.. تجاعيد الوجه، نتوء الشرايين من الكفّين السمراوين، العينان الغائرتان في الوجه القاحل، بعض من التحامل على القدر المرّ، كثير من الكرامة الفتية في البنيان الهرم، كلها تحكي لك حكايته ..
ابن الثمانين من السنين الغابرة، يدعونه "أبو كريم"، وكريم محض تمنٍ وافتراضٍ لم يسمح به القدر.
يعيش أبو كريم وحيداً في بيت قرويّ أصيل، تجاوره شجيرات عتيقة، وتحوطه جلول صغيرة جديبة لم يعد يقوى العجوز على زرعها وسقايتها.
في زوايا البيت الصغير تتوزّع معاول ومناجل أضحت تحفاً نفيسةً في عصر الحداثة، وعلى مقربة من الفراش الوحيد يتربّع ذاك الصندوق الرفيق ..
في صبيحة كلّ يوم يخرج العجوز من زمنه إلى زمن أجبرته الحياة على مصالحته، يتكئ على عكّازه العتيق، ويتأبّط صندوق الرزق كما يسميه.. وإلى مكانه المعهود في ساحة القرية تقوده قدماه ليجلس خلف الصندوق منتظراً رزقه المقدور ..
.. وعندما يقف الزبون مسمّراً حذاءه المغبرّ بين يدي العجوز، ينهمك أبو كريم بجديّة ونشاط في ورشة تنظيف متقنة مرتقباً بعدها قليل نقود صكّت بعرق الجبين ..
وهكذا تمرّ ساعات النهار بين العمل تارة، والانتظار تارةً أخرى، وتتبدّل الوجوه، وتتغيّر الأحذية، لكنّ الحقيقة تبقى واحدة لا تتغير ولا تتجزأ!..
ويبقى أبو كريم ماسحاً لأحذية الناس، وربما لأقنعة فوق وجوه، يمسح غباراً يعمّي على الحقيقة ويحيل الإنسان آلة تنتهي حينما تتوقف..
وبالمسح تنجلي الصورة، ويكشف الواقع عن تصحّر إنساني اتجاه فئة من البشر آن لهم أن يستريحوا على ضفاف العمر، وآن لمشوار عمرهم المكلّل بالجدّ والعطاء، والتّعب والشقاء أن ينتهي مُستريحاً مُكرماً..
بالله عليكم يا أصدقائي ألا يخجل شعراء هذا الزمان الملوّن من زيف قصائدهم؟!
ألا تنكسر العيون حين تقع على أبي كريم يمسح أحذية البكّائين على الفقراء بعيون عمياء؟!..
ألا ينحني دعاة الرفعة أمام كفيّ هَرِم يستنزل الرزق بآخر ما تبقى من ماء العظام؟!
ألا نتواضع قليلاً ونعترف أنّا لم ندرك بعد أنّ القيمة للإنسان؟!..
* بقلم: الشيخ محمد أسعد قانصو
تعليقات: