صدّيقين: العدوان أعادها إلى «الصفر» والإهمال يبقيها فيه

هكذا وجدوا صديقين العام الماضي (م.ع.م)
هكذا وجدوا صديقين العام الماضي (م.ع.م)


«صفر»، هي الدرجة التي عاد إليها محمد حسن بلحص، صاحب «تعاونية الوفاء التجارية»، في اليوم الرابع عشر من تموز .2006 الصفر ذاته هو الدرجة التي سيعاود محمد الانطلاق منها، بعدما دمّرت الاعتداءات مبنى التعاونية في بلدة صديقين الجنوبية وأحرقت محتوياتها بالكامل.

المنزل الكائن فوق المبنى دمّر أيضاً.

عمل محمد في السعودية فترة 3 سنوات جمع خلالها المبلغ الذي سمح له بافتتاح محل صغير في وسط البلدة. احتاج 10 سنوات أخرى من الجهد ليشتري محمد قطعة أرض مساحتها دونمان، بنى منها 850 متراً مربعاً. بعد 3 سنوات، افتتح المؤسسة. عاد إلى الصفر بعد 16 عاماً من الجهد المتواصل، وقف إلى جانبه خلالها جميع أفراد العائلة، من أصغر طفل إلى الزوجة. لمحمد تسعة أبناء، بينهم سبع فتيات، لا يزالون في سن الدراسة.

يقول محمد: «في بداية الحرب، بقيت في القرية كي أحمي التعاونية والمنزل. أحرسهما من الاعتداءات. في اليوم الرابع عشر، اشتد القصف واضطررت إلى الرحيل عن القرية. وفي اليوم نفسه، دمرت التعاونية واحترقت بالكامل».

يحسب محمد خسائره على النحو التالي: 400 ألف دولار بضائع، 250 ألف دولار تكلفة بناء ومخزون المستودعات، 90 ألف دولار ديناً للشركات هو غير قادر على تسديدها، تضاف إليها كلفة المنزل ومحتوياته. تلك هي حصيلة تموز الخاصة بمحمد. أما المقابل الذي حصل عليه من «جهاد البناء» فهو: «27 ألف دولار بعد جهد ومساع كبيرة.. لكني لم أنل من الدولة أي تعويض!».

استدان محمد مرة أخرى من الأصدقاء والناس: «مصداقيتي مع التجار وعدم قدرتي على التسديد من دون معاودة العمل، دفعا بالتجار إلى تسليمي بضائع من جديد، بالدين، على أمل عودة العمل التي ستمكنني من تسديد الدين القديم».

بعد 4 أشهر من توقف الاعتداءات، فتح محمد محلاً تجارياً، ثم شيّد لاحقاً مستودعاً صغيراً. وهو اليوم يحاول إعادة بناء مبنى التعاونية عن طريق الاستدانة.

محمد هو واحد من مئات في بلدة صديقين فقدوا منازلهم ومؤسساتهم خلال الاعتداءات الإسرائيلية في صيف .2006 تبلغ مساحة البلدة حوالى 15 ألف كيلومتر مربع. كبرى عائلات القرية هي عائلة بلحص، ومنها تتفرع عائلات عديدة، بالإضافة إلى عائلات أخرى صغيرة في القرية كعزّام، وبكري، وكسّاب وغيرها. ويقال إن عائلات قديمة أقامت في البلدة منذ سنوات طويلة قبل أن تنقرض، منها بيت المملوك وبيت نجم، بحسب رئيس بلدية صديقين علي زينو بلحص.

عانت البلدة من الاعتداءات الإسرائيلية منذ العام ,1958 واستمرت في تلقي حصتها خلال كل الحروب التي شهدها الجنوب. يقول رئيس البلدية إن لصديقين تاريخاً عريقاً في المواجهة مع إسرائيل. في العام ,1972 كان هناك حاجز للجيش اللبناني عند مدخل البلدة تصدى للجيش الإسرائيلي مدة ست ساعات متواصلة مانعاً إياه من التقدم. وفي العام ,1977 قدّمت البلدة الشهيد علي حسين عزام، وهو الشهيد الأول في المواجهة مع العدو في تلة مسعود. ولقد أدّى اجتياح العام 1982 إلى هجرة الأهالي لفترة قصيرة قبل أن يعودوا إلى البلدة، ويضعوا الإسرائيلي في مرمى عمليات مقاومة عسكرية. خلال هذه الفترة الطويلة من المواجهة، قدّمت صديقين أكثر من 80 شهيداً، منهم 43 سقطوا في مجزرة قانا في العام .1996 خلال حرب تموز ,2006 سقط في البلدة 4 شهداء، وعدد من الجرحى. ولاحقاً، بعد الحرب، سقط خمسة جرحى بفعل القنابل العنقودية.

يروي مختار القرية سليمان علي بلحص ذكريات العودة ومشاهد الدمار في الرابع عشر من آب، يوم توقفت نيران الاعتداءات الإسرائيلية: «كنا خلال فترة الحرب نتابع أخبار الاعتداءات لكن صعوبة وصول وسائل الاعلام إليها تحت نيران القصف جعلت أخبار صدّيقين ممتنعة. لقد تعرضت القرية لقصف شديد ومدمر. رجعنا من التهجير وشفنا الدمار الهائل.. حجم الدمار كان كبيراً ومفاجئاً، من الإنسان إلى المنازل إلى المزروعات والمواشي».

بعد العودة، نشطت البلدية والمخاتير والهيئات الإنسانية والقوى السياسية في المنطقة، من «حركة أمل» و«حزب الله»، من أجل تأمين أبسط مســــتلزمات الحـــياة كالخيم وخزانات المياه الصغيرة. يشرح المختار: «عندما عدنا، لم نجد شيئاً. ولم نتمكن حتى من شراء المواد الغذائية، إذ دمّرت جميع المحال والمؤسسات التجارية في البلدة».

انطلقت البلدية بالعمل من خيمة شيدت قرب مركزها المدمر. لاحقاً، استعان المجلس البلدي بصالون أحد المنازل كمركز مؤقت له. الهدف هو الإسراع في إحصاء الأضرار بعد الحرب تمهيداً لتقديم ملفات التعويض، وتأمين مأوى للسكان العائدين.

يحصي نائب رئيس البلدية محمد حسن عزام الأضرار: «لم يسلم منزل في صديقين من الأضرار. 350 وحدة سكنية مدمرة بالكامل، من دون أن يجني أي ملف التعويضات المقررة له. دمّر 137 منزلاً جزئياً، ولم تدفع تعويضات أي منها بعد. تضرر 647 منزلاً، قبض أصحاب 439 منها الدفعة الأولى. ودمّر حوالى 200 محل كليا».

قدمت «جهاد البناء» مساعدات إيواء بلغت قيمتها 10 آلاف دولار، وقدّمت كلفة ترميم المنازل المتضررة. كما قدمت هدايا رمزية للمؤسسات التجارية لتمكينها من إعادة إطلاق نشاطها. أما السكان فمنهم من استطاع إيجاد مأوى في القرية عند الجيران أو الأقارب، ويسكن حوالى 15 مسناً في المدرسة القديمة. أما بعضهم الآخر فترك القرية إلى المناطق المجاورة، ويسكن حوالى ثلث الأهالي حالياً خارج صديقين، بحسب عزام: «فزادت المعاناة وزادت الأعباء والتكاليف، من إيجار المنزل إلى تكاليف النقل والمدارس إلى الأعباء المعيشية».

تعتمد بلدة صديقين على النشاط الزراعي من جهة وعلى النشاط التجاري وبعض الصناعات الخفيفة، كالحدادة والألمنيوم ومعامل البلاط وغيرها، من جهة ثانية. أدّت الحرب إلى ضرب موسم تموز وآب بشكل كامل تقريباً. فتلف حوالى 80 في المئــــة من إنتاج الدخــــان في أرضه، وتم تسليم 20 في المئة فقط من الإنتاج، بحسب رئيــس البلدية.

لاحقاً، تم زرع جزء من الأراضي، ولم تتم زراعة مساحة واسعة منها لسببين: يتمثّل الأول بالقنابل العنقودية المنتشرة في الحقول والتي تمنع المزارعين من استثمارها، والثاني بعدم قدرة المزارعين على استعادة نشاطهم بسبب تراجع قدرتهم الاقتصادية بعد خسارة موسم الصيف الماضي. يقول المختار بلحص: «يملك 400 مزارع في القرية رخص زراعة التبغ. كان معظم المزارعين يستدينون من المصارف بضمانة الموسم. كسرت الحرب المزارع على الموسم الأول وعلى الموسم الحالي، فيما الفوائد والديون تتراكم في المصارف».

ولذلك، يبقى ملف التعويضات الهمّ الشاغل لسكان البلدة. يقول عزام: «مجلس الجنوب كشف على الأضرار فور انتهاء الحرب، ورفعت الملفات إلى شركة «خطيب وعلمي» على أن يتم الدفع عبر «الهيئة العليا للإغاثة» من المنحة السعودية. لكن الشركة قامت بإعادة الملف عدة مرات بحجج مختلفة ولتأمين مطالب جديدة معقدة».

تبلغ قيمة التعويضات 60 مليون ليرة عن الوحدة السكنية المهدمة كلياً، تقدّم على دفعتين وتتضمن التجهيزات والأدوات المنزلية، علماً أن أسعار مواد البناء ارتفعت بشكل كبير بعد الحرب: «ويتم التعامل مع جميع الوحدات بالتساوي، مع أنه يمكن لمساحة الوحدة أن تكون 300 متر أو 50 متراً مربعا»، الأمر الذي يشكّل خللاً في آلية التعويض بحسب رئيس البلدية.

إلى جانب أضرار المنازل والمؤسسات التجارية، أدت الحرب إلى تدمير حسينية مساحتها حوالى ألفي متر مربع، وخلّفت أيضاً الأضرار في المساجد، وأضراراً بسيطة في المدرسة الجديدة، وفي شبكة الهاتف الأرضي التي ما زالت معطلة، «على الرغم من التواصل مع «أوجيرو» لكن من دون جدوى». ولقد تولّت البلدية مهمة إصلاح الأضرار في شبكتي الكهرباء والمياه.

من جهتها، توّلت الهـــيئة الإيرانية إصلاح الطرقات العامة والرئيسية فقط، فيما ألقيت مهمة إصلاح الطرقات الداخلية على عاتق البلدية «المفلـــسة»، حسبـــما يصفها رئيسها بلحص. أما المساعدات التي وصـــلت القرية من الدولة فاقتصرت على حصص غذائية قدّمتـــها «الهيئة العليا للإغاثة» ولم يتجاوز عددها الثمانمــئة حصة.

وعلى الرغم من سيطرتها، لم تقتصر الأزمة في صدّيقين على المستوى الاقتصادي فحسب، إذ ان القرية عانت بعد الحرب، كغيرها من البلدات الجنوبية، من انتشار كثيف للقنابل العنقودية في أرضها وخصوصاً حول منازل سكانها (5 جرحى). بدأ في هذا الإطار عمل الجيش اللبناني وفرق نزع الألغام، بتنسيق «المكتب الوطني لنزع الألغام»، منذ حوالى 4 أشهر. وتم حتى يومنا هذا نزع نسبة كبيرة من القنابل العنقودية، معظمها من المناطق السكنية، بحسب بلحص.

يختم عزام وصفه لحال صديقين بأنها عانت من الحرب أولاً، وهي تعاني حالياً من استمرار الإهمال.

كانت صديقين أكبر مركز تجاري في محيطها، واليوم عدنا إلى الصفر. أو ربما قبل الصفر بقليل، فلقد بات الأهالي عاجزين عن تأمين لقمة العيش.

تعليقات: