خالد بزي يكتب ملحمة «بنت جبيل»

«الحاج قاسم» المسؤول عن غرفة عمليات بنت جبيل ومحيطها (صورة خاصة بـ «الأخبار»)
«الحاج قاسم» المسؤول عن غرفة عمليات بنت جبيل ومحيطها (صورة خاصة بـ «الأخبار»)


ليس الكلام على قادة المقاومة في بنت جبيل كلاماً عادياً عن أشخاص عاديين في حياتهم ومواقفهم وبطولاتهم، بل هو امتداد لتاريخ هذه المدينة الذي يسترجع نفسه، لصورة «الأخضر العربي» المتجلّية في أجنة ولادات عام استشهاده 1969 أو في دبيب أطفال تلك المرحلة. إنهم نموذج عن التفاني في هذا العشق للأرض وأهلها من خلال المقاومة التي لا بدّ منها لصدّ رجس العدو المتربص منذ عام 1948 في المدينة والجنوب شراً، وفي ممارسة الملاحم البطولية في الذود عن الكرامة.

من هؤلاء القادة، الشهيد خالد بزي، الشهير بالحاج قاسم. هذا الرجل الذي يقسم عدد كبير من أبناء مدينته بمعزّته، وهم يشعرون بعد المعركة البطولية التي خاضتها بنت جبيل وكوادرها في وجه العدو الإسرائيلي، بحجم خسارتهم فيه ورفاقه، وقد لاحقته إسرائيل طوال 20 عاماً، ولم تتمكن منه، حتى سقط شهيداً على مذبح المدينة، رافعاً رايتها العصيّة على العدو.

الحديث في بنت جبيل عن الحاج قاسم ورفاقه يكاد يشبه الكلام على شخصيات أسطورية، واستعراض مسيرته الطويلة في ميدان المقاومة يتعلّق بتفاصيل «تكتيكية» وخبرات عالية، فضلاً عن احتراف فعل عسكري ملتزم لا وقت أو حدود له. أمّا الوجه الآخر، فيتبدّى في العلاقات الإنسانية والاجتماعية المتشعبة، التي أدت دوراً استقطابياً ظهرت نتائجه في معارك بنت جبيل المصيرية. وإلى جانب ذلك ظلّ يحمل بندقية الصيد وينطلق في الحقول مع رفاق ليسوا من «ثوبه» السياسي ثم يعود إلى ملاعب كرة القدم، الرياضة التي يعشق، وإن تسنّى له حيّز من وقت، يطالع أشعار «أبو غريب» ويتحدث عن مسيرة المناضلة «أم نضال».

لم يتمكن الحاج هشام، الوالد، من حبس دموع غدرته وهو يروي حكاية ابنه خالد الذي تخرّج من بيت ثائر، إذ كان والده في صفوف الذين قاتلوا دفاعاً عن فلسطين. انتظم في صفوف المقاومة منذ نحو 21 عاماً وتدرّج فيها بسرعة مطلقة بعد مشاركته في معظم العمليات ضد العدو الإسرائيلي في القطاع الأوسط (بنت جبيل وقراها)، مهاجماً وزارعاً متقناً للعبوات، إلى أن أضحى في مرحلة سريعة كادراً أساسياً من كوادر المقاومة، ألقيت على عاتقه مسؤوليات عدة ميدانية وعملانية مهمة جداً.

يروي الحاج هشام أنه «يوم عملية الأسر التي شارك فيها معه الشهيدان القياديان سيد أبو طعام ومحمد قانصو (ساجد)، وبعد الانتهاء منها وتأمين الأسرى إلى حيث يجب، كُلّف الحاج قاسم من قيادة المقاومة مسؤولية العمليات الميدانية في بنت جبيل ومحيطها المرتبط بها عسكرياً، وكان مسؤول غرفة العمليات التي خاضت أشرس المعارك ضد العدو الإسرائيلي، في مربع مارون الراس ـــــ بنت جبيل ـــــ عيترون ـــــ عيناثا. وفي تلّة مسعود عندما حاول العدو اقتحام المدينة والالتفاف على منطقة صف الهوا والعديد من المعارك والالتحام مع العدو الذي حصل في بنت جبيل ومحيطها،

فُقد الاتصال به عدة مرات، وخصوصاً بعد الاشتباكات العنيفة على مربع مارون، وكان من الصعب في كلّ مرة تحديد مكانه، لأنه كان يؤثر جداً عدم استخدام الأجهزة اللاسلكية. حتى تاريخ استشهاده في اليوم السابع عشر للعدوان (في 29 تموز 2006) مع زميله القيادي سيّد أبو طعام والمقاوم كفاح شرارة في أعقاب غارة للطيران الحربي الإسرائيلي على أحد بيوت المدينة، ولم تنتشل جثثهم إلا بعد وقف إطلاق النار بنحو أربعة أيام ليشيّعوا أبطالاً، تلازموا في المواجهات والتصدّي، وكذلك في الراحة الأبدية لتتحوّل قبورهم مزارات للناس الذين عايشوهم وأدركوا بطولاتهم وتفانيهم.

بعد التحرير في عام 2000، عاد الحاج قاسم إلى بنت جبيل ليجدها مدينة مغلقة، فقد ترك الاحتلال أثره في حياة المقيمين الخاضعين لوصايته وسيطرته 22 عاماً متواصلة. هناك من كان يرتبط بالاحتلال، رغبة منه أو رغماً عنه، من أصحاب مصالح أو المهادنين. انبرى الحاج قاسم ليضع استراتيجية تحوّل من جو الاحتلال إلى جوّ الوطن، فأسّس جيلاً استشهادياً كانت طلائعه ممن سقطوا في معارك المدينة وجوارها ولم يتردّد في تزويد السلاح لمقاومين لا يرتبطون بالحزب، تحسباً لخطر العدو، الذي قد يطرأ على حين غرة حتى خرج من يقول بعد انتهاء العدوان: «هذه قطعة سلاح تركها عندي الحاج قاسم».

ظلّ يزور بيوت المدينة بانتظام، متفقداً أحوال أهلها واحتياجاتهم، ولم ينس «جماعة فتح» التسمية التي كان محببة إليه، يطلقها على رفاق والده في النضال الذي كان يحمل الرقم (40) وظلّ الحنين يربطه بهم حتى تاريخ استشهاده. ومن يقصد مسجد المدينة، كان لا بد أن يجد الحاج قاسم مؤدياً جانباً «تبليغياً شرعياً بطريقة سلسلة يوصل من خلالها الفكرة من دون أن يكون هجومياً أو متشدداً، وإمكان تقطيعها على مراحل تصل في النهاية إلى المراد».

على المستوى الشخصي، استمرّ في عملية الإعداد والتحضير للمراحل التي وصلت إليها حرب 2006، يعني أنه لم يركن إلى هدوء طوال السنوات التي مرّت بين التحرير والعدوان، وكان له دور بالغ في هذا الأمر، ساعياً باستمرار إلى «جودة» المقاومة والتخطيط تحسّباً لأي عدوان، وهذا ما جرى. ولم يغب هاجس تحرير الأسرى يوماً عنه وعن زملائه، لذلك شارك تخطيطاً وتنفيذاً في عملية الغجر بتاريخ 21/11/2005 وفُقد عدة ساعات بعد انتهاء العملية حتى ظنّ رفاقه أنه

استشهد.

يُعرف عن قاسم بزي الشخصية الثورية الفذّة الشجاعة التي أهّلته للمشاركة في أهمّ العمليات النوعية في المنطقة مثل «عملية برعشيت الأولى 1986، والثانية 1987، وبليدا 1991 ضد موكب قيادي للعدو عند مفترق المالكية، الكيلو9، عمليات حولا ومركبا والعباد في 92 و94 و96 و97 و98. ولم يقتصر الأمر على مواجهات القطاع الأوسط، بل على مختلف محاور الجنوب، من الساحل حتى إقليم التفاح، دون إغفال المنطقة القريبة من الشريط الفاصل، الأسلاك الشائكة، التي تمكن، حتى في فترة الاحتلال، من الوصول إليها هو ورفاقه، وهو دائماً في الطليعة، نظراً لخبرته الجغرافية في المنطقة وتضاريسها. وكانت معظم عملياته تستهدف قادة العدو الإسرائيلي وعملاءه، من إسحاق موردخاي إلى عقل هاشم، وموكبهما من 33 سيارة على طريق مركبا ـــــ حولا، في أعقاب اغتيال الأمين العام للحزب الشهيد عباس الموسوي وعائلته، إلى إيلي عميتاي قبل عدوان نيسان 1996 قرب موقع العباد، ما دفع بآلون بن ديفيد ليقول بعدها: إننا نواجه خصماً ليس شجاعاً فقط، بل يتمتع بمستوى عال من التخطيط والأداء».

ومقابل هذا الباع الطويل في المقاومة، تملك الحزن مرات عدة الحاج قاسم، إذ سقط عدد من رفاقه شهداء في هذه المسيرة الطويلة منهم: صلاح غندور «ملاك»، سمير مطوط، إبراهيم مكي، محمد عطوي، بسام حمزة وغيرهم من رفاق الدرب. «حتماً كانت هناك عاطفة جياشة عند الحاج قاسم، تزيده عزيمة على مقارعة العدو الإسرائيلي، حتى تنزل معزة الله بالشهادة. ويعود إلى هدوئه وجلده الساعي إلى نصر على العدو ببأس وشدة قلّ نظيرهما»، يقول والده الحاج هشام. وهذا ما دفع بالأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله للإعلان عن خسارة المقاومة ثلاثة إخوة أساسيين على المستوى القيادي.

تعليقات: