ينتشلون الشهداء بعد انتهاء الغارات (أرشيف ــ كامل جابر)
لم تكد الساعة تتجاوز الخامسة والربع صباح 27 تموز 2006 حتى دوّت الغارة الأولى مستهدفة كفرجوز، وتحديداً منزل عباس رحمة المؤلف من ثلاث طبقات وأخرى أرضية، فدمرت أجزاءً منه. مرّ وقت وجيز ورنّ الهاتف الذي حمل اتصالاً من الزميل الإعلامي علي داود يقول: «سقطت الصواريخ في المبنى المجاور، لم يبق زجاج إلا سقط علينا، أنا وزوجتي وبناتي الأربع. (وَعْد) الصغيرة البالغة خمسة أعوام، سالت الدماء من قدميها وهي ما زالت تصرخ. لو بقينا في الطابق الثاني لانتهينا، وبالتالي لم نسلم في الطبقة الأرضية. أريد إقناع زوجتي بأن تأخذ البنات وتغادر إلى البيسارية (الزهراني)، لعند ذويها...».
محاولات عديدة مع زوجته ليلى، حتى اقتنعت بوجوب مغادرتها المحلة. لكن، ليس قبل الغارة الثانية التي جاءت في مكان قريب، عند السابعة تماماً. ثم كانت الغارة الثالثة، فالرابعة، كل هذه الغارات كانت كفيلة بتحويل كفرجوز إلى كتلة من دخان مختلط. وأدّت إلى سقوط شهيد من الأردن، هو حسام محمد حسين أبو شمط الذي يعمل في معرض للسيارات. كان قد خرج بعد الغارة الثانية التي وقعت في الجوار ليحضر سيارته، فجاءت الثالثة وقتلته. أما الرابعة فاستهدفت مبنيين قريبين، دُمر أحدهما على حسين بسمة وزوجته أنيسة عطوي.
حسين علي بسمة، بائع السمك، لا يقطن في كفرجوز، جاء إلى هناك بعد استهداف حي الراهبات في المدينة حيث يقطن بغارتين. هرب من القصف الذي لا يرحم، وأقام في منزل شقيقته علا التي شيّعها قبل أيام معدودات هي وعائلتها وأحفادها إلى الحدود اللبنانية السورية، ومن هناك إلى الكويت. أقام في منزلها ظناً منه أنه أكثر أمناً، وانتظر أن تحضر زوجته الثانية، التي علقت في بلدة أهلها كفركلا الحدودية بعد تدمير جسر الخردلي.
يقول ابن شقيقه قيس حسن بسمة الذين كان يعيش وإياه في بيت حي الراهبات: «شيء آخر شجّع عمي على الانتقال إلى دارة عمتي في كفرجوز، هو أن والدي حسن وزوجته وولديه صلاح وداليا، وعمتي علا، صاحبة البيت، القادمة من الكويت مع زوجها جواد بهبهاني وأولادهما دانا ووداد ونهاد وأمجد وعلاوي وأحفادهما، وعمتي أزهار ونجليها محمد وحسيبة القادمين من السويد، وعمتي صفاء وأولادها فاطمة وحسين وصفاء، وعمتي دلال وحفيدتها غفران، كانوا كلهم مجتمعين هناك. ولما اشتدت الأحوال والأوضاع صار ينقلهم على دفعات، فأوصل قسماً منهم إلى الحدود مع سوريا ليغادروا إلى الكويت والسويد وأفريقيا، والقسم الآخر إلى حمانا، حيث دارة عمتي هناك، ولم يبق إلا هو وعمتي أم أحمد، دلال، وحفيدتها غفران».
لم ينقطع حسين بسمة في هذا الوقت عن الرواح والمجيء من بيته في حي الراهبات وإليه، وفي أعقاب غارة قريبة على منزل آل حاج علي شرقي بيته، وإصابة البيت بأضرار خلعت الأبواب «جاء ليأخذ بعض أغراضه من هنا، ثم أتى في اليوم التالي وأخذ قسماً آخر، وفي الثالث أخذ جهاز التلفاز وسألني من أين يمكنه تأمين «آنتين» للتلفزيون. سألته لماذا بقيت هنا بعدما أوصلت عماتي، وآخرهم عمتي أم أحمد؟ فأكد لي أنه سيغادر لعندهم، حالما تصل زوجته من كفركلا. وعلمت لاحقاً أنها تمكنت من التوجه نحو جزين ومن هناك إلى صيدا، فالنبطية».
تمرّ خمسة أيام، يظن قيس أن عمه صار خارج المنطقة، في حمانا اتصل به أكثر من مرة وكان الجهاز الخلوي مقفلاً أو مقطوع الإرسال.
يوم الجمعة في 28 تموز، تتصل غادة ابنة دلال بقيس، وتسأله عن خالها حسين «قلت لها إنه في حمانا». سألتني «هل أنت متأكد؟»، وأجبتها نعم. ثم اتصلت عمتي أم صلاح تسأل عنه وطلبت مني أن أذهب لعنده وألا أتركه وحده لأنه يبدو أنه لم يخرج من كفرجوز؛ ثم اتصل ابنها أمجد وسأل إن كانت الفيلا قد تعرضت للقصف، وطلب إلي أن أذهب إلى هناك وأستطلع الأمر، أجبت بأنه لا يمكنني الانتقال على الدراجة النارية إلى هناك. بعدها اتصل صديقي يحيى بدر الدين وسألني عن مكاني، فأخبرته. طلب أن أبقى مكاني، كل ذلك وأظن أن بعض القلق يساور الجميع حولي، لأنني في الحي الذي استهدف بأكثر من غارة. في هذا الوقت جاءت جارتنا أم حبيب تسأل: هل الخبر صحيح؟ أي خبر؟ هكذا علمت الخبر وأن الدفاع المدني أخرج جثة الزوجة من تحت الردم، وبقي أكثر من ساعتين حتى عُثر على جثة عمي مستشهداً على الكنبة».
يقول حسان فقيه من عناصر الدفاع المدني «عثرنا على جثته في الصالون، كان جالساً على الكنبة وقضى عليها، لم يتمكن المنقذون من إخراجه من تحت الردم قبل الحادية عشرة والنصف، قبيل الظهر».
يوم الهدنة، شيّع قيس عمه في جبانة المدينة، ولم يتمكن من دفن زوجته «لأنني لم أجد من يغسلها ويكفنها، أكثر من مرة أخرجتها من براد المستشفى إلى الجبانة، ثم كنت أعود بها، حتى انتفخت الجثة وصارت تنبعث منها الروائح، وقبل خمسة أيام من انتهاء العدوان وجدنا من يغسلها ويكفنها، ودفناها، كنا أربعة أشخاص فقط».
تعليقات: