نازحون صغار (م.ع.م)
لم تكن منطقتا عاليه والمتن الأعلى بمنأى عن حرب تموز وتداعياتها المباشرة قصفاً للجسور وللطرقات.
استهدف المعتدون محطات تقوية إرسال شبكات الهاتف الخلوي وقصفوا عمود إرسال فضائية «المنار» في بلدة كيفون قبل نحو ساعة من موعد وقف إطلاق النار في الرابع عشر من آب الماضي.
وكانت المنطقة، ككل المناطق اللبنانية، في قلب الحرب، سواء من خلال الاستهداف المباشر للضاحية الجنوبية ولمواقع الجيش اللبناني في اليرزة وجوارها، أو مع بقاء المقاتلات المعادية حاضرة في سمائها ترخي ظلال الخوف على المواطنين وعلى النازحين الذين تساووا في المعاناة. معاناة فرضتها معركة كان الجميع معنيا بها. من القتال والمواجهات البطولية المباشرة في الجنوب إلى مواكبة الهجرة الثالثة القسرية لأبناء الجنوب والبقاع الغربي.
طاول التجهير هذه المرة الضاحية الجنوبية وبعض مناطق العاصمة. ظل الحذر مخيماً على الطرقات الرئيسية خوفا من استهداف شاحنات نقل الخضار التي ادعى طيران العدو أنها شاحنات تمد «حزب الله» بالسلاح.
كان النزوح أكبر من كل المرات السابقة، فكيفون مثلا، والتي تعد ثلاثة آلاف نسمة، استقبلت في بيوتها ومراكزها العامة نحو ستين ألف نسمة، أي ما يزيد عشرين مرة عن عدد سكانها.
ساهم في كثافة النزوح إلى كيفون، الغالبية الشيعية للبلدة وروابط القرابة ما بين عائلاتها وبين النازحين. ومع ذلك، فاق حجم النزوح كل التوقعات ودفع بالقيمين على المجلس البلدي والقوى السياسية إلى تحويل العائلات إلى القرى والبلدات المجاورة.
يلفت مهدي سرحال، وهو أحد أبناء البلدة، إلى أن صعوبات كبيرة واجهت مواكبة حاجات «أهلنا، فبعض المنازل استضافت سبع عائلات»، ولفت إلى أن «علاقات القربى سهلت عملية الاستيعاب لهذا العدد الكبير في المنازل».
ودفعت الظروف الصعبة في تلك الفترة المسؤولين إلى فتح فندق «ريزيدانس اوتيل» الواقع بين سوق الغرب وكيفون، وهو فندق مقفل وضع المصرف المركزي يده عليه كواحد من ممتلكات رنا قليلات، واستوعب نحو 180 عائلة. فيما ضمت مدرسة كيفون 300 عائلة، والحسينية نحو مئتي أسرة.
ينوه أحمد ناصر الدين، ابن البلدة، «بالدور الذي قامت به بلدية كيفون بالتنسيق مع قائمقام عاليه»، ويثني على «الجهود الكبيرة التي بذلتها القوى السياسية في البلدة ولاسيما منها «حزب الله» الذي استطاع تغطية حاجات أهلنا من خلال لجنة الامداد وتأمين المتطلبات الملحة لبعض الحالات الانسانية».
كما انه يشير إلى أنه «لا يمكن التقليل من دور الهيئة العليا للإغاثة بالرغم من مساعداتها القليلة، خصوصاً إذا علمنا أن الهيئة قدمت لكيفون أكثر بكثير مما قدمته لقرى وبلدات أخرى».
ويؤكد «اننا سنكون بالجهوزية نفسها اذا وقع عدوان آخر»، ثم يستدرك «لكن على المسؤولين أن يكونوا حاضرين أكثر، فليس سهلاً على ثلاثة آلاف نسمة استقبال أكثر من خمسين ألف نسمة ولذلك فإن ما أنجزته كيفون يشكل جزءاً من المقاومة الاجتماعية والإنسانية».
عاليه خلية نحل
ما عاشته كيفون عاشته أيضاً القماطية، جارتها بحكم التشابه الديموغرافي للبلدتين.
إلا أن المشهد أكبر من أن يختزل بهاتين البلدتين، فكل قرى وبلدات المتن الأعلى وعاليه شرعت أبوابها للنازحين ليس كواجب إنساني وحسب، وإنما كفعل نضال كان يلاقي تضحيات المواطنين الناجين من أتون المعارك.
ويشير وليد أبو الحسن، نائب رئيس بلدية بتخنيه في المتن الأعلى، إلى أن البلدية وأهالي البلدة لم يتمكنوا من انتظار وصول مساعدات الهيئة العليا للإغاثة والمؤسسات الإنسانية الأخرى، فنظموا حملة تبرعات في ما بينهم و«تمكنا خلال الأيام الخمسة الأولى من تأمين الفرش والأغطية والمواد الغذائية والطبية».
يضيف: «عمدنا أيضاً إلى شراء جهاز تلفزيون جديد ووضعناه في متوسطة بتخنيه الرسمية ليكون أهلنا على اطلاع يومي على مجريات الأوضاع الأمنية والسياسية».
أما مدينة عاليه، فقد تحولت إلى خلية نحل في عمل استثنائي كان التطوع سمته الأولى، وتحلق الناشطون في الجمعيات الأهلية حول المجلس البلدي، وتوزعوا على المراكز الرئيسية التي استحدثت في ثانوية مارون عبود الرسمية والمدارس الرسمية المتوسطة، فيما تحول مركز القائمقامية إلى غرفة عمليات لإدارة عمليات الإغاثة ومواكبة حاجات النازحين.
ويشير نائب رئيس بلدية عاليه سمير خوري إلى أن «عدد أهلنا الذين كانوا مسجلين في قوائم النازحين تراوح بين ثلاثة آلاف وستة آلاف مواطن، ذلك أنه كان ثمة من يأتي ويمكث فترة ويغادر بعدها إلى مكان آخر»، مؤكدا أن «العدد الحقيقي تجاوز الثلاثين الفا ذلك ان النسبة الاكبر من أهلنا النازحين حلوا ضيوفاً في منازل أقارب وأصحاب ومعارف فضلاً عن أن كثيرين من الميسورين ومتوسطي الحال شغلوا الفنادق وقطاع الشقق المفروشة، وهؤلاء جميعاً لم يكونوا مسجلين في القوائم الرسمية ممن كانوا يحصلون على مساعدات غذائية وطبية».
ويتذكر خوري كيف أن المجلس البلدي اضطر الى صرف مبلغ أكبر مما يتيحه القانون له «وتحملنا تبعات هذا الأمر لأننا لم نكن قادرين على استكمال بعض الإجراءات القانونية وسط الروتين الإداري فيما أهلنا بأمس الحاجة لمساعدات سريعة لا سيما في الأسبوع الأول»، ولفت إلى أن «التنسيق في هذا المجال كان كاملاً مع قائمقام عاليه منصور ضو».
ونوه خوري «بدور نواب عاليه في اللقاء الديموقراطي الذين واكبوا معنا ولحظة بلحظة حاجات أهلنا وشكلوا جسر تواصل بيننا وبين المؤسسات الإنسانية والاجتماعية الرسمية والأهلية».
أضاف خوري: «لم يقتصر عملنا على استيعاب وتأمين حاجات ومتطلبات أهلنا فحسب، وإنما أعددنا مجموعة من الأنشطة بالتعاون مع الجمعيات الأهلية للتخفيف عنهم وكان المجلس البلدي حاضنا لهذه الجمعيات كافة التي تطوعت للعمل الى جانبنا وكل مواطن قام بواجبه، وكان ثمة اهتمام استثنائي بالنواحي الصحية، حتى ان المجلس البلدي تابع علاج مئات الحالات في مستشفيات المدينة».
ومما يسترعي الانتباه أن ربات البيوت في مدينة عاليه اللواتي كن بعيدات عن العمل المباشر، شكلن لجنة خاصة ونظمن مجموعة من الانشطة.
تقول وفاء عزام «دفعتنا الظروف الصعبة وامتداد الأزمة لفترة طويلة، لنقوم بدور ما، فكانت فكرة تشكيل اللجنة، والنشاط الأهم كان عبارة عن حملة نظافة واسعة بالتعاون مع بلدية عاليه شملت كل الأحياء والشوارع».
كانت نهى جابر، طالبة العلوم الاجتماعية، أول من نظم لقاءات يومية ترفيهية للأطفال، وهي تقول: «انني من خلال هذا النشاط كنت أستمد القوة من الأطفال والأولاد، فيما كان كثيرون يظنون انني انا من يمدهم بالقوة، وهكذا تجاوزت الخوف على وقع دوي الانفجارات التي لم تغب عن عاليه».
أما رئيس «جمعية تجار عاليه» سمير شهيب، فيقول «عندما شاهدنا بعض أهلنا النازحين يفترشون الأرض في مناطق حرجية عمدنا على الفور الى دعوتهم الى منازلنا ومؤسساتنا ومدارسنا». وقال: «في الفترة الأولى وقبل أن تبدأ الهيئة العليا للاغاثة والمؤسسات الانسانية بالعمل، قمنا كجمعية بالتعاون مع المجلس البلدي والجمعيات الأهلية بتأمين المستلزمات الضرورية لأهلنا من الجنوب والضاحية وبيروت».
قرى العودة
أما اللافت للانتباه، فكان احتضان قرى العودة في الجبل للنازحين، فالأهالي الذين عرفوا التهجير سنوات طويلة، أمدوا النازحين بمقومات الصمود، ففتحت المدارس والمنازل وتقاسم الجميع هموم اللحظة، ولا سيما في قرى الاصطياف من حمانا إلى فالوغا وصولاً إلى بحمدون والقرى المجاورة.
ويشير رئيس بلدية فالوغا سمير غانم، إلى أن أهالي البلدة تمكنوا من تأمين وجبات طعام ساخنة لأهلنا النازحين، لافتاً إلى أن «البلدية تأخذ عادة من الباعة المتجولين رسوما ولكن خلال العدوان كنا نأخذ من كل شاحنة صندوقتي تفاح أو خضار وغيرها وأحياناً كنا نحصل على قارورة غاز وكانوا هم فرحين بأنهم يساهمون معنا في دعم أهلنا النازحين».
ولو وقع عدوان آخر؟
وفي ظل الانقسام السياسي الحاد الذي يشهده لبنان حالياً والفرز الطائفي والمذهبي الذي يطبع الحياة العامة يبقى ثمة سؤال: ماذا لو شهد لبنان عدواناً اسرائيليا على غرار ما حصل العام الماضي؟
قبل الشروع في استطلاع آراء المواطنين في عاليه والمتن الأعلى، كان يتملكنا شعور محبط، ذلك أن حال التشرذم بلغ مداه وتحول عداءً طوائفيا ومناطقياً، إلا أن محصلة الجولة واللقاءات السريعة مع المواطنين، حملت الكثير من الأمل، لجهة أن اللبنانيين متساوون بالوجع: «ألم يكن ثمة خلاف سياسي بين حزب الله ووليد بك (جنبلاط) خلال عدوان تموز الماضي؟» يتساءل سامر بلوط من مدينة عاليه، ويضيف: لقد قال وليد جنبلاط في الساعات الأولى انه في هذه اللحظة علينا مواجهة العدوان ولن نبحث في أمور أخرى وأوعز لنا بالعمل على حسن وفادة أهلنا، والآن لم يتغير شيء والخلاف السياسي لا نقدمه على قضايا على مستوى الوطن.
أما عمر غريزي المقرب من الحزب التقدمي الاشتراكي فيقول: «نتمنى ألا يتكرر ما حدث في تموز الماضي، أما اذا ما حصل عدوان جديد ـ لا سمح الله ـ فسنقول كلمتين فقط: اهلا وسهلا».
وعبر ربيع ناصر الدين عن تمنيه «فقط بألا يكون هناك حضور مسلح لحزب الله في مناطق الجبل، وهو أمر أدى خلال عدوان تموز لبعض الحساسيات»، وأشار إلى أنه عمل متطوعاً في أحد المراكز في عاليه «وهذا أقل ما يمكن أن نقوم به تجاه أهلنا».
ثم استدرك سائلا: «لكن لماذا تريدون أن تعود الحرب؟».
ويعتبر سامر حمزة «اننا جزء من المقاومة وان كنا تخلفنا عنها الآن لظروف واعتبارات كثيرة»، مؤكدا أن «تاريخ هذه المنطقة هو تاريخ نضال ومقاومة، ومئات من الشهداء سقطوا من جرود عاليه والمتن الأعلى في الجنوب وفي فلسطين وبينهم استشهاديون كثر، من إنعام حمزة الى وجدي الصايغ وابتسام حرب».
ويلفت إلى ان «المقاومة تمثل ضمير الشعب اللبناني ونتمنى على البعض أن يفيق من سباته وألا يبقى مرتهنا لأميركا»، قبل أن يردف: «عندما نكون مستعدين لبذل الدماء على مذبح الوطن فإننا حتما سنضع أهلنا الجنوبيين في حدقات العيون». أما سعيد زين الدين، فيقول: «أنا مع وليد جنبلاط. ومن قال ان وليد جنبلاط ضد المقاومة؟ هناك أمور سياسية دفعته لاتخاذ موقف صريح من الصراع العربي ـ الاسرائيلي، لجهة ألا يكون لبنان وحده ساحة قتال مع العدو، واذا بدل جنبلاط من موقفه فأنا لن أقف معه، ووليد جنبلاط لا يمكن أن يخرج من جلده وتاريخه. ولا يجوز طرح سؤال حول مدى استعدادنا لاستقبال أهلنا في الجنوب، فبديهي أن نكون في الموقع ذاته الذي كنا فيه السنة الماضية».
واعترف ايليا الهبر بوجود «حساسيات بين الطوائف ولكننا لا نفرق بين لبناني وآخر، وفي العدوان الماضي فتحنا بيوتنا في بحمدون وجوارها ونحن على استعداد لاستضافة أهلنا ـ ولنقل الأمور بصراحة ـ أهلنا الشيعة، لكن نتمنى ألا تعود تلك الأيام السود».
أما ليلى ضو فتعتبر أن «المشكلة هي في المسؤولين الذين أوصلوا البلاد إلى هذا الدرك»، وتلفت إلى أن «الاحتقان السياسي هو نتيجة حتمية للخلافات القائمة» مؤكدة أن «أي عدوان جديد سيعني حكما الابتعاد عن الخطاب السياسي الغرائزي، لأنه يساهم في توحد اللبنانيين في المعاناة واقتسام لقمة العيش الواحدة، فلنتذكر الأجواء التي كانت قائمة قبل 12 تموز وكيف أصبحت في ظل العدوان».
ثم تضيف ان: «الجبل هو الجبل، وكذلك الجنوب، ولو ألمت بالجبل محنة فإن أهلنا الجنوبيين سيشرعون أبواب بيوتهم لنا، هذا هو لبنان».
تعليقات: