المرور في قرطبا سلس لكن الوادي ذاته يصبح مصدر رعب في لاسا (مروان بو حيدر)
هناك، في لاسا، لعنة ديموغرافية، أعتى من الأحزاب والتيارات، ومن السياسيين الناقمين على البلدة وأخواتها لتخييبها آمالهم الانتخابية. أهالي المنطقة، الذين ناكفوا الكنيسة وناكفتهم على مدى عقود. قبلوا باجتماع «لجنة المتابعة»، لكنهم يجمعون على «رفض مسح 1939». في جولة على القرية التي تراقب البحر، وتصل الجبل بالجبل، يروي هؤلاء تاريخهم بشغف
لاسا فمُ الوادي. هكذا «يدلّعها» أهلها. البلدة، التي تلامس الشمس، تفصل بلاد جبيل عن كسروان. الطريق إلى البحر، على أطراف جبيل، تمر من لاسا، وإلى الجبل في كسروان، تمرّ عبرها أيضاً. تختصر القرية بموقعها الفريد الصورة «الأسطورية» لتركيبة لبنان الجغرافية، حيث يقع البحر على مرمى البصر من الجبل. سرعان ما تمحو الطريق الميتة إلى البلدة (من جهة قرطبا) هذا الكلام الفارغ: القرية متروكة لقاصديها وللسيارات الرباعية الدفع. البحر قريب على الخريطة وحسب. الطريق عبر ميروبا تبعد لاسا عن العاصمة 53 كلم، ومن أفقا، الجارة، حيث الطريق القديمة، تستغرق أكثر من ذلك بكثير. ومن هناك، على ارتفاع 1300 متر، يمرّ النهر أيضاً. نهر إبراهيم الذي يقتحم بلدة أفقا عبر ثقوب في طرقاتها الصحراوية. يصنع النهر حياةً قليلة، قرب الجبال، التي تقترب من بعضها تدريجياً، كأنها تتكاتف، كلما اقتربت الحدود مع لاسا. الزفت في أفقا أوعر من الجبال. قيل الكثير عن الجبال العابسة هناك وعن اقتراب الغيم من الأرض. لكن الأخضر في «لاسا وأخواتها» من قرى «جبّ القنيطرة» ليس أخضر عادياً. نوع من الألوان يدغدغ العين، لكثرته. أما المغارة في أفقا، رغم إهمالها، فتشي ببرودة صيف لافتة، كما تبعث رائحة الماء القديم فيها على الدهشة، فيما تثير الوديان التي تسيّج قرى علمات وحجولا رهبة حادة. لكن هذا المشهد شيء والتوزيع السكاني شيء آخر. قضية لاسا، «عروس الجبّ»، المثارة أخيراً، تختزل لعنة الديموغرافيا. اللعنة التي تعود إلى مئات السنين.
الأرض مقابل الغذاء
يجزم الشيخ محمد العيتاوي، المقيم في لاسا، نقلاً عن أجداده، أن القرية في منتصف القرن التاسع عشر، كانت خاضعة لآل حمادة. في تلك الفترة، كان الإقطاع مألوفاً. وآثار آل حمادة، ما زالت حتى اليوم، قرب مقرّ المطرانية، الذي يتمركز فيه الجيش اللبناني. بعد الإشكال الأخير، اصطفت الدبابات قرب الدير، بحراسة عدد كبير من الجنود، بالنسبة لقرية لا يوجد فيها أكثر من ألف شخص، في عزّ الصيف. وفي مواجهة دبابات الجيش الوطني، بقيت «الخربة» و«مربط الفرس» في مكانهما، منذ أكثر من مئتي عام. طبعاً، لا توحي دبابات الجيش أنها أحدث عهداً بكثير من «خربة» آل حمادة. في أية حال، الأرض لا تروق العيتاوي. هو مقتنع أنها «خُرّبت». المطرانية تقول انها اشترت القرية من أهلها في منتصف القرن التاسع عشر، لكن كبار السن في لاسا، يتذكرون، ما نقل إليهم تواتراً، أن أحداً لم يبع أرضه. والصحيح، وفقاً للعيتاوي، أن «آل حمادة هم الذين باعوا قسماً من الأرض إلى الكنيسة، وشاركوها في بقية الأراضي التي كانوا يملكونها». كان الاختلاف مفهوماً بين الإقطاع والفلاحين العاديين، وآل حمادة أرادوا الاستقرار في منطقة الهرمل. وللمناسبة، كانت المشاركة في الأراضي الزراعية، أمراً مألوفاً آنذاك، نظراً إلى طبيعة المجتمعات. حتى أن المصطلحات التي يستخدمها الكسروانيون خلال الأحاديث العادية اليوم، تدل إلى ذلك. فمن فكرة المشاركة في الأراضي، نبعت مصطلحات «يا شريكي» و«يا معلمي»، في أوساط الكسروانيين.
خلاف على تبعية لاسا: مطرانية جونية أو أبرشية بعلبك؟
ويلاقي أبو طعان المقداد، أحد أقدم وجهاء البلدة، العيتاوي في رفضه الاعتراف بمسح 1939. صحيح أن جزءاً من أهل القرية باع أرضه في أوائل القرن العشرين، لكن ذلك حصل «تحت الضغط». يعتقد أبو طعان «بوجود ضغط على السكان الشيعة من الانتداب الفرنسي المنحاز للموارنة». يوضح الرجل المسن، سريعاً، أن أهل لاسا المسيحيين من «أفضل الناس في المنطقة». يسرد كلاماً عن «العيش المشترك»، من دون أن يعقب على وجهة نظر طاغية في القرية مفادها أن معظم العائلات في «الحي المسيحي كانت مسلمة أصلاً، وقد اعتنق الأجداد فيها المسيحية هرباً من التجنيد الإجباري في الجيش العثماني، الذي كان يطال المسلمين وحدهم».
ثمة نقطة أخرى، مفصلية في تاريخ الأراضي، يجتمع عليها «وجهاء» البلدة: «سفر برلك». جاءت المجاعة الشهيرة، في 1917، التي يدرّسها كتاب التاريخ «التسووي» بلا تفاصيل، مكتفياً بنقل الخبر: «التهم الجراد الأخضر واليابس». أهالي لاسا ساخطون لأن التاريخ لا يذكر أن الفلاحين الأجداد تنازلوا عن أراضيهم إلى المطرانية مقابل الطحين والشعير. رغم ذلك، يؤكد أبو حسين حمود، أن رفض أهالي لاسا الاعتراف بمسح 1939 ليس نابعاً من هنا. بدايةً «حاولوا المسح مجدداً بلا مختار وهذا لا يجوز قانوناً». وثانياً، المسح لا يعترف بمنزله، رغم أن المنزل عمره 105 أعوام بالضبط. يعني أنه قبل حادثة 1939 الشهيرة. وفي هذا الصدد، يسحب العيتاوي مستنداً، حصل عليه من مكتبة بكركي، يظهر فيه اعتراضاً واضحاً، في ذلك العام، من الوقف الاسلامي، على «مصادرة الأرض التي يقع عليها المسجد القديم في البلدة».
من جهة أخرى، وكي يؤكد حمود، أن المسح «الكولونيالي» ملتبس، يذكر أن النائبة جيلبرت زوين، باعت قبل سنوات قليلة أراضي وعقارات في البلدة في منطقة «عين السكرة» تحديداً، من دون أن ينشأ أي اعتراض، لا من أهالي لاسا، ولا من المطرانية. فقد كانت الأرض «ممسوحة» حديثاً. لكن، في المحصلة، وفي دولة الاستقلال، طبّق «مسح المطرانية» بالقوة. وربما، لهذا السبب، تعود نشأة «شوارع آل المقداد» في الضاحية الجنوبية (الرويس، الغبيري، الأوزاعي) إلى أوائل الأربعينات والخمسينات، التي شهدت نزوحاً جديداً من لاسا، هو الأكبر بعد نزوح العشائر من أفقا إلى بعلبك والهرمل.
حكم «الاكليروس»
خفتت الحياة في لاسا بعد الاستقلال. صار الوضع الاقتصادي قائماً على المشاركة الزراعية، بين المطرانية التي استملكت أراضي متسلّحة بمسح 1939، وبين السكان الشيعة الذين فضّلوا البقاء في أرضهم. حينها، ظهرت مهنة «الخولي»، وهو إسم كان يستخدم للتدليل على «ناطور» الأراضي الزراعية. يروي كبار السن أن «الخولي» كان مكروهاً ومتهماً بالعمل كجاسوس للمطرانية.
وعلى ذمّة كبار السن، في لاسا، فإن «المطران» كان حاكماً في بلدتهم. أحدهم، يشبّه المطران عبد الله غنيم بـ «أحمد الأسعد لاسا». يقول إن الناس كانوا «يقبّلون يده وينسحبون من عنده وظهورهم إلى الخلف لكي لا يديروها في وجهه». وبرأيه، أسهم هذا الشعور في توتير الأجواء مع الكنيسة كمؤسسة، لا مع الجيران المسيحيين. يسخر الرجل المسنّ من الحديث عن «فائض قوة» تنامى شيعياً بعد تعاظم قوة «حزب الله». فالأهالي موجودون هناك، قبل الحزب بمئات السنين. وبالنظر إلى وثيقة يشهرها حسين حمود، تدل إلى بيع جدته قطعة أرض في القرية، بعد الاستقلال بقليل، يبدو الأمر منطقياً. باعت الجدة الأرض بخمس ليرات فقط. لكن الرجل، الذي ورث الأرض، غير قادر على استخدامها، رغم أن والده اشتراها منذ عشرات السنين. لا يفهم حمود ما الذي يجري اليوم. الشيء الوحيد المفهوم بالنسبة اليه، هو أسباب النزوح الشيعي من لاسا، حتى قبل فترة الحرب. يجزم كثيرون من كبار السن في القرية أن هجرة الشيعة لتلك البلاد قبل الحرب كانت أكثر منها بعدها. وحتى تلك الحقبة، يمكن القول ان سكان لاسا ظلوا، كمعظم سكان بلاد الشام، في العصور الإسلامية الأولى. وهي الفترة التي يرجح العيتاوي قدوم الشيعة فيها إلى لاسا. ووفقاً للكاتب والباحث كمال صليبي، فإن سكان الريف في بلاد الشام انقسموا تاريخياً إلى نوعين رئيسيين من القرويين: العشائر، أو القرويين القبليين، الذين كانوا الأغلبية في المناطق الجبلية والمرتفعات، والفلاحين، أو مزارعي العزب، الذين كانوا موجودين عموماً في وديان الأنهار والأكثر اتساعاً وفي السهول الداخلية والساحلية. ولكن صليبي، أعطى مثالاً الجليل وفلسطين وشرقي الأردن وسلسلة جبال لبنان الغربية والشرقية كمناطق عشائرية، أي لاسا ضمناً. واللافت، أن النوعين كانا يتعايشان في معظم الأنحاء، مع تفوّق العشائر على الفلاحين تفوّقاً واضحاً. وكانت بيئة العشائر بين الزراعية والرعوية، لذلك اتسمّ بعض القبليين المزارعين بنوع من البداوة. وكان أهل العشائر في بعض الحالات يمارسون الرعاية المتنقلة في المواسم. وكانوا يزرعون الأرض ويرعون الأغنام أو الماعز التي يملكونها إفرادياً، أو التي تعود إلى زعيم أو فرد ثري من العشيرة ذاتها. بينما كان الفلاحون يزرعون أملاكاً وعزباً تعود لملاكين او أديرة وغيرها، أو كانوا يعاونون العشائر في أعمالهم اليدو ية، ولم يكونوا يمارسون الرعي عادة. هذا التفوق للعشائر، اختفى في لاسا، على امتداد مراحل تاريخية، استكملت في عهد «دولة الاستقلال». ففي تلك الفترة، تقريباً، فرغت لاسا من سكانها الأصليين، بعد اندثار «توازن» العشائر ــ الفلاحين، مع الملاك ــ الأديرة. فقد صار هناك نظام جديد، أدى إلى سيطرة «أصحاب الأرض (المطرانية) على مزارعيها»، وتالياً، المزيد من هجرة الفلاحين إلى المدينة.
مدخل بعلبك الماروني
في علمات القريبة، حدث «النزوح» نفسه، لكن بتفاصيل مختلفة. يذكر الأستاذ الجامعي د. عاطف عواد، أن النزوح الشيعي إلى المدن بدأ قبل الحرب رغم أن العلاقة مع المحيط «كانت ممتازة». أسباب المغادرة من علمات كانت اقتصادية برأيه. واليوم، عندما تحسنت الأحوال عاد الأهل. لا يذكر عواد مشاكل مع عميد الكتلة الوطنية السابق، ريمون إدة، من دون أن ينفي أن «ظهور حزب الله وحركة أمل غيّر المشهد السوسيولوجي في القضاء»، لكنه لم يغيّر الجغرافيا. ولولا الأسماء لكانت قرطبا ولاسا قرية واحدة مثلاً. تمتد بينهما الجبال نفسها ومنازلهما مصنوعة من الحجر القاسي نفسه. لكن المرور في قرطبا سلس. الطرقات مسيّجة والمنظر المحاذي بديع، فيما يصبح الوادي ذاته مصدر رعب حالما تواجهك اللافتة: «بلدية قرطبا رافقتكم السلامة». هناك من اهتم ببناء هذه الطرقات لوقت طويل. وإذا اختفت صور المطران الماروني، مار نصرالله بشارة الراعي، لحساب صور الرئيس نبيه بري، لست بحاجة إلى كثير من التحليل، لتفهم، أنك في أفقا الشيعية، لا في قرطبا المسيحية، ذلك رغم أن القريتين توأمان. في أية حال، قبل فترة الحرب، لم تكن ثقافة الصور والرايات متفشية أصلاً، كما يؤكد عواد، مستدركاً: «طبعاً حصل تغيير في هوية القرى». في النهاية، القرى الشيعية في جبيل، تغيّرت مع تغير لبناني عام، وإن كان التغير في الجرد غير موازٍ للتطور المديني، فإن في جبيل مشاهدات تضفي على القضاء طابعاً لبنانياً صرفاً، لا تتوقف عند حلول «سعيد» بدلاً من «إدة»، أو «حزب الله» ممثلاً للقرويين الشيعة. مثلاً، اللافتة التي تؤدي إلى الدير في لاسا تقول «مطرانية جونية المارونية». وثمة من لا يحب هذا الإسم، فيقول «أبرشية بعلبك المارونية». كل الأسماء توصل إلى بكركي. وعلى وجه الدقة، يقول العارفون بشؤون الكنيسة، ان لاسا تقع ضمن نيابة بطريركية تابعة لأبرشية جونيه وعلى رأسها المطران أنطوان نبيل العنداري، وبالتالي البطريرك هو المسؤول الأول عن هذه الأبرشية لأنها نيابة بطريركية، علماً أن المطران العنداري هو نائب بطريركي. كما أن هناك وكلاء يشرفون على هذه الأرض. لكن الخلاف، ليس سطحياً، أو محض جغرافي، كما قد يبدو. فإذ كانت بلدة لاسا، تاريخياً، تابعة لمنطقة كسروان، لماذا إلحاقها (إسمياً) بأبرشية بعلبك أخيراً؟ ثمة من يتهم الكنيسة، هناك، بإستغلال الوجود المسيحي (الضئيل) في القرية الجبيلية، لتصويرها «مدخلاً» إلى بعلبك. أحد المطلعين، في بلدة علمات، المحاذية لقرطبا، يعطي بلدة قهمز القريبة، مثلاً للتدليل على أهمية الأسماء، برأيه طبعاً. قهمز بلدة مسيحية وديعة، على حدود لاسا الغربية. لكن، هذه الوداعة، وفقاً لإبن علمات، لا يمكنها أن تطمس تاريخ قهمز الحقيقي. فببساطة «قهمز كانت أمهز». وأمهز، هي إحدى أكبر العائلات البقاعية اليوم، التي يرجع المتابع العلماتي، أصولها إلى قهمز.
وإذ تقول لاسا لا بد من الحديث عن نزاعات. القرية أحرقت 7 مرات. هذا ما جاء في أحد تصريحات نائب حزب «القوات اللبنانية» عن الشوف، جورج عدوان. التصريح الذي عده أهالي لاسا تهديداً مباشراً، إذ أعاد ذاكرتهم إلى «فترة فؤاد الشمالي»، «رفيق» عدوان، و«حكم القوات اللبنانية» في لاسا.
ما للمطرانية للمطرانية وما للاسا للمطرانية
يقول المتابعون لقضية لاسا اليوم، في البطريركية المارونية، إن الكنيسة لن تقبل بأي حل يؤدي إلى «سلبها أراضيها». ووفقاً لما يشير إليه هؤلاء، فإن الدير في البلدة، وكنيسة السيدة القديمة، المشيّدة عام 1963، يشيران بوضوح إلى «الوجود المسيحي في البلدة قديماً»، مؤكدين أن الطقوس الدينية كانت تتم في الكنيسة خلال فترات كثيرة.
وفي السياق ذاته، أعرب محامي الوقف الماروني، أندريه باسيل، عن أسفه للطريقة التي تجري فيها الأمور، مؤكداً «رغبة الكنيسة في توضيح الحقائق كما هي فعلاً لافتاً إلى وجود وثائق ومستندات تبرز حقوق الوقف في الأراضي»، بيد أنه رفض التعليق على التفاصيل الأخرى، مجدداً التزامه بـ«الهدنة الإعلامية» التي اتفق الجميع عليها، والتي تنتهي في 23 أيلول. وحتى ذلك الحين، فإن الكنيسة ستلتزم الصمت، آخذةً بعين الاعتبار «المساعي السياسية المبذولة لحل الخلاف». لكن، وفي الإطار ذاته، فإن متابعين كنسيين، ذكروا في أكثر من مناسبة، أن «لجنة المتابعة المشكلة من حزبيين وكنسيين وأهال لا يمكنها أن تضرب مسح 1939 بعرض الحائط»، وهو الأمر الذي يرفضه سكان لاسا رفضاً قاطعاً. الأمر الذي تعلق عليه مصادر الكنيسة بغضب بالغ، فهي تملك معلومات تفيد بأن «البناء غير الشرعي» لا يتوقف على العشوائية وعدم الحصول على الرخصة، بل «طال أراضي المطرانية فعلاً»، التي تصر الكنيسة على أنه «حصة الأسد» من مساحة لاسا الإجمالية، البالغة 3 ملايين متر مربع، والتي تحسب المشاعات جزءاً منها. ونظرياً، المشاعات كثيرة في لاسا.
«أبو طعان» الطافر
يمكن القول إن أبو طعان المقداد، المعروف بين كبرى عائلات لاسا، هو واحد من أول الذين «طفروا» من الدولة. الأب الذي فقد خمسة أبناء، بينهم الضابط في الجيش، وكابتن الطيران، والمرشح السابق للانتخابات، يذكر جيداً، الخلاف بينه وبين أحد المطارنة في المنطقة، على خلفية مصادرة أراض تعود لأهالي لاسا. في ذلك الوقت، لم تشفع له علاقاته الكثيرة التي نسجها مع مواطنين مسيحيين، كانوا أصدقاءً له، تعرف إليهم عبر محطة المحروقات التي كان يملكها على طريق المطار. أسس تلك المحطة عام 1949. كانت محطة المحروقات تجارة نادرة حينها. ولكن، في 1975، وبعد خلاف مع «خوري شكر الله حرب»، اضطر أبو طعان للعيش في الجبال، هرباً من الدولة، التي لاحقته، تحت ذريعة تهمٍ «لا يفهمها حتى اليوم». كل ذلك، لأن «الخلاف كان مع المطران». الطافر الأول، شبه متيقن، بأن الكنيسة، كمؤسسة، لا تشبه رعيتها. بكلمات أخرى، الرجل أحب مسيحيي بلدته الطيبين، فيما كانت «المطرانية تؤذي الناس قبل الحرب الأهلية».
اليوم، الرجل لم يعد طافراً. صار «وجيهاً». ما زال يتذكر جيداً، يوميات العيش في الجبال، التي استمرت حتى عام 1980، حين انتهت القصة، من دون أن يكون الحل جذرياً. فقد عاودوا الحديث عن «مسح عام 1939».
-----
-----
لاسا وأخواتها [2/2] تقهقر الميليـشيات وعودة السكان الأصليين
خلال السنوات «الحامية» من الحرب، فرغت لاسا من أهلها تماماً. لم يبق فيها إلا كبار السن ومقاتلو «القوات اللبنانية»، فأسهمت «الميليشيوية» في تعميق الشرخ. ورغم عودة العلاقات بين المواطنين الشيعة والموارنة إلى طبيعتها بعد الحرب، «استيقظت» الكنيسة على بيوت شيعية كثيرة في القرية، فجأة، فيما بقيت أحياؤها مهملة من الناحية الإنمائية، كأنها ما زالت في فترة الحرب
أحمد محسن
يذكر أهالي لاسا حقبة الحرب أكثر من غيرها. لا لأنهم عنفيون، أو لأنهم شاركوا في تلك الحرب، ولا لأنهم يصنعون «دراما» اجتماعية من حصارهم في تلك المرتفعات خلال سنين القتال الأهلي. ببساطة، الحرب هي الأقرب إلى ذاكرتهم كمرحلة تاريخية. الذاكرة طويلة الأمد في لاسا. قد يحفظ القرويون الأرقام جيداً بسبب قلة ما يشغلهم، أو لأن الأحداث تحفر لها مكاناً في رؤوسهم، لقسوتها، وخروجها عن النمط الريفي العام.
الجبيليون، في لاسا، يذكرون فؤاد الشمالي جيداً. الرجل الذي كان نقيباً للأطباء، كان «المسؤول العسكري» لحزب التنظيم، وتالياً «القوات اللبنانية» في مرحلة لاحقة. يفرك حسن العيتاوي رأسه قليلاً، محاولاً تذكّر ملامح الشمالي. لا ينجح في ذلك. أراد أن يكون أميناً، لكنّ ذاكرته لم تلتقط الملامح. التقطت أشياء أخرى. أشياء مألوفة عند الحديث عن الميليشيات. فقد محت الأخيرة «كل تاريخ البلدة بالجرافات». وكما جرفت الأراضي، جرفت ذكريات طيبة، جمعت الموارنة والشيعة. وقد بدأ ذلك في 1978.
حكم الميليشيات
في لاسا، ثمة من يذكر أن المطران حنا الحاج اشترى تلك الأراضي في فترة سابقة، لكنه سمح لبعض العائلات ببناء المنازل، واستخدام الأرض، قبل أن يتوقف كل شيء. ليس صحيحاً أن هناك «أزمة» مارونية ــــ شيعية في المنطقة، أو أن الكنيسة على عداء مع السكان الشيعة. بعض المطارنة ترك أثراً إيجابياً، قبل اشتداد المدّ وتفاقم الجزر. والذاكرون لأثر المطران الحاج، هم أنفسهم الذين يشكون «تسليم المطرانية بلدة لاسا والمحيط إلى القوات اللبنانية في نهاية السبعينيات». ورغم «تحفظاتهم» على العلاقة مع ما يصفونه بـ«الإقطاع الكنسي» خلال فترة «الجمهورية الأولى»، فإن ذلك الإقطاع كان «ألف رحمة أمام الميليشيات». وعلى ذمة علي المقداد، الذي لم يغادر لاسا طوال الحرب، فإن القرية لم تعد تشبه نفسها بعد الحرب. يبدأ بسرد «التشويهات». ويلاقيه في ذلك الشيخ محمد العيتاوي الذي يأخذنا إلى المقبرة القديمة. الأسماء فيها والتواريخ يمكن أن تعطي انطباعاً حقيقياً عن سكان القرية لأمد غير قصير. أما الالتواء الحاصل في طريق المقبرة، فيجزم المقداد والعيتاوي معاً بأنه مقصود. يلفت المقداد إلى أن المقبرة كانت في أرض تستريح عين مياه بداخلها. لا يذكر، بالضبط، إن كان القواتيون قد شقّوا الطريق إلى المقبرة من أجل العين أو من أجل شيء آخر! ولا يتوقف هنا. يشير إلى الأرض المواجهة للدير، وللمسجد. الدير ما زال على حاله. حجر الصوان يضفي على عمره الصدقية، والجيش الذي ينتشر فيه، وحوله، يحرسه بواسطة رتل من الدبابات. أما المسجد الذي يجزم شيخ القرية بأنه يعود إلى «العهد العباسي»، فلم يبق منه شيء، وهو مسيّج بحجارة بقيت منه بعد وقوعه. يوضح الشيخ أن المسجد وقع بفعل الزمن ولم تهدمه الميليشيات. لكن هناك دعاوى عالقة بين المطرانية والأهالي بشأن الأرض المقام عليها الدير. وهؤلاء الأهالي، وفقاً لما يقول المتابعون، من آل المقداد، وقد وافقوا على الحصول على «قطعة أرض» قريبة من «الحي المسيحي» للبناء فيها، مقابل التنازل عن الدعوى ضد المطرانية. حدث ذلك منذ سنين. والبناء آخذ في النمو في الأرض التي شقّتها القوات اللبنانية. وبرأي المقداد، فإن «سخرية القدر» أن «جماعة القوات هم الذين شقوا الطرقات وغيّروا شكل المدينة، من دون أن يحافظوا على أمانة المطرانية». ويكرر: «مسح 1939 أمام هذا التغيير أصلاً يبدو مهزلة». يرى أن أسباب «صحوة» المسح «سياسية بامتياز».
على نقيض من المقداد الذي حاول أن يكون عقلانياً، يبدو حسن العيتاوي متطرفاً جداً. يجزم الأخير بأن آخر منزل شيعي في لاسا كان في عام 1982، «إذ بدأت القوات اللبنانية فترة تطهير للمنازل منذ دخول قوات الشمالي إلى البلدة». ويستدرك، بقي القليل: العجائز أو الذين لا يمكنهم المغادرة إطلاقاً. ويبدو هذا الوضع في لاسا غريباً بعض الشيء عن الحال في علمات، ورأس قسطا، والمغيري، إذ يجزم المتابعون بأن تلك القرى ظلت طوال الحرب قادرة على العيش بسلام مع المحيط المسيحي اليميني، رغم أن أبناءها انخرطوا في «أحزاب الحركة الوطنية» التي كانت ناشطة آنذاك، وهي أنجبت الأمين العام للحزب الشيوعي فرج الله الحلو في حصرايل، والفنان اليساري مارسيل خليفة في عمشيت. يذكر المتابعون أن أهالي علمات الشيعية وإهمج المارونية ظلوا أهلاً رغم سنوات الحرب. فلا الأحزاب الشيعية دخلت علمات ولا الأحزاب المارونيّة طغت في إهمج. في لاسا اختلف الوضع بسبب «فائض القوة» القواتي خلال الثمانينيات. نعم، كان هناك «فائض قوة»، لكنه كان مارونياً لا شيعياً. الأهالي يصرّون على ذلك. وحتى بعد انتهاء الحرب، مطلع تسعينيات القرن الماضي وبداية العودة الشيعية إلى لاسا والمغيري والحصون، فإن الشخص الذي أتى ليضمن الأراضي ويقيم المشاريع الزراعية كان «أبو شوقي الدكاش» الذي يجزم أهل القرية بأنه كان قواتياً هو الآخر. لكن الحرب انتهت مطلع التسعينيات. قاطع المسيحيون أول انتخابات بعد «الجمهورية الثانية». بعد الحرب، ولدت «جمهورية ثانية»، في لاسا قبل غيرها.
يجزم الأهالي أن الميليشيات هي التي شقت طرقات القرية وغيّرتها
إذا قورنت الصورة القديمة للاسا، التي يبدو فيها أهلها «مستضعفين» في المحيط، بالصورة الحالية، يبدو الفارق كبيراً. أهالي لاسا أنفسهم يعترفون بذلك ولا يجدون حرجاً في الاعتراف بأن «الوضع السياسي تغيّر» وأنهم لم يعودوا «مكسر عصا» في المنطقة. من ناحية الشكل، فإن لاسا إذا قرئت كقرية مستقلة بلا حدود جغرافية، تبدو أقرب إلى قرية في بنت جبيل، أكثر منها إلى جبيل. أخيراً، بات في إمكان الأهالي أن يعبّروا عن آرائهم السياسية بمنتهى الوضوح، بلا حسابات ديموغرافية. ولهذه الأسباب ترتفع أعلام «حزب الله» في أكثر من مكان في القرية. أحد المواطنين علّق على الموضوع ببساطة: «الجميع يعرف أننا مع حزب الله. فأعلام من نرفع؟ تيار المستقبل؟». ويزيد الرجل من تهكّمه، مستغرباً تصريح النائب الأسبق فارس سعيد، «ممنوع أن نحبّ حزب الله إذا كنا من لاسا؟»، لا يفهم الرجل لماذا هذه الحملة. برأيه، يجب أن تكون القاعدة الصحيحة هي المعاكسة: وجود حزب الله في لاسا منطقي جداً. وإلى ذلك، يصبح وجود حركة أمل في أفقا منطقياً أيضاً. وتالياً، تصبح «الجزيرتان» عامل إزعاج لموكب النائب فارس سعيد في الطريق إلى كسروان، يعقّب المزارع ساخراً. هو عاد في أوائل عام 2000. كان والده يقول له: «هذه أرض المطران». لكن المزارع كبر، ولم يعرف بعد أين المطران الشهير. يعرف أن هناك حيّاً مسيحياً في لاسا، فيه 3 عائلات فقط. ولم يفهم جيداً أين المطران، ولماذا يأخذ المطران هذه الأرض ما دام لا يسكنها، فيما تعرّف هو (المزارع) إلى أقارب له في منطقة الأوزاعي بالضاحية الجنوبية «لا أرض لهم في لاسا» رغم أن أصولهم من هناك. طبعاً، القانون لا يعترف بذلك، وهو «يتفهّم الأمر». وعلى نقيضٍ منه، هناك في لاسا من لا «يتفهّم شيئاً». بعض الأهالي يحكون عن «شراء الدرك» و«شراء سكوت البعض في الكنيسة»، لقاء السكوت عن قيام بعض أهالي لاسا بالبناء في أراضٍ كانت لهم أصلاً قبل الحرب. ينقلون حدوث ذلك منذ عام 2000 حتى عام 2006. أما شواهدهم فهي المنازل التي بنيت منذ ذلك الوقت و«لم يحرك أحد ساكناً، رغم أن المطرانية كانت موجودة والدرك كان موجوداً». منازل كثيرة في «حارة الغريبة» وفي «عين دورة» ارتفعت بعد عودة الريفيين الشيعة إلى جذورهم. وهذه الكثرة التي يتحدث عنها «المتحمّسون» من أهال قد توحي بالطفرة، لكن الأمر ليس كذلك. يجزم أحد كبار السن، من آل المقداد، بأن عدد السكان في لاسا شتاءً هو 150، وهو قادر على أن يحصيهم اسما اسماً. كل هذا النزاع من أجل 150 مواطن ريفي شتاءً، وأقل من ألف منهم صيفاً!
قد يقول البعض إن القصة أبعد من «بناء غير شرعي واحتلال أراض». وقد يتفلسف آخرون مدخلين الأبعاد الديموغرافية والجيوسياسية في حياة أولئك القرويين البسطاء. لكن هؤلاء لديهم ما يدحضون به اتهامات «سيطرة حزب الله» على المنطقة. يتنصّلون من صورة الحزب في الضاحية كمرجع حكم وقاض، كما هي صورته في المناطق المقفلة شيعياً. يذكرون: راجعوا صناديق الاقتراع في لاسا أيام التحالف الرباعي. يجزم أبو طعان المقداد بأن لاسا خرجت عن «طاعة» الحزب آنذاك، وانتخبت التيار الوطني الحر. لم يكن ذلك إعجاباً بالتيار، رغم أن أهالي المنطقة يميزون كثيراً بين زعيم التيار، النائب ميشال عون، نفسه، ومرشحيه للانتخابات النيابية. في تلك الانتخابات حاز عون أصوات لاسا قبل «التفاهم وقبل كل شيء». أما الأسباب، فيفنّدها المقداد ببساطة: «نكاية بالقوات والكتائب وذلك الفريق». فذلك الفريق، تاريخياً، ترك آثاراً لا تحتمل على «أبو عاطف» الذي أوقفوه عن زراعة الأرض، بعدما كان «شريكاً» للمطران طوال 60 عاماً، وعلى «الطريق إلى المقبرة التي خرّبها المقاتلون»، وطبعاً، ترك قتلى جرّاء الحرب الأهلية، أخذتهم الميليشيات، فإما أحرقتهم في يحشوش أو رمتهم في وديان قرطبا. في المحصلة، الأهالي، اليوم، يقبلون بوساطة «حزب الله وعون» لكن، لن يقبلوا بعد اليوم أن «تسلب قريتهم منهم». بعضهم يغالي في التطرف: «إذا كانت للحزب خيارات سياسية فنحن لا». جزء كبير من أهالي لاسا يحبّ «الجنرال عون» لكنه غير راضٍ «عن النزعة اليمينية عند معظم نوابه». يسألون عن الأشياء التي يقوم بها النواب عادةً في وطن مثل لبنان. لم يروا نائباً في حياتهم. لاسا ممرّ إلى الساحل أو إلى كسروان وحسب. لسان حال الأهالي يتمتم: يريدون للقرية أن تعود إلى كنف الدولة، والنواب العونيون يتعاملون معها كأنها، وأخواتها «الشيعيات»، محطات مضمونة انتخابياً، ما دام الحزب حليف التيار.
لعل أكثر ما يستفزّ سكان لاسا هو اشتغال الإعلام بقضايا «تثير الفتنة»، على حساب «الكارثة الاقتصادية في المنطقة». يضحك حسن المقداد عند سؤاله عن أحوال الكهرباء. يستغرب السؤال ويعقّب: «ألا تريد أن تعرف عن مسح المطرانية الذي بدأ البطريرك صفير الحديث عنه بعد حرب تموز بشهرٍ واحد». عملياً، بدأ الحديث عن ذلك المسح بعد لجوء نازحين جنوبيين وبقاعيين إلى لاسا الجبيلية خلال حرب تموز. يحلّل المقداد: «تنبّه البطريرك حينها إلى موقع لاسا». الدولة لم تتنبّه بعد. هناك كهرباء لأربع ساعات يومياً فقط. وفي الأربع ساعات تنقطع. بعض السكان ما زالوا يعتمدون على مياه العين. أما الطرقات، فحدّث ولا حرج. أقل شيء يمكن فعله، على المستوى الرسمي، هو التوجه بالشكر إلى هؤلاء المواطنين على تحمّلهم تلك الطرقات، رغم طبيعة قراهم الخلابة. كانت هناك مدرسة في لاسا عبارة عن غرفة واحدة مطلة على المقبرة الأثرية. كان الأولاد يدرسون في تلك الغرفة. لا أحد يذكر المعلمين أو الإدارة. فالمدرسة عبارة عن غرفة واحدة سكنتها لاحقاً امرأة مسنّة كانت تعمل في الزراعة. الذين يتعلمون في القرية كانوا يمشون إلى قرطبا لساعات طويلة، قبل الوصول، وذلك حتى مرحلة الشهادة المتوسطة. قلائل في لاسا هم الذين تحمّلوا وأكملوا تعليمهم بهذه الطريقة الصعبة. الآخرون الذين تعلموا، درسوا في قرطبا والعاقورة، أو في بيروت طبعاً. وينقل شيخ القرية، محمد العيتاوي، أن هناك مشروعاً لبناء مدرسة في لاسا، وقد خصص له مبلغ 600 مليون ليرة، منذ أيام الرئيس إميل لحود، لكنه ما زال عالقاً، عاتباً على «الرئيس ميشال سليمان ابن منطقة جبيل، لكونه لم يحرّك موضوع المدرسة والمواضيع الإنمائية الأخرى في القضاء».
من يزر أفقا، الجارة التوأم، يشعر بأن «لاسا في ألف خير». أخيراً، أنشئت قرية «فاصلة» بينهما: «الغابات». وإلى الكوارث المعيشية هناك، ثمة ما ينذر بانفجار جديد. مالكو العقارات في «قرنة سكاف» على حدود لاسا سيعانون، لأن الأرض غير ممسوحة، والمسح يحتاج إلى مختار. وعلى الحدود لا ينفع أن «يكون المختار عادياً»، كما يقول مالك أحد هذه العقارات. كي يحصل المسح، يجب أن يتدخل «مختار المخاتير»، يعلّق المالك مجدداً سخريته، مؤكداً أن هذا المختار «ليس فارس سعيد بالتأكيد».
نهاد، لا فارس ولا عباس
تحظى النائبة السابقة عن بلاد جبيل ووالدة النائب الأسبق فارس سعيد (الصورة)، نهاد سعيد، بشعبية لافتة في قرى جبيل الشيعية، على عكس نجلها فارس. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يذكر أبو طعان المقداد، أحد فعاليات بلدة لاسا، أنه كان يعمل مع السيدة سعيد خلال حملاتها الانتخابية، وكانت تزور القرى الشيعية باستمرار، وتتعامل معها كأنها قرى مسيحية. وقد ظل هذا الوضع قائماً حتى ظهور فارس الذي لفت كثيرون إلى أنه «لم يكن هكذا في البداية»، خصوصاً أنه وصل إلى النيابة «في عصر الوصاية»، ولم يحالفه الحظ من بعدها. إذاً، فيما كانت الوالدة دستوريةً لا كتلويةً، وهي الخيارات السابقة سياسياً في المنطقة، «جنح» سعيد أخيراً نحو «القوات» (باعتقاد أهل لاسا)، ما يعني أنه «دمّر إرث والدته الطيب». اللافت أن «صيت» النائب عباس هاشم ليس ممتازاً في لاسا ولا في علمات. فمن بين مجموعة كثيرة من المواطنين الساكنين للقرى المهملة هناك، رفض كثيرون الاعتراف «بتمثيل عباس هاشم لهم، حتى ولو أن حزب الله أراد أن يبدو الأمر ذلك». كثيرون يتحدثون عن حصول نائب حجولا على أصوات برتقالية أكثر بكثير من الأصوات الشيعية التي يجيّرها للائحة العونية أثناء الانتخابات.
حلّ على الطريقة اللبنانية
يرى المرشح السابق للانتخابات النيابية في بلاد جبيل، عاطف عواد، أن هناك فارقاً ثقافياً طفيفاً بين السكان الشيعة الذين يسكنون بلاد جبيل والآخرين الذين يقطنون في مناطق مقفلة طائفياً. فبرأيه، أسهمت العلاقات مع المحيط في تكوين انفتاح تاريخي لا يراه موجوداً في مناطق أخرى. ويميز عواد بين سكان علمات وسكان لاسا، رغم اعترافه بأن السكان ينحدرون من خلفية دينية واجتماعية متقاربة جداً، لكنه يعتقد بوجود جو «محافظ» في لاسا، سهّل دخول الأحزاب إليها، وقد أسست العشائر لتربية بيئة خصبة له، على عكس بلدة علمات التي تشبه «بلاد جبيل» أكثر من غيرها من القرى الشيعية الأخرى، من دون أن ينفي أن حضور الحزب القوي فيها «غيّر من هويتها نوعاً ما».
وعلى الأرض، تبدو الأمور العالقة في لاسا أخيراً بين المطرانية والأهالي في قبضة أحزاب المنطقة، حيث لا مفرّ من اللجوء إلى السياسة لإيجاد مخرج على الطريقة اللبنانية. وقد اجتمع البطريرك بشارة الراعي والمطران أنطوان نبيل العنداري مع وفد يمثّل مطرانية جونية المارونيّة ووفد من المطارنة، إلى جانب نوّاب جبيل: عبّاس هاشم، سيمون أبي رميا ووليد الخوري، والنائب إميل رحمة، في اجتماع «حاسم» انضم إليه قائد الدرك العميد صلاح جبران وقائد استخبارات الجيش في جبل لبنان العميد ريشار الحلو، ووفد من حزب الله برئاسة عضو المجلس السياسي في حزب الله غالب أبو زينب، إضافة إلى مختار لاسا ورئيس بلديتها. وقد أثمر الاجتماع تأليف لجنة متابعة. وربما، لهذه الأسباب، ألغى البطريرك الراعي زيارته المقررة أخيراً إلى قرى العاقورة، قرطبا، ولاسا، ما أزعج بعض السياسيين الذين لم «يدعوا» إلى «العشاء الأخير» في بكركي.
يتمركز الجيش اللبناني بدباباته وعتاده في محيط الدير (مروان بو حيدر)
تعليقات: