القذافي داخل باب العزيزية في نيسان الماضي
... وكان لا بد أن تأتي النهاية مأساوية ومفجعة ومهينة، وأن يتهاوى التاريخ الذي ارتجله الملازم الشاب معمر القذافي ليرفع نفسه فوق البشر جميعاً، أباطرة وملوكاً ورؤساء، مقرراً أنه صاحب رسالة تقرّبه من الأنبياء وإن خصته بصلاحيات وصفات لم يطلبوها بل إنهم تورّعوا عن ادعاء امتلاكها.
لقد عاش معمر القذافي طويلاً جداً خارج الزمان. اصطنع لنفسه تاريخاً وفرضه على شعبه. بدّل البدايات فقرّر أن وفاة الرسول العربي هي نقطة البداية لا هجرته. وفي الفاصل بين التاريخين وجد لنفسه دور مجدّد الرسالة ومترجمها المعاصر عبر كتابه الأخضر ونظريته العالمية الثالثة التي رأى فيها وقدمها على أنها الدين الجديد. ابتدع لبلاده اسماً غير الأسماء جميعاً، وللشهور أسماء مبتكرة، ونظام حكم فصّله على مقاسه: تختفي فيه الدولة ومؤسساتها وإداراتها وتكثر اللجان وتتشعّب لتظل السلطة والثروة والسلاح عنده وحده، هو الذي ليس رئيساً وليس ملكاً، ولكنه فوق الحكّام جميعاً باعتباره «القائد» صانع التاريخ الإنساني الجديد.
ها هي الدورة تكتمل مجدداً: قائد الثورة الذي طالما تباهى بأنه قد طرد المستعمرين الثلاثة من بلاده التي كانت فقيرة فتفجّرت أرضها بأنهار الذهب، يتسبّب في عودة قوى الاستعمار الموحّدة الآن لتحتل ليبيا بعد تدميرها بيتاً بيتاً، زنقة زنقة، داراً داراً، مدينة مدينة، قرية قرية، قبيلة قبيلة... فلا يبقى فيها سالماً إلا آبار النفط التي أمدته طويلاً بأسباب تجبّره وتفرّده وقدرته الاستثنائية على البقاء في موقعه، ثم صارت مقبرته ومصدر الشقاء للشعب الليبي الذي كان يسمع عن الثروة ولا تصله لتصنع له غده الأفضل، ثم ها هي تتسبّب في استرهان مستقبل أجياله الآتية لدى «محرّريه» الأطلسيين وشركائهم من أهل النفط العربي الذين يستعيرون هذه الأيام أثواب قادة تحرير الإنسان العربي من «الطغاة» الجمهوريين، لقباً، والذين تجاوزوا صلاحيات الملوك والسلاطين (وهي غير محدودة وتكاد لا تبقي شيئاً لخالق الخلق عز وجلّ..).
طبعاً، هذا لا يبرّئ «الثوار»، ولا يحوّلهم إلى «محرّرين» قطعاً، ولا يضفي على الحلف الأطلسي صفة «نصير الشعوب» ولا يجعله «المنقذ» الذي أخذته النخوة وأوجعه امتهان كرامة الإنسان في ليبيا، فبادر إلى تسخير أساطيله في دك المدن والدساكر والقرى وارتكاب المجازر، مما جعل شعب ليبيا ضحية السفاحين جميعاً، الأطلسي بطيرانه ومدمراته وكتائب القذافي بمدافعهم وصواريخهم والدبابات.
كان الخيار بائساً، فليس استقدام المستعمِر الجديد لتحرير البلاد من الطغيان، تقدماً نحو الحرية واستعادة لكرامة الإنسان المهدورة منذ عقود عديدة، وعشية الذكرى الثالثة والأربعين للثورة التي دخلت على الليبيين بصورة جمال عبد الناصر وكلماته، والادعاء بأن قيادتها إنما جاءت لتأخذ هذه البلاد الغنية بشعبها العربي الطيب والأصيل ونفطها الممتاز إلى معركة التحرير وبناء المستقبل الأفضل التي تتولى مصر عبد الناصر قيادتها.
لقد اغتال قائد «ثورة الفاتح» ثورته مع نهاية عامها الأول، فمع رحيل جمال عبد الناصر فوّض نفسه بقيادة الأمة... ثم أغراه الفراغ بأن يمد مداه الثوري إلى المسلمين جميعاً فإلى الناس كلهم.. ومكّنه «سلاح النفط» من أن يشتري أحزاباً ومنظمات، ثم دولاً ودويلات، بل ومن اقتحام الدول العظمى في عقر دارها، وأن يفرض عليها تغيير القوانين وقواعد التعامل بين الدول: أناخ جماله ونوقه في حدائق القصور الرئاسية في عواصم القرار، وأجبر بعض مستعمري ليبيا وسفاحي شعبها على الاعتذار، كما مع إيطاليا. وبديهي أن يجتاح الدول الأفريقية الفقيرة حتى تمّ تنصيبه ملك ملوك أفريقيا.
ولسوف يقال الكثير عن هذا «القائد» الذي شغل العالم لأربعة عقود، والذي بدأ ثائراً وانتهى طاغية، إلا أن عيبه الأعظم كان يتجسّد في احتقاره لشعبه. ومن هنا فهو لم يصدق أن تقوم في وجهه انتفاضة لأن الليبيين في تقديره ليسوا بشراً، بل مجرد قطيع يحتاج إلى راع صارم، يعلمهم كيف يتزوجون وكيف يأكلون وماذا يتعلمون وكيف يلعبون كرة القدم، وماذا يشاهدون على شاشات التلفزيون الوحيد وماذا يقرأون في الصحيفة الوحيدة.
ولسوف ينسى الناس مواقف «الأخ العقيد» المبكرة في دعم حركات التحرر التي سرعان ما جعلها «رقيقاً» مستغلاً ركاكة قياداتها وحاجتها إلى ذهبه، بل وسخرها أحياناً في ما يناقض ما ترفعه أحزابها من شعارات.
على أن منظر النهاية ليس مبهجاً ولا يبشّر بغد كالذي يحلم به أولئك «الثوار» الذين استكانوا طويلاً لدكتاتورية القذافي ثم ارتضوا أن يقاتلوه تحت حماية الحلف الأطلسي وبأعلام العهد الملكي الذي يذكر له أنه لم يهدر دماء شعبه ولا هو استولى على ثروته الوطنية ولكنه كان ضعيفاً محدود الأفق مستكيناً لمن أعاده إلى عرش متهالك في دولة ممزقة ولايات لكل منها استعمارها (الأميركي في طرابلس، البريطاني في طبرق، وبقايا النفوذ الفرنسي في الجنوب، فزان)... والثروة النفطية هي موضوع الصراع لا حقوق الشعب الليبي في خيرات أرضه وفي مستقبل أفضل له في وطنه الغني.
وخسارة ليبيا أفدح من أي تصوّر، وعودة الاستعمار في أثواب المحرّرين أخطر من أي تقدير...
وإذا كان من الظلم «للثوار الليبيين» أن نصفهم «خونة» فمن الظلم للأمة جميعاً، ولليبيا خاصة، أن نعتبر ما جرى ويجري في ليبيا «ثورة» و«تحريرا» وتقدماً نحو غد الكرامة والعزة الوطنية ومجد العروبة.
ها هي التجربة المرّة تتكرر من جديد: وكما جاء الطغيان الصدامي بالاحتلال الأميركي إلى العراق المدمرة دولته والمنقسم شعبه على نفسه أعراقاً وأدياناً وطوائف ومذاهب، ها هو طغيان القذافي يجيء بالمستعمٍر محرِّراً إلى ليبيا ممزقة وحدة شعبها المهدد بالعودة إلى قبائله التي كان يوشك أن يغادرها إلى وحدته الوطنية.
أي خيار بائس هذا الذي يفرضه الطغاة على شعوب هذه الأمة: فإما أن يلغوا وجودهم وينسوا حقوقهم في بلادهم وأن يرتضوا العيش بلا كرامة، وإما أن يرتضوا بعودة الاستعمار مزيناً بشعارات التحرير وقهر الطغيان وإعادة البلاد إلى أهلها، مقابل حرمانهم من قرارهم الوطني ومن ثروتهم الوطنية ومن هويتهم الأصلية ليرجعوا مرة أخرى إلى حظيرة الهيمنة الأجنبية باعتبارها صاحبة الفضل في التحرير.
لقد أنجز معمر القذافي مهمة القضاء على الثورة بالقضاء على حرية البلاد وشعبها... وها هي الذكرى الثالثة والأربعين لثورة الفاتح تأتي مجللة بالدماء وأرض ليبيا، وثروتها مفتوحة لمن حررها من الطغيان لكي يرثها باسم التحرير!
والمأساة لما تتم فصولاً.. وهي مفتوحة، عربياً، بعد!
تعليقات: