حيواتهن بيننا تنمو على حافة الموت ظلماً (فادي أبو غليوم)
: قصصٌ من يومياتهن مع "الكفيل" و"المخدوم" وصولاً إلى اللا - تحقيق في جرائم القتل!
لم يكن قد مضى أكثر من ستة أشهر على مباشرة «كلارا» العمل في منزل مخدومها في غزير، في قضاء كسروان، عندما قررت الهروب بـ»أي ثمن». انتظرت الصبية الفيليبينية خلود سكان المنزل الى النوم، ورمت بنفسها من الطابق الثاني. وعلى الرغم من التواء ساقها، أكملت «كلارا» فرارها، مستقلة سيارة أجرة إلى بيروت.
تقول «كلارا» لـ»السفير» إن عملها «كان يبدأ عند السادسة صباحاً، ويمتد حتى منتصف الليل». ولم تحصل خلال ستة أشهر أمضتها في العمل على راتبها كاملاً سوى مرة واحدة، ولكنها «حظيت» بالكثير من «الصفع والركل من صاحب المنزل وزوجته بسبب مطالبتها بأجرها». طبعاً، كانت «كلارا» تنام في المطبخ، مفتقدةً أي خصوصية حياتية.
يسلّم مسؤولون رسميون وحقوقيون وناشطون في مجال حماية الفئات المهمشة، ومن ضمنها العاملات في المنازل، بأن انتهاك حقوقهم يشكل ظاهرة مقلقة في لبنان، لناحية تعرّضهم لـ»باقة» كبيرة من الإساءات الجنسية والاقتصادية والنفسية والجسدية.
وفي ظل استثنائهن من قانون العمل اللبناني، تُترك العاملات في المنازل فريسةً للاستضعاف والانعزال والارتهان المطلق لإرادة الكفيل، الذي يحدد شروط العمل وآلياته، بينما يضع الناشطون في مجال حقوق الإنسان جملة من الملاحظات على مشروع قانون العمل الخاص بهن، الذي وضعه وزير العمل السابق بطرس حرب، ويشيرون إلى نواقص كثيرة تعتريه.
وتقسّم الناشطة في جمعية «كفى» مايا عمّار، الإساءات التي تتعرض لها العاملات المنزليات الى «اقتصادية» تتمثل بعدم دفع رواتبهن، سواء في الوقت المحدد أو بالكامل، و»نفسية» تتجلى في منع عاملة المنزل من الاتصال بعائلتها أو تقييد حركتها في أوقات فراغها، و»لفظية» يُعبّر عنها باستخدام الألفاظ المهينة والمذلة بحق العاملة أو السخرية من لفظها أو ملبسها أو ديانتها، و»جسدية» تُمارس عليها بالضرب والركل والحرق وغيرها من الممارسات التعنيفية.. و»جنسية» تبدأ من التحرش وتصل إلى حدّ الاغتصاب.
القانون.. وفوقية المخدوم المَرضية
يقول وزير العمل السابق بطرس حرب لـ»السفير» إن معرفته بالواقع السيئ للعاملات هي ما دفع به إلى اقتراح «مشروع قانون تنظيم العمل اللائق للعاملين في الخدمة المنزلية»، مستنداً إلى تقارير منظمات حقوقية وإنسانية لبنانية وعالمية تتناول معاملة «يندى لها الجبين» بحق العمال الأجانب في لبنان، ولا سيما في المنازل. ويلحظ القانون الجديد، وفق حرب، إنشاء جهاز شرطة اجتماعية في وزارة العمل مؤلف من مرشدات اجتماعيات لهن الحق بدخول المنازل، والتحقيق في الشكاوى المقدمة، وإيداع النيابة العامة النتيجة. وفي ما يبدو صدى للملاحظات المحلية والدولية على القانون، يرى حرب أنه «ربما لا يكون منصفاً في كل جوانبه، أو ملبياً لطموحات المجتمع المدني والهيئات الحقوقية والإنسانية، ولا يعالج الشوائب كلها». ولكنه، بالنسبة إليه، «يشكل قفزة نوعية إلى الأمام حيث إنه، للمرة الأولى في لبنان، يتم اقتراح قانون لتنظيم العلاقة بين العاملين في الخدمة المنزلية وأرباب العمل». ويشير حرب إلى الانطباعات الايجابية التي تركها المشروع «لدى المنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية، ومن بينها منظمة العمل الدولية»، فيردّ جزءاً كبيراً من المشكلة إلى «النظرة الاستعلائية عند قسم من اللبنانيين تجاه العامل الأجنبي».
ويبرهن ذلك فعلٌ أقدم عليه أستاذ جامعي أحرف اسمه الأولى هي: غ. ز.. فيعترف أستاذ القانون لـ»السفير» بأنه لفق تهمة السرقة للعاملة في بيته، «بعد هربها منه». يقول غ. ز. انه تنازل عن شكواه بعدما ألقت القوى الأمنية القبض على السيدة السريلانكية التي كانت تعمل في بيته، وبعد سجنها في مخفر حبيش لأيام عدة تعرضت خلالها للإهانة والضرب. يعلل «الأستاذ» فعلته بالرغبة بـ»الانتقام» من العاملة بسبب هروبها من منزله.
وكمثل آخر على «فوقية» اللبنانيين المَرضية، تخبر «برناديت»، وهي عاملة سريلانكية، «السفير»، بأنها تضطر في أحيان كثيرة إلى الوقوف في الحافلة، على الرغم من وجود أماكن شاغرة فيها، لأن الركاب لا يسمحون لها بالجلوس إلى جانبهم.
يعتبر الدكتور زياد صائغ، وهو من المشاركين في صياغة مشروع القانون الجديد، أن مشروع القانون «أتى ليحرّر العمال المنزليين من الاستغلال، عبر تحديد ساعات العمل، ومنحهم يوماً كاملاً للراحة الأسبوعية. كما حفظ لهم الحق بالتعويض في حال فسخ العقد من قبل رب العمل، بما يعادل نصف أجر شهري عن كل عام عمل لغاية خمس سنوات، على أن ترتفع النسبة إلى 65 في المئة، عندما تتجاوز سنوات العمل تلك المدة. وبالنسبة إلى الصايغ، «يلحظ مشروع القانون آلية جديدة لتنظيم مكاتب الاستخدام عبر إلزامها بالحصول على ترخيص من وزارة العمل لممارسة عملها.
ملاحظات الناشطين على قانون حرب
لا ينفي نضال الجردي، مسؤول حقوق الإنسان في مكتب منظمة الأمم المتحدة في بيروت، بعض ايجابيات مشروع القانون الجديد، ومنها «إيجاد آلية محدثة للتأكد من صون حقوق العاملين في الخدمة المنزلية عبر جهاز الشرطة الاجتماعية التابع لوزارة العمل، وتحديد ساعات العمل والعطلة الأسبوعية، ولكنه «يزخر» بعدد من الفجوات. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يحجب مشروع القانون عن العاملين في الخدمة المنزلية حق التنقّل بحريّة في أيام راحتهم الأسبوعية، ويربطها بموافقة رب العمل، «وهذا مخالف لمبدأ شرعة حقوق الإنسان». كما أنه، وفق الجردي، «لم يتحدث صراحة عن حق العاملة المنزلية في غرفة خاصة بها، واكتفى بتحديد: «مأوى لها للنوم والراحة داخل المنزل الذي تعمل فيه»، مما يُعدّ مخالفة لاتفاقات العمل الدولية التي وقع عليها لبنان». إذ يمكن للمأوى أن يكون مكاناً لا تتوفر فيه شروط الكرامة الانسانية، ولا يحمي العاملة من محاولات الاغتصاب والتحرش.
ويشير الجردي أيضاً إلى تدني أجور العاملين في الخدمة المنزلية، ليرى أنه يجب أن يكون مماثلاً في حده الأدنى للحد الأدنى لأجر العامل اللبناني، فـ»مشروع القانون المقترح مخصص لجميع العاملين في الخدمة المنزلية من دون تحديد جنسيتهم، ولبنان وقع على اتفاقيات العمل الدولية التي تنص على عدم التمييز في الأجر بين العمال تبعاً للجنس أو اللون».
من زاوية أخرى، ترى ديمة حداد، الناشطة في جمعية «كاريتاس»، أن مشروع القانون المقترح «لا ينص صراحة على معاقبة وتجريم الانتهاكات التي يتعرض لها العمال المنزليون، بدءًا من حجز الحريات وتقييدها، وصولاً إلى التعنيف النفسي والجسدي». كما أنه، وفق حداد، «لا يشير إلى جرم الاتجار بالبشر، ولا يلحظ تجريم ومعاقبة التمييز على أساس الجنس أو العرق، ولا يقدم تعريفا واضحاً لمهمة الخدمة المنزلية المطلوبة، ما يفسح المجال أمام إشكالات كبيرة يمكن أن تطرأ نتيجة الالتباس حول مهام العامل أو العاملة». وترى حداد أن اعتماد القانون على نظام الكفالة يتعارض مع أبسط حقوق الإنسان والتزامات لبنان الدولية.
قتيلة في كل أسبوع
سجّلت تقارير الشرطة اللبنانية، أربعين حالة انتحار لعاملات أجنبيات، خلال العام الماضي وحده، كما سجّلت أربعا وعشرين حالة وفاة بسبب السقوط من أماكن شاهقة، وحالتي وفاة بسبب الضرب المفضي إلى الموت.
«كانوا يعاملونني كأنني عبدة»، هكذا كتبت العاملة الأثيوبية «بيركتي مادي كاسا» لإحدى صديقاتها قبل إقدامها على الانتحار. أما «ساردا»، السيدة النيبالية، فتقول إن مواطنتها «بويال» انتحرت لأنها يئست من قبض مستحقاتها المادية، بعدما طالبت بها طوال خمسة أشهر، تحت ضغط زوجها المريض عليها لإرسال النقود إليه.
تقول «ايلامي» إن المطاف انتهى بصديقتها الفيليبينية إلى الانتحار بعدما اتهمها ربّ عملها في منطقة طريق الجديدة بسرقة قطعة مجوهرات، وقام بضربها وحبسها داخل المنزل لأسابيع عدة، مؤكدة أن مواطنتها المتوفاة أخبرتها عن محاولات دائمة من رب المنزل وابنه للتحرش جنسياً بها.
ولا تخرج قصة «انلين»، الفتاة الفيليبينية، عن السياق عينه. فبعد وصولها بيومين إلى منزل رب عملها في أميون في قضاء الكورة، بدأ الأخير باغتصابها مستغلاً غياب زوجته في عملها، مهدداً إياها بالقتل في حال رفضت التجاوب معه.
تمكنت «انلين» من الهرب بمساعدة احدى صديقاتها، وهي تعمل اليوم في أحد فنادق بيروت بلا أوراق ثبوتية.
ويؤكد مدير مكتب منظمة «هيومن رايتس ووتش» في بيروت نديم حوري لـ«لسفير» أن «عاملات المنازل الوافدات الى لبنان يلقين حتفهن بمعدل أكثر من عاملة في الأسبوع الواحد، وهذا دليل واضح على ان الدولة اللبنانية لا تبذل ما يكفي من جهد لتخفيف الاوضاع الصعبة التي تعيشها هؤلاء النسوة». ويعتبر حوري انه «من واجب الحكومة وسفارات بلدان العاملات المتوفاة ومكاتب الاستخدام أن يوضحوا كيفية مغادرة هذا العدد الكبير من العاملات في أكفان». ويرى حوري أن السبب الرئيس للمشكلة يكمن «في استبعاد قانون العمل اللبناني للعاملين في الخدمة المنزلية، إذ رغم صدور عقد نموذجي موحد في العام 2009 عن وزارة العمل يضع معايير جديدة متقدمة لاستخدام العاملات الاجنبيات، فإن التدابير تبقى حبراً على ورق، طالما ان الحكومة اللبنانية لم تعين مفتشي عمل لضمان الالتزام بالقواعد الجديدة». ويعتبر حوري أن حبس أصحاب العمل للعاملات المنزليات في المنازل جريمة يعاقب عليها القانون، و»على الشرطة أن تتعامل مع الوضع من هذا المنطلق».
عيّنة عن تحقيقات ليست جديّة
كثيراً ما تحقق الشرطة اللبنانية في حالات وفاة العاملات الأجنبيات. وتظهر الوقائع أن الكثير من العيوب يشوب تلك التحقيقات. فغالباً ما تقتصر على أسئلة عامة والأخذ بشهادة أصحاب العمل، من دون التحقق من صحّة أقوالهم ومقارنتها بشهادات الجيران، وغالباً ما لا تحقق الشرطة اللبنانية في ما إذا كان أصحاب العمل قد أساؤوا إلى العاملة أم لا.
وبتاريخ لم يمر عليه الزمن، أحضرت الى «مستشفى دار الأمل الجامعي» في بعلبك جثة الفتاة النيبالية «ميس سيتا غارينغ»، وهي مصابة بطلق ناري في بطنها. تولّى مخفر بعلبك التحقيق، واستدعى رب العمل الذي أفاد بأن غارينغ أطلقت النار على نفسها. ختم التحقيق على هذا الأساس، وترك المستدعى حرّاً بناء على اشارة المحامي الاستنئنافي، بعدما تعهد بدفع مصاريف المستشفى واستلام الجثة وإتمام معاملات نقلها إلى ذويها. في المقابل، يطرح تقرير الطبيب الشرعي الذي عاين الجثة أكثر من علامة استفهام، إذ يشير إلى وجود كدمات على وجه غارينغ، وعلى الجهة الخارجية للزند الأيسر، والجهة اليمنى واليسرى للفك الأسفل، وتحت العين للجهة اليسرى، كما أن الفحوصات أظهرت تمزق غشاء البكارة ووجود حرق ناري على إصبعي الابهام والسبابة لليد اليسرى.
تقول إحدى العاملات القادمات من مدغشقر لمعدي تقرير «هيومن رايتس ووتش» حول أوضاع العاملات المهاجرات إلى لبنان، إنها اعتقدت «أن الشرطة هنا مثل مدغشقر تذهب إليهم عندما يكون لديك مشكلة» ليتبين لها أنهم «هنا هم جزء من المشكلة».
ينطبق الواقع ذاته على «ايمييه» المدغشقرية التي تعرضت للضرب المبرح من قبل عنصر من قوى الأمن الداخلي في وضح النهار في أحد شوارع رأس بيروت. فبعدما حاولت «إيمييه» مساعدة مواطنتها التي تعمل في منزل العنصر الأمني على التخلص من معاملته السيئة، اعتدى عليها بالضرب. تقدمت «إيمييه» بشكوى بحق رجل الأمن الذي أنكر علاقته بالموضوع، على الرغم من وجود عدد من الشهود، ومع ذلك، لم تفض التحقيقات التي أجرتها القوى الأمنية إلى «العثور على الفاعل».
ويدفع الواقع بعاملات المنازل الأجنبيات إلى عدم التقدم بشكاوى أو متابعتها ضد أرباب عملهن، وهنّ في حال تقديمهن لشكوى، يلمسن أنها كثيراً ما تواجه بلامبالاة من قبل الشرطة، بالإضافة إلى شعورهن بخوف دائم من الاتهامات المضادة من قبل رب العمل الذي يميل أفراد الشرطة إلى تصديقه من دون التثبت من أقواله. بالإضافة إلى ذلك، فإن سياسة التأشيرات التقييدية التي تتبعها السلطات المحلية تجعل من الصعب عليهن البقاء في لبنان لمتابعة الدعاوى أمام القضاء المختص.
«نظام الكفيل أساس المشكلة»
أمام تلك الوقائع كلها، ترى المحامية من منظمة «كفى» موهانا إسحاق أن «نظام الكفيل يأتي في قلب الفشل القضائي في حماية عاملات المنازل الأجنبيات»، حيث تتعرض «أي عاملة تتقدم بشكوى ضد رب عملها لفقدان عملها، وتالياً احتمال الاعتقال والترحيل». وتشير إسحاق إلى أن السواد الأعظم من العاملات الاجنبيات في لبنان يواجهن القانون من دون تمثيل قانوني مناسب، ومن دون وجود مترجم، وأن عدداً كبيراً من محاضر الشرطة يشير الى أن العاملة قالت في أثناء التحقيق أنها تتكلم القليل من العربية، ومع ذلك، تابعت الشرطة تحقيقاتها من دون مترجم. وترى اسحاق أن «السبب الرئيسي للتوترات بين أرباب العمل والعاملات المنزليات هو عدم دفع الأجور»، مسجلة اعتراضها على «حجز أرباب العمل جوازات سفر العاملات لديهم بذريعة ضمان عدم الهرب الى منزل آخر للعمل من دون التعويض عليهم». وتؤكد أن «الوثائق الشخصية هي ملك حصري لاصحابها، وهذا ما تقره الاعراف والشرائع الدولية».
وتأكيداً على الشوائب التي تعتري التحقيقات، تشير دراسة أعدتها «هيومن رايتس ووتش» حول متابعة 13 قضية جزائية رفعتها عاملات ضد أرباب العمل بسب سوء المعاملة، تبين أن تلك القضايا استغرقت في المتوسط 24 شهراً، بدءاً من موعد تقديم الشكاوى حتى موعد التوصل إلى قرار، فيما استمرت الشكاوى أمام المحاكم المدنية لفترات أطول، وصلت إلى 54 شهراً.
وتوثق الدراسة عدم وجود أي حــالة ملاحقة لأرباب العمل من قبل السلطات المختصة لحبسهم العاملات داخل منازلهم أو حجزهم لجوازات سفرهن أو حرمانهن من الطعام، مستندة إلى 114 ملف شكاوى راجعتها المنظمة.
تعليقات: