الإسلام السياسيّ في قفص الاتهام
.. لا يُنكر على الإسلام جليل تقديماته للبشريّة، ولا يمكن التغافل عن النظريّة الإسلامية في بناء الدولة وتنظيمها، وتثبيت مبدأ العدالة انطلاقاً من الدستور الإلهي المتمثّل بالقرآن الكريم، والذي شرّع للإنسان بالمطلق ما يضمن له الاستقرار والنجاح في حياته بشقيها الخاص والعام، وقد كان للتجربة الإسلامية في عهد الرسول الأكرم (ص) الصدى الكبير والتأثير العميق، لما أحدثته من نقلة نوعية في المسار الاجتماعي والسياسيّ العام في شبه الجزيرة العربية، ولما أرسته من دعائم المدنيّة والحضارة من خلال منظومة القيم السامية التي طرحتها على أرض الواقع، والتي جهدت في تطبيقها وتحويلها إلى ثوابت راسخة يعتادها النّاس ويتناقلونها جيلاُ بعد جيل.
ولبالغ الأسف فقد أدّى الاختلاف بين المسلمين بعد ارتحال رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى نشوء المذاهب والفرق، وتعدّد الإتجاهات والتيارات الاسلامية، وبالتالي إلى تنوّع الاجتهادات والرؤى في الإدارة والحكم وممارسة السلطة، فكان من بين هذه الفرق من استلهمت روح الاسلام الحقّّة، واستخلصت زبدة التجربة النبويّة في فهم العمل السياسيّ الاسلاميّ وممارسته، وكان من بينها أيضاً من ابتعدت كثيراً عن جوهر الإسلام وأصالته، فنحت في جانب التطبيق منحى خطيراً أساء إلى صورة الدين، وشوّه حقيقته وعكّر صفاءه، وقدّم لمناوئيه مادّة اعتراضيّة دسمة.
ومع أفول نجم الخلافة الإسلامية وانتقال المسلمين إلى مرحلة الكيانيّة الجديدة، التي فرضت عليهم بحكم الفرز الجغرافيّ فرزاً ديموغرافياً تشكّلت على أساسه دول عديدة تقطنها أغلبيّة إسلاميّة مع أقليّات مختلفة.
كذلك فقد تشكّلت أكثريّة وأقلّية إسلاميّة على أساس مذهبيّ، فبينما تجد أكثريّة لمذهب ما في بعض الدول، تجد له أقلّيّة في دول أخرى، والعكس صحيح أيضا.
في ظلّ هذا الواقع نشأت الحركات والأحزاب الإسلاميّة، وتفرّد كلّ منها برؤيته العقائديّة، والفقهيّة، والسياسيّة تبعاً للمذهب الذي انبثقت عنه تلكم الحركات، وبالتالي تمايزت عن بعضها في الفكر وفي برنامج العمل على أرض الواقع .
وفي الوقت الذي يُسجل فيه للتنظيمات الإسلاميّة ـ بغضّ النظر عن هويتها المذهبيّة ـ الكثير من النجاحات والإنجازات سيّما ما يتعلّق بجانب الانتماء الوطنيّ، والانحياز التّام لقضايا الأمة وعلى رأسها قضية فلسطين، إضافة إلى دورها في تطوير العمل السياسيّ الداخليّ وبثّ روح إسلاميّة في كافة المجالات والصعد التي تعني الوطن والمواطن .
وإلى جانب تلك المنجزات لا بدّ من ذكر الإخفاقات وربما الأخطاء المميتة التي وقعت فيها بعض تلك الحركات إن لجهة النظرة العدائية للآخر والحكم عليه بالكفر والارتداد، وبالتالي رفض الاعتراف به كشريك في الوطن وتحريم التعامل معه بداعي الاختلاف. ولم يقتصر الأمر على هذا الحدّ وانما جنحت بعض التنظيمات الإسلاميّة باتجاه بالغ الخطورة حين استعملت القوّة المفرطة والهمجية الدمويّة في وجه من صنفتهم خصوماً، وهي في معركتها المفتوحة معهم لم توفر الأبرياء من النساء والأطفال، ولا البُنى أوالمنشآت.
هذا السلوك الخطير جعل من تلك التيارات فزّاعة في محيطها، ودفع بشعوب العالم ودوله إلى محاكمة الإسلام قياسا على ما ترتكبه تلك الجماعات من جرائم باسمه، وعليه فإنّ الإسلام ببعده السياسيّ أصبح في قفص الاتهام بجناية أولئك المتأسلمين.
وفي ظلّ ما يشهده العالم العربيّ والاسلاميّ من تبدّلات تاريخيّة ـ لا شكّ أنّ للإسلاميّين دوراً أو شراكة فيها من موقع المواطنة على الأقل ـ تطرح على بساط البحث أسئلة عدّة، أولها ماذا ينبغي على التيارات الإسلاميّة تقديمه في هذه المرحلة بالذات لتصحيح الأخطاء السالفة وتجميل الصورة ؟ كيف يمكن تطمين أبناء الوطن الواحد والشركاء في الثورة إلى مصيرهم ومستقبلهم فيما لو تسنّى للحركات الإسلامية الوصول إلى سدّة الحكم أو الشراكة فيه ؟ ما هي الآلية التي سيعتمدها الإسلاميون في ممارسة السلطة، وكيف سيتعاملون مع التعدديّة القائمة في بلدانهم؟ كيف يمكن الانتقال بالإسلام السياسيّ إلى مرحلة لا يكون فيها موضع خوف أو تهمة أو توجّس ؟
أن يحكم الإسلاميون ويدخلوا في مشروع الدولة فهذا أمر مشروع إذا كان لديهم التمثيل الشعبيّ الذي يؤهلهم لذلك، ولا يحقّ لأحد أن يعترض على إرادة الشّعب واختياره، ولكن تبقى الإجابة على الأسئلة المتقدّمة ضرورة قصوى لتتضح صورة المستقبل ويبنى على الأمر مقتضاه..
تعليقات: