلّك وحمايتك أيّام وسنين لم أشعر يوما" بأنني أكبر أو ينقصني شيء وفي مثل هذا اليوم منذ ست سنوات جائتنا إرادة القدر فأحسست بضربة موجعة جعلتني أستيقظ من حلم طفلة مدللة إلى إنسانة عليها أن تقبل بإرادة الخالق وأن تعتاد العيش دون رحيق الحياة الذي منه كانت تتنفّس , رحمك الله يا فارس حياتي ومؤنس وحدتي وذكرياتي .مهما قلت لن أستطيع وصف ضعغي بموتك ولكن روحك تدرك حالي وقيمة غيابك عني .يا ربّ أطلب منك وأدعو اليك الغفران لوالدي والرحمة وأن تسكنه فسيح جناتك وأن ترحمنا وتخفّف عنّا عذاب الدنيا والآخرة.
تعليقات: