مشهد عام لحاصبيا
توسّع العمران العشوائي وتلاشي الاختلاط الطائفي في المنطقة الأكثر تنوّعاً
قد تكون القرى والبلدات في قضاءي مرجعيون وحاصبيا، من أكثر مناطق لبنان اختلاطاً وتجاوراً طائفيين. لكن موقعها في جنوب لبنان الشرقي، وعلى تخوم المأساة الفلسطينية وتحولها مأساة لبنانية وإقليمية منذ ما سمى بـ "اتفاق القاهرة" (1969)، جعلاها صورة نموذجية لأمراض لبنان المحلية والإقليمية المتناسلة.
يشعر العابر، الملم بأحوال قرى جنوب لبنان الشرقي وبلداته الحدودية – من راشيا الوادي البقاعية الى مرجعيون والخيام فالقليعة، ومروراً بقرى قضاء حاصبيا – بأن مشاهد الحياة الخافتة والذاوية فيها تنطوي على عصاب مزمن ومختنق يداخل عمرانها واجتماعها والعلاقات ما بين أهاليها المتضائلة أعدادهم حتى في مواسم الصيف. هذا من دون أن يوقف هذا التضاؤل توسع العمران في بعض من هذه القرى والبلدات، ونشاط بيع الأراضي والعقارات وشراءها في بعضها الآخر، فيتخذ النشاط هذا طابع الخوف والتربص والحصار والخندقة. كأنما موقع هذه القرى والبلدات الحدودي على تخوم المأساة الفلسطينية التي تحولت مأساة لبنانية وإقليمية، أقله منذ "اتفاق القاهرة" في العام 1969، وكذلك الاختلاط والتجاور الطائفيان فيها وبينها، صورة نموذجية مكثّفة لأمراض لبنان المحلية والإقليمية المتناسلة.
في شبعا مثلاً، القرية الجردية القصوى عند مثلث الحدود اللبنانية والسورية والإسرائيلية في جبل الشيخ، يتجلى المرض حتى في أشجار الجوز المعمرة في أودية غنية بمياه الينابيع. ولا يعفُّ المرض عن بساتين التفاح والكرز والخوخ والإجاص المروية، التي قال أحد أبناء البلدة إن 75 في المئة منها بارت واكتسحت أشواك العليق أشجارها المثمرة المهملة والمهجورة. لكن دبيب المرض والبوار والهجران يضاعف قوة دبيب العمران العشوائي المتلاصق في القرية وعلى تخومها الجردية وفي بساتينها وكرومها، كما تتوسع مقابرها، من دون أن يتزايد عدد سكانها المقيمين، ولا العائدين الى الاصطياف فيها في مواسم الصيف. المسيحيون الذين كانوا يشكلون ربع سكانها في خمسينات القرن العشرين، انقرضوا اليوم، إلا من شخصين أو ثلاثة مسنين ومثلهم من النساء، فيما الكنيسة الصغيرة على منحدر يعلو قبور المسيحيين الخربة منذ سنين كثيرة، جدّد بناؤها، وتركت مقفلة ومهجورة إلا من عشب الهجران في باحتها الخارجية التي تتوسطها شجرة زيتون معمرة. أما المسلمون السنّة – ومعظمهم غير مقيمين في قريتهم، ولا يزورونها إلا في أوقات ومناسبات متباعدة، آتين اليها من بيروت وضواحيها ومن مهاجر الخليج – فيتساءل المرء عمّا يحملهم على تشييد البيوت العشوائية المتلاصقة، بما يتجمع لديهم من أموال أعمالهم البيروتية والخليجية، كأنهم في حال حرب ضروس على الطبيعة الجردية القاسية، وعلى كل نبتةٍ خضراء في جنباتها؟!
في راشيا الوادي، وهي صارت مدخلاً جديداً للعرقوب من جهة البقاع، تخفت الحياة حتى الرمق الأخير في سوقها التراثي العتيق، برغم تجديد عمارته وتحديثها، ورصفه بأحجار الغرانيت الأنيقة واللامعة السواد في شمس الصيف وضوئها الباهر، لكن الخاوي. صاحب أحد متاجر السوق يغفو غفوة هانئة في الظل على كرسي من الخيزران أمام متجره. مزين الشعر في صالونه العتيق الأنيق، جالس وحده على كرسي الحلاقة أمام المرآة الكبيرة. تسأل فتىً يعبر منفرداً السوق عن السبيل الى شراء صحيفة من الصحف المعروضة خلف زجاج متجر، فيقول إن صاحبه لن يعود قبل أقل من ساعتين. وفي مشهد إجمالي لراشيا تبصره من أعاليها، ترى بيوتها الحجرية القديمة والأنيقة تعلوها سقوف القرميد الزاهي، لكن الجمود المزمن في المشهد الجميل، ينبئ بأن دبيب الحياة في جنبات هذه البيوت البهية، ضئيل ومتخافت. وتحدس ايضاً أن ما أبقى تراث الحجر والقرميد على حاله في راشيا، هو انقطاع أهلها المهاجرين عنها، اضافة الى شيء من ثقافة عمرانية موروثة ومحافظة، لا تزال حيّة في اجتماع أهلها المقيمين، على قلتهم وعدم انقيادهم الى عمران الباطون السريع الذي يغزو حاصبيا التي كان تركيبها الديموغرافي الطائفي شبيهاً براشيا الوادي.
حاصبيا، وهي مركز قضاء وفيها قلعة أو قصر للأمراء الشهابيين، كانت في المنطقة (العرقوب) نموذجاً للإختلاط الديموغرافي الطائفي ما بين المسيحيين والدروز والسنّة. لكن انهيار هذا الاختلاط في زمن الحرب وما بعده، شرّع العمران فيها على نحو شبيه بعمران شبعا في عشوائيته وتلاصقه الباطوني شبه الأجرد، فوق بيوت الحجر العتيقة، وفي دكاكين سوقها التجاري القديم الذي حوصر واختنق وضاقت جنباته، وتكاثرت فيه متاجر الأثاث الجاهز الذي يؤثث بيوت الاسمنت، من دون أن يدري المرء لماذا تكاثرت، ما دام عدد السكان المقيمين يتناقص، وفقاً لوارث أحد أقدم مقاهي السوق في ساحة حاصبيا التي ضاقت مساحتها حتى الاختناق. أما قلعة الأمراء الشهابيين أو قصرهم الذي قد يكون تشييده أسبق زمناً من تشييد قصر بيت الدين الشهابي، فمنشورة قطع من ثياب على شرفات باحته الداخلية الواسعة، والنابت عشب الهجران ما بين بلاطاتها الأثرية، والمصبر ركام الخراب في الأقبية التي تفضي اليها الباحة. والزائر العابر في جنبات القلعة – القصر التراثي المهيب، برغم تداعي أعالي جدرانه، وإضافة بعض من شبابيك الألمنيوم والزجاج النابية، لسدّ القناطر والنوافذ الحجرية، لن تخفى عن ناظريه تلك العراقة المعمارية السلطانية لأمراء الزمن اللبناني الآفل، كزمن عمارة الأمراء اللمعيين في المتين في جبل لبنان.
مزرعة أو قرية أبو قمحة الصغيرة في وادي الحاصباني، المسبوقة ببساتين الزيتون وكروم العنب على طول الطريق الذي يدخل اليها من أسفل حاصبيا، مهجورة إلا من رجل رأيناه من السيارة، كهارب بُوغِتَ، فأسرع الى الاختفاء بين بيوت خربة وأخرى قيد الانشاء على تلة تكتنفها أشجار الزيتون والتين. وحده مشهد الكنيسة في طرف ساحة خالية، ينبئ بأن قرية كانت هنا، وخلت من أهلها القلائل، منذ أن اتخذها أبو خالد العملة مقراً لقيادة كتيبته العسكرية الفلسطينية ولعسكرتها في البساتين في مطالع سبعينات القرن العشرين. لكن لماذا ترمم الكنائس وتجدّد وتشمخ مبانيها في القرى المهجورة؟ ربما أملاً في عودة الأهالي، وتشجيعاً لهم على العودة الى ديار غادروها منذ سنين كثيرة. أما إبل السقي في السهل الفسيح المتصل بسهل مرجعيون – الخيام، فيبعث شيئاً من الحياة في مقاهيها على الطريق الداخلة اليها، جنود قوات "اليونيفيل" الذين تزوج بعض منهم فتيات من البلدة. ففي أحد هذه المقاهي تتكاثر على الجدران صور لحفلات الزواج ولسهرات الجنود، فيما هم يشربون البيرة خلف البار في زاوية المقهى الذي يستعيد صاحبه الشاب ذكريات حروب كثيرة، آخرها حرب تموز 2006. والمرور في إبل السقي يبعث على تذكر إبنها الراحل سلام الراسي، المشهور برواية الحكايات الشعبية اللبنانية ونشرها في كتب كثيرة خشية عليها من الضياع والاندثار. فهل يشبه دبيب الحياة المتبقية في عمران إبل السقي ومرجعيون والقليعة ودير ميماس، تلك الحكايات المروية في كتب الراسي؟
العابر لمرتين أو ثلاث في مرجعيون هذا الصيف، لا يتذكر أنه أبصر شخصاً في ساحتها المرصوفة بأحجار الغرانيت العتيقة، والتي كانت رئة قضاءي مرجعيون وحاصبيا حتى نهايات سبعينات القرن العشرين. ساحة شبه خاوية ومهجورة إلا من سيارات قليلة تعبر من دون توقف. فزمن مرجعيون، حينما كانت الحاضرة المحلية الأولى والأرقى في جنوب لبنان الشرقي، اندثر وصار أثراً بعد عين، كأنما لم يبقَ منه سوى وفرة الإسفلت الطازج الذي يفرش على الاوتوستراد المستقيم ما بين ساحتها وبلدة القليعة المتصلة بها، قبالة الخيام على التلة الموازية، والتي كتب شاعر من أبنائها في قصيدة له مطالع السبعينات: "والياس والأجراس سالت على آحاد مرجعيون". والعابر اليوم في آحاد حاضرة ذلك الجنوب الممتد من سفوح جبل الشيخ الى السهل الفسيح، يشعر بشيء من كآبة فسيحة تمتد على مدى البصر في المساحات المنبسطة بين البيوت الحجرية المتباعدة. بيوت بعضها رُمّم وجُدّدت عمارته، فبدا بهياً للنظر الذي ينبئ بأن أهل البيوت لا يأتون اليها إلا في آحادٍ صيفية متباعدة، فيضجرون فيها، وفقاً لقول أحد أبناء مرجعيون المقيم في بيروت، والذي روى ايضاً أن إقامة عشاء قروي في مناسبة عيد انتقال السيدة العذراء في كل من مرجعيون والقليعة، انتهيا بشجارين بين شبان من أبنائهما وشبان من القرى المجاورة.
هذه المشاهد الصامتة من رحلة عابرة في بعض من قرى قضاءي مرجعيون وحاصبيا وبلداتهما، تلخص ما يشوب الحياة اللبنانية من مفارقات مزمنة وتتراكم يوماً بعد يوم. واحدة من المفارقات تتجلى في توسع العمران وتكاثف الهجرات المسيحية من القرى والبلدات المختلطة طائفياً. هذا إضافة الى تزايد العمران شبه العشوائي والشرس في البلدات والقرى التي تلاشى فيها الاختلاط الطائفي والحضور المسيحي. أما القرى والبلدات المسيحية فتعيش البقية الباقية من أهلها على قلق وخوف وخفوت اجتماعي وعمراني، في انتظار معجزة تعيد الى الزمن اللبناني شيئاً من الطمأنينة والتوازن اللذين لا يلوحان في مستقبل منظور.
محمد أبي سمرا
(mohamad.abisamra@annahar.com.lb )
القلعة او القصر الشهابي في حاصبيا
تعليقات: