نزع الألغام من خراج قرى البترون يعيد إليها الحياة بعد 24 عاماً من الانتظار

جانب من عملية التنقيب في البترون.
جانب من عملية التنقيب في البترون.


حقول ملوثة بالأجسام المنفجرة .. تنظيفها رهن بتمديد التمويل إلى ما بعد شباط 2012

البترون ـ

مع بداية الحرب اللبنانية، ومنذ حزيران 1978 تحول عدد من قرى وبلدات منطقة البترون إلى خطوط تماس مع تمركز القوى العسكرية في نقاط المواجهة بعد دخول القوات السورية («قوات الردع العربية»)، وانتشارها في عدة نقاط في الجرد والوسط والساحل، حيث قابلتها يومذاك القوى العسكرية التابعة للأحزاب والمناهضة لها في نقاط مواجهة. ولتحصين وحماية المواقع من قبل الطرفين بدأت عملية زرع الالغام. ولم يعرف إذا تمت استناداً إلى خرائط مسبقة بقيت مجهولة حتى اليوم.

الألغام والقذائف غير المنفجرة هي إحدى أبشع مخلفات الحرب. إنها حرب رديفة تزرع الرعب وتصطاد الأبرياء، وأبشع ما فيها أنها مخفية في باطن الأرض. إزاء ذلك الواقع الذي أدى إلى إعاقة أعمال البناء والتنمية وعودة الحياة الطبيعية، إضافة إلى سقوط العديد من القتلى والجرحى، كان لا بد من برنامج شامل يضمن حلاّ للمشكلة ويضع حداً لمعاناة المواطنين منها، خصوصا أنه بعد انسحاب الجيش السوري من المنطقة سقط عدد من الضحايا نتيجة انفجار ألغام مخفية كانت مزروعة بين الجبال وفي أماكن غير مرئية. أما الأنواع التي زرعت فهي ألغام ضد الآليات، وضد الأفراد من تشريكات (أفخاخ)، وصواعق، وقذائف وغيرها.

ومنذ انطلاقة «حرب الألغام» تلك، هجر الأهالي أرضهم ورزقهم وحرموا من استثمارها، والإفادة منها، وزراعتها، فتركت ضحية الإهمال خوفاً من دخولها وتعريض حياتهم لخطر الموت، لكن انفجارات عدة حصلت وسقط عدد من الضحايا. كما سجل عدد من الإصابات والإعاقات، ما دفع الجيش اللبناني إلى التحرك بهدف إيجاد خطة لتنظيف المناطق المزروعة، وإعادة الأراضي لأصحابها سليمة ونظيفة من جميع أنواع الأجسام المنفجرة. وأجرى «المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام»، وبواسطة فوج الهندسة مسحاً للأراضي، كما نفذ عمليات تنظيف ولكن كان لا بد من عملية تنظيف دقيقة تشرف عليها قيادة الجيش و«المركز اللبناني»، إلى أن أقر المشروع الممول من «الاتحاد الأوروبي»، و«الوكالة الفرنسية للتنمية»، وتنفذه حالياً «منظمة الإعاقة الدولية»، عبر تنظيف العقارات وإعادتها إلى أصحابها بناء لطلب الجيش اللبناني، على أن تنفذ الأعمال بإشراف «المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام».

تلك المنظمة هي الأولى التي تعمل ميدانياً على نزع ألألغام من حقول منطقة البترون. والعمل يجري من منطلق إنساني، يهدف إلى تنظيف أكبر قدر ممكن من الأراضي لإعادتها صالحة للبناء والزراعة، وغيرها من الاستثمارات، خصوصا بعد انطلاق عودة الأهالي إلى قراهم بعد غياب 24 عاماً، وخوفهم وحذرهم من الخطر المزروع والمخفي في عقاراتهم.

في كانون الثاني الماضي، بدأت «منظمة الإعاقة الدولية» عملها الفعلي في حقول الألغام وفق دراسة مبدئية للأراضي، ودراسة شاملة على كل العقارات في البترون استناداً إلى الدراسات التي أعدها «المركز اللبناني»، والمسح المبدئي والتنظيف المبدئي بين عام 2000 و2004. وبدأ الأهالي يشعرون بارتياح وكذلك البلديات بعدما تسلمت المنظمة بإشراف الجيش اللبناني تلك المسألة الدقيقة.

وثمن عضو مجلس بلدية شبطين (مختار سابق) جان اغناطيوس «المبادرة لإعادة الأراضي إلى أصحابها، عادوا يستعملونها ويستثمرون حقولهم الزراعية خصوصا أن معظمها من الزيتون. أصبح بإمكانهم التنقل بين الأحراج والوصول إلى أرضهم التي حرموا منها لسنوات». وأشار إلى «المردود الإيجابي لهذا العمل لجهة العمل العام، والإنماء في القرى والبلدات التي أعاقت الألغام كل عمل إنمائي فيها، ونحن كبلدية وفور إنجاز أعمال التنظيف انطلقنا بورشة توسيع للطريق المؤدي إلى البلدة والجسر الكائن عند مدخلها». وشكر اغناطيوس «الجيش اللبناني والمركز اللبناني والمنظمة على كل الجهود، والعمل الذي يقومون به والذي يصب في مصلحة الأهالي والبلدة».

واليوم، تتواصل عمليات التنظيف في عقارات أخرى في بلدات شبطين، ضهر القطلب، تولا والدوق، بعدما تم تسليم 4 حقول لأصحابها في الدوق، وشبطين في أيار الماضي. وحالياً تتواصل الأعمال في حقلين في ضهر القطلب وتولا، عبر فريقين. ويتألف كل فريق من مدير للعمليات، والمشرف الوطني، وقائد الفريق، و5 منقبي ألغام، بالإضافة إلى فريق طبي يرافق كل فريق عامل، تحسباً لأي طارئ خلال أعمال التنظيف. ويخضع أعضاء الفريق لدورات تدريبية دورية وامتحانات بإشراف الجيش اللبناني، بالإضافة إلى المشاركة اليومية باجتماع صباحي لإعادة التذكير بآلية تنفيذ الأعمال قبل الانطلاق في الحقول. ويذكر أن كل العقارات المزروعة هي من أجمل المواقع في لبنان، ومساحة عدد منها يتجاوز عشرات آلاف الأمتار، بقيت محظورة على أصحابها، ويتم حاليا العثور على عدة أنواع من الألغام فيها، منها ما هو منفجر ومنها ما هو حاضر للانفجار.

وزارت «السفير» الحقول التي تشهد أعمال تنقيب وإزالة ألغام. والتقت المشرف حسام حجازيه، الذي أكد على «أن العمل في الحقول يتم بإشراف المركز الوطني للأمور المتعلقة بالألغام، الذي يراقب ويكشف بشكل دائم على عمليات التنقيب والتنظيف للتأكد من سلامة العمل ودقته وكيفية التنفيذ والالتزام بالتعليمات المعطاة من قبل الجيش، واكتمال الإسعافات والادوية وغيرها من المستلزمات الضرورية للعمل». وأشار إلى «أن الجيش يسلّم الحقول المزروعة مع التأكيد على وجود ألغام فيها، ويساعد ويدعم ويعطي المعلومات الكافية واللازمة حول نوعية الحقل». وأكد حجازيه وجود 9 أنواع من الألغام الحاضرة للانفجار ضد الأفراد مثل الصواعق والقذائف والتشريكات (أفخاخ). وقد تم العثور على تشريكات من الجهتين الأمامية والخلفية في أحدى الحقول بعرض 80 متراً وطول 300 متر في بلدة الدوق.

كل العدة موجودة ومدروسة في حقول الالغام، الجو هادئ، العمل منظم، التزام دقيق، هيبة الجيش اللبناني حاضرة، دوام العمل محدد بين الخامسة والنصف صباحا حتى الثانية والنصف بعد الظهر، وكل مزيل ألغام (منقب) يحفر مساحة تتراوح بين 8 و15 متراً مربعاً يومياً. حالياً هناك عقار تبلغ مساحته 25 ألف متر مربع في الدوق، يشهد ورشة تنقيب وتنظيف وستستمر حتى شباط 2012، موعد انتهاء التمويل، إلا في حال تأمين تمويل اضافي لاستكمال المشروع.

فريق العمل في حقل الالغام باللباس المخصص ضد الالغام، آلات لكشف الالغام، حقيبة عدة كاملة للعمل بالإضافة إلى كل المستلزمات، كون العمل حذر وخطر ودقيق والالتزام بتعليمات «التصرف الدائم» ضروري جدا. في البداية يتم تحديد الحقل ثم يتم توزيع اعضاء الفريق ـ المنقبين بشكل يكونون فيه بعيدين عن بعضهم البعض، على الأقل 35 متراً على خطوط عدة واتجاهات مختلفة تحسباً لأي طارئ. وقبل الانطلاق إلى الحقول، يتم تعيير المعدات بإشراف المشرف ويتم التأكد من صلاحية الآلة في حقول تجريبية.

اما التنظيف الطبيعي المعتمد من قبل الجيش اللبناني فهو على عمق 20 سنتمتر، لأن حصول الانفجار تحت تلك المسافة يصبح أقل خطورة. وفي نهاية كل يوم عمل يتم فرز أنواع الألغام التي تم العثور عليها، بين حربي أو حديدي، وعندما تجمع الكميات يتم تسليم ما هو حربي منها إلى الجيش اللبناني.

ذلك العمل الإنساني والاجتماعي والاقتصادي، يعيد الحياة إلى طبيعتها في البلدات التي كانت خطوط تماس في منطقة البترون مثل الفتيحات، ودير بلا، وشناطه، ومزرعة المتاولة، وبيت كساب، وحردين، وصولا إلى نيحا، نزولا إلى صورات، وزان، وكفرحتنا، نزولا إلى وادي المدفون الذي يفصل بين قضاءي جبيل والبترون، بالإضافة إلى البلدات التي تشهد عمليات تنقيب حاليا وهي شبطين، وضهر القطلب، وتولا والدوق.

ويتمنى الأهالي في تلك البلدات أن يستمر التمويل من المؤسسات المانحة، لكي يتواصل العمل ويشمل كل البلدات فيستعيد المواطنون رزقهم وتعود الحياة إلى طبيعتها، ويصبح التنقل بين الحقول وفي الأحراج آمنا، فيتمكن الصيادون من ممارسة هوايتهم، ويستثمر الأهالي أراضيهم، وأصحاب مشاحر الفحم يواصلون عملهم بسلام، ليس كما يحصل الآن، حيث في كل لحظة يتم العثور على لغم من هنا أو هناك، من دون معرفة خطورته، وأحيانا يكون جاهزا للانفجار.

تعليقات: