مجلس الخدمة المدنية: دورٌ يحتاج إلى من يؤديه (بلال قبلان)
إطلالة على «مجلس الخدمة المدنية» المنشأ في العام 1959:
رقيبٌ على الإدارات العامة معطّل تماماً.. رغم شدّة الحاجة إليه
أن تكون موظفاً في الدولة ينبغي أن تكون أميناً على الخدمة العامة، وأن تسهر على الشأن العام، وأن تحترم القانون، وألا تتجاوز أحكامه.
من أجل تحقيق تلك المنهجية في إدارات الدولة، وخلق مركزية في الإمساك بشؤون الموظفين تكفل التنسيق بين مختلف الإدارات الرسمية، وتؤمن مرجعية إدارية واحدة تجمع بين مراقبة القرار ومراقبة تنفيذه، كانت فكرة إنشاء مجلس الخدمة المدنية بالمرسوم الاشتراعي 114/ 59 صادر بتاريخ 12/6/1959.
أُريدَ للمجلس أن يكون حارساً للقانون، ويضمن تحرير إدارات الدولة من الضغوطات المختلفة، ولا سيما الطائفية منها والسياسية. ما يحقق المساواة وتكافؤ الفرص ويعزز الديموقراطية السليمة، ويحدث تغييراً جذرياً على مستوى شؤون الموظفين والتوظيف.
وكانت أولى الإشارات الجدية على تصميم الحكومة على إنشاء مجلس الخدمة المدنية، قد صدرت بالمرسوم الاشتراعي الرقم 193/58 وجاء فيه: «إيجاد هيئة مستقلة تدعى مجلس الخدمة المدنية تعنى بجميع شؤون الموظفين وبالاطلاع الدائم على سير الادارة بغية اقتراح ما يؤول إلى تحسينه». وقبل ذلك، وبموجب المرسوم الاشتراعي 12/55 الصادر بتاريخ 17/1/1955، كانت الحكومة قد أنشأت مجلساً للخدمة المدنية في رئاسة مجلس الوزراء، كوّنت هيكليته من رئيس غرفة رئيس مجلس الوزراء، وسائر أعضاء المديرين العامين، ما قضى على مشروع كان قد تقدم به «مجلس التصميم والإنماء» يقضي بأن يكون مجلس الخدمة المدنية مستقلاً، وأن يكون أعضاؤه من خارج الموظفين، بحيث لا يتأثرون بالاعتبارات السياسية.
لا فواصل بين الدولة والمسؤول
أنيطت بالمجلس جميع ما تحدده القوانين والأنظمة، في ما يتعلق بتعيين الموظفين وترقيتهم وتعويضاتهم ونقلهم وتأديبهم وصرفهم من الخدمة، وسائر شؤونهم الذاتية. أضف إلى ذلك رفع مستواهم المسلكي، وإعدادهم للوظيفة، وتدريبهم في أثناء الخدمة. وتشمل صلاحيات المجلس جميع الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات، باستثناء القضاء والجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة والأفراد المدنيين الملحقين بتلك المؤسسات.
إذاً، كان ذلك هو مفهوم الوظيفة العامة. وإذا نصّت القوانين والأنظمة على ذلك، فهل تنطوي تصرفات بعض من يتولون المسؤولية في الادارات العامة، على احترام القواعد القانونية وتطبيقها وعدم الخروج عليها؟
يبدي رئيس المجلس الخدمة المدنية الوزير السابق الدكتور خالد قباني أسفه لاستمرار ابتعاد مفهوم الوظيفة العامة في لبنان وما تمثله من أبعاد إنمائية واجتماعية وإنسانية عن الإدراك العام: «كأنها متاع أو وسيلة للعيش والعمل والسلطة والنفوذ».
ويعزو جزءاً أساسياً من المشكلة إلى غياب ثقافة المساءلة والمحاسبة، «حيث إنه لا فواصل بين الدولة والأشخاص ولا مسافة بين المؤسسة والمسؤول».
الشغور والتكليف بدلاً من التعيين
ما يشكو منه قباني، يبدو واضحاً للعيان في بعض إدارات الدولة التي تعمد إلى التلكؤ والتأخير في تعيين الناجحين في مباريات مجلس الخدمة المدنية، متعمدة إسقاط حقهم في التعيين ضمن المهل التي تحددها القوانين والأنظمة، وإبقاء المراكز شاغرة، أو اللجوء إلى أسلوب التكليف، ما يشكل مخالفة واضحة للقانون.
وتشير سجلات المجلس إلى أكثر من كتاب وجهه رئيس مجلس الخدمة المدنية الى الادارات العامة، يطلب منها عدم اللجوء إلى إشغال المراكز الشاغرة لديها عن طريق التكليف لأن في ذلك مخالفة للقانون، ويترك انعكاسات سلبية على حسن سير العمل ونوعيته. ولكن التكليف لم يتوقف.
وتبرز في مجال المخالفات للقانون وقائع عدة، منها: طلب بلدية بيروت التعاقد مع 81 شخصاً لوظائف متنوعة بلا مباراة. بعد التدقيق، تبيّن لمجلس الخدمة المدنية أن بعض الأسماء المقترح التعاقد معها، هي ممن رسبوا في مباراة أجراها المجلس سابقاً لإشغال تلك الوظائف. وقد أعلنت نتائجها بالقرارين الرقم 92 تاريخ 6/9/2009 والرقم 99/2 تاريخ 12/2/2009. كما استبعدت البلدية من التعيين أو التعاقد، بعض الناجحين، على الرغم من توفّر المراكز الشاغرة.
اعتبر قباني ذلك، في رسالته إلى البلدية آنذاك، «مخالفة صارخة لأحكام المادة (12) من الدستور، ولأبسط قواعد العدالة والإنصاف». وقال إنه «لا يمكن لمجلس الخدمة المدنية إلا التوقف عنده ملياً، ولفت النظر إليه إحقاقاً للحق».
ولكن تلك الصرخة المدوية لا تجد ما يدعمها في نصوص القانون. فرئيس مجلس الخدمة المدنية، إزاء مراجعة الناجحين في مباريات مجلس الخدمة المدنية لقرار تعيينهم، لا يمتلك الوسيلة القانونية الناجعة لوضع حد للإمعان في تضييع الحقوق. ويقول «نحن بصدد إيجاد المعالجة القانونية لذلك».
لا تقييم للأداء الرسمي
إلى ذلك، يلفت قباني إلى تقاعس بعض الإدارات العامة في تزويد مجلس الخدمة المدنية بنتائج تقييم أداء الموظفين. ما يعيق معرفة إنجازاتهم الفعلية والاحاطة بطموحاتهم. ويشير الى «عدم موافقة الدولة اللبنانية حتى الآن على مشروع نظام جديد أعده مجلس الخدمة المدنية يسهل عملية تقييم الأداء ويزيل العقبات التي تواجه نظام التقييم المطبق حالياً».
ويرى بعض كبار الموظفين في مجلس الخدمة المدنية أنه بعد مضي أكثر من خمسين عاماً على إنشاء المجلس، «حان الوقت لإعادة النظر في دوره بصورة جذرية، بحيث يتولى قيادة الادارة اللبنانية بصورة أكثر فعالية، ويعمل على تطويرها في مجال إدارة الموظفين، أو ما بات يعرف بإدارة المواد البشرية، والانظمة العائدة لها، وذلك في ضوء المعطيات والمتغيرات المستجدة».
ما يجدر ذكره هنا أن لجنة الإدارة والعدل النيابية أقرت في العام 2006 جملة تعديلات جوهرية على المرسوم الاشتراعي 114/59 تتناول وضع رؤى حديثة لعمل مجلس الخدمة المدنية. والمشروع ما زال ينتظر بته في الهيئة العامة للبرلمان.
من الثامنة صباحاً إلى الثامنة ليلاً
يعمل في مجلس الخدمة المدنية اليوم حوالى مئة وعشرين موظفاً، يقول رئيس المجلس إنهم «يدخلون إلى مكاتبهم عند الساعة الثامنة صباحاً، ولكنهم لا يعرفون أي ساعة يخرجون منها، فالعمل عندنا يمتد في معظم أيام الأسبوع إلى ما بعد الثامنة مساء». وتبلغ ميزانية المجلس سنوياً حوالى أربعة مليارات ونصف المليار ليرة لبنانية، تصرف نسبة 45 في المئة منها على الأجور والمرتبات.
تفاؤل في خطة جديدة؟
في المقابل، يعلق قباني آمالاً على خطة جديدة يجري الإعداد لها، لتطوير عمل المجلس، بحيث يصبح ضمن مهامه «وضع السياسات والخطط الرامية الى إدارة الوظائف والمهارات، وتحديد الوظائف المستجدة وما يلزمها من تدريب متنوع ومواكبة». ويقول إن الخطة الجديدة تسلتزم أيضاً زيادة في عدد موظفي المجلس، ومدّه خاصة بأصحاب الخبرات العالية في مجال إدارة الموارد البشرية، والتنمية الادارية.
كما تلحظ الخطة الجديدة إنشاء مصلحة لتكنولوجيا المعلومات، التي يفتقر إليها المجلس، تكون نواة وحدة معلوماتية متخصصة. ويضحي من مهامها مكننة أعمال المجلس وتطويره، لا سيما لجهة ربط الادارات العامة به، تمهيداً لتنفيذ مشروع الحكومة الالكترونية.
أسباب التعطيل: معهد الإدارة
تبقى الخطط الطموحة معطّلة الفاعلية، في ظل استمرار تغييب دور «المعهد الوطني للإدارة»، التابع لمجلس الخدمة المدنية، منذ تاريخ إنشائه في العام 2001. فهو الجهة التي يتوجب عليها أن تتولى مهمة إعداد قيادات إدارية كفوءة ومتخصصة، ومدّ الإدارة بها، كما تدريب الموظفين المستمر خلال حياتهم الوظيفية.
ويشكو المعهد منذ زمن بعيد من فراغ على مستوى مجلس الإدارة، والرئاسة، والإدارة العامة. أما أسباب التعطيل فيعزوها قباني إلى «أمور معروفة وليست بخافية على أحد». ويقول: «نحن نسعى إلى تحييد الإدارة عن السياسة، وعدم الغرق في دهاليزها ووحولها، لأن الإدارة تعمل من أجل الناس، وفي خدمة الناس». ويؤكد أن «تعطيل دور المعهد الوطني للإدارة كانت له آثار سلبية وخطيرة على سير العمل في الادارات العامة وعلى الانتاج ومستوى العمل وعلى استشراء الفساد».
من تقرير العام 2010 عن أداء الإدارات
يشير تقرير مجلس الخدمة المدنية للعام 2010 إلى جملة مشاكل تعاني منها الإدارات العامة تمنع ولوجها نحو الحداثة والتطور، في طليعتها: تدني رواتب موظفي الادارات العامة، ما يؤثر على ولاء الموظف وكرامة الوظيفة العامة وعلى معالجة الفساد في الإدارة. ويفيد التقرير بأنه «تنبغي إعادة النظر بالرواتب لكي تتلاءم مع الأوضاع المعيشية والحياتية التي تضغط على كاهل الموظف وتنعكس سلبا على الاداء العام». كما يذكر التقرير، ضمن المشاكل: نسبة الشغور الكبيرة في ملاكات الإدارات العامة، وخاصة في الوظائف القيادية، وحالات التكليف غير القانونية التي يتعذر معها تحديد المسؤوليات، وتقادم النصوص التي ترعى عمل الإدارة وعدم الرغبة في اقتراح تعديلها، وعدم ملاءمة المحيط الاداري لعمل موظفي القطاع العام لناحية المبنى والتجهيزات التقنية والإدارية، وعدم تخصيص مكان لائق للجمهور في عدد كبير من الادارات العامة، ما يتعارض مع أبسط قواعد التطوير الاداري، والهيكليات الفضفاضة التي تتضمن الوظائف التقليدية وتخلو من مجموعة كبيرة من الوظائف الحديثة التي تعتبر محوراً أساسياً لإطلاق عملية التطوير الاداري.
نبيل المقدّم
تعليقات: