كانت قدماه تتسمّران في الأرض، وعيناه تقفزان على الأراجيح الجميلة، والأحصنة المتحركة، وقلبه الصغير يكاد ينخلع تعلقاً وتمنّياً أن يكون إلى جانب أقرانه في تلك المدينة التي طالما سكنت مخيّلته واستهوت طفولته البئيسة ..
ومن غمرة التّشهي تسرقه كفّ أمه لتعيده إلى الواقع المقيت، فيجرّ قدميه تثاقلاً ويُبقي وجهه ناحية تربّعَ قلبه الصغير كفراشةٍ استلقت في حضن برعمٍ جنيّ الرحيق ..
ويعاود الاستماع مكرهاً إلى حديث نفسه وأنين الطفولة المهملة في داخله، ليستسلم في النهاية للحقيقة القاسية بأنّ مدائن الألعاب موصدةٌ أمام أولاد الفقراء، وليس لأصحاب الثياب الرثّة والوجوه الموحلة إلا التسكّع على أرصفة العوز، ليشبعوا جوع أعينهم تحديقا، ويمضغوا لُعابا جفّفه الابتلاع الممزوج بالخيبة، الموشوم بالحسرة ..
.. ويكمل سيره المتّئد إلى وجهة بات يعرفها ويمقتها، إلى بيت يعشعش الفقر في كل زاوية من زواياه، وينقش البؤس رسوماً مخيفةً على جدرانه العارية، وتكاد العتمة تغمره لولا ضوءٌ خافتٌ يترامى على الجدران المفتقرة للبوس يستر عوراتها الكثيرة..
وعلى أرضه الإسمنتية الغليظة تتوزع لُمامة مقاعد وأفرشة، وأوان وأوعية جاد بها المحسنون زهداً وتخليا..
في هذا البيت الكئيب يتكوّم صاحبنا الصغير بعد مشوارٍ تعبٍ ليرخي جفونه على ما لصق بعينيه من مشتهيات كثيرة، وليدخل كعادته إلى مدينة أحلامه الجميلة، تلك المدينة المغمورة بالفرح، المسكونة بالراحة، المعروشة بالأمنيات.. ولله تقاطيع أنفاسه سكّيناً تقطّع في نياط القلب إشفاقا .. وتستدّر دموعاً حرّة، وتوقظ في النفس تمرّداًً وثورة ..
غبار الشوارع على خدّيه افتضاح.. وخطوط الوجع على زنديه الطريّين اعتراض ..
.. بظهر بيت اليتيم المنسيّ قصر، يتبجّح فيه الحاكم بأمر الشعب، القابض على الرقاب والأرزاق معاً، البكّاء على أوجاع الناس، الصدّاح بمعاناتهم، ومخالبه الجامحة تمزّق وجوهم! وآذان أزلامه تحصي همسهم، اضطراب أمعائهم جوعاً، وخوفاً تارة أخرى ! ..
الحاكم المتكرّر يزّور إرادة الناس، تاريخ ميلادهم، يستقطع ترابهم، أصواتهم، مستقبل أولادهم، يفرض رسومه على ابتساماتهم ودموعهم، ورسائل غرامهم البريئة، وربما ينفذ إلى أحلامهم ليكون عليها رقيبا..
مفارقةٌ كبيرةٌ وتناقضٌ حاد بين الحاكم والمحكوم، بين المتخم والجائع، بين الصادق والمتزلّف، بين الثوريّ والانتهازيّ، بين الحيّ والميّت!..
في دورة أحلام اليتيم يكتمل المخاض، وتخلع الشّمس عنها السحاب، ويتمرّى القمر، ويلهج الشّعب أبجدية التغيير، وفي هدأة نوم الصغير تصحو أمةٌ كفرت بالسبات وآمنت أنّ خلاصها رهينة وعيها!..
بقلم : الشيخ محمد أسعد قانصو
Cheikh_kanso@hotmail.com
تعليقات: