بعض من حكاية «جمول» يرويها أحد مجهوليها (1)
عدنا إلى عشيرتنا الحمراء.. نحن الذين هُزمنا في أول السطر
وجه رضا منحوتٌ نحتاً. أسمر بأنف حاد وشفتين رقيقتين وذقن عريضة مرسومة وخدين غائرين يشيان بنحول صاحبهما وسنوات عمره التي قفزت لتوها عن الخمسين. عينان صغيرتان تائهتان دوماً بين العبوس والابتسام. وكما العينان، فالوجه الوسيم تائه بين ثقل قسوة ضابط الجيش وخفة سخرية المقاتل..
ورضا أمضى حياته كذلك، تائهاً بين المقاتل والمدني، مغلباً واحدا على الآخر حيناً ولابساً كلاهما حيناً آخر. والابـن الســابق للحـزب الشـــيوعي اللــبناني، ســيظل على هذا التيــه الرقيق بين «الشيوعي» المؤدلج اسـتاذ التاريخ والجغرافيا الذي يترك مهنته ليتلقى دورات عسـكرية ويصير كادراً، وبين الجنوبي الذي يفهمه الناس ويفهمهم، بلا ادعاء لغتهم وبلا تصنع اللهجة.
ذو السيرة الطويلة في «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» راوٍ ممتاز، غير أنه يظل على حذر من أن يكون الضوء عليه وحده ظلماً لغيره من جرحى وأسرى ومقاومين قاموا بما عليهم في زمن ثم أكملوا حيواتهم مجهولين بلا إحساس بغبن، اضافة إلى من استشهد بالطبع. المسؤول في المقاومة، في الثمانينيات، سيشترط قبل أن يحكي أن يكون الهدف أولا وأخيراً إعطاء «جمول» وناسها بعضاً من حقهم. وحين سيحكي لساعات كثيرة، سيظل أميناً لهذا الشرط.
في ما يلي الحلقة الأولى من بعض من سيرة «جمول»، كما رواها رضا.
خفّ القصف عن النبطية. هذا القصف المتصل المجنون المستمر منذ أيام هدأ، فخرجت ورفيقي من بيته. مشينا نتفقد الشوارع، ونتنفس. من بعيد، رأينا دباباتين وحولهما عناصر، وقدرنا أنهم فلسطينيون. تحركت الآليتان قبل أن نصل إليهما. تابعنا إلى الحي حيث بيتي وبيوت رفاق عدة. دوى صوت رصاص هناك قبل ان تمر سيارة يقول من فيها إن إسرائيل صارت في النبطية. الدبابتان كانتا إسرائيليتين إذاً. ونحن الذين تقطعت سبل اتصالنا ببعضنا وبالآخرين من القوى لم نكن نعرف أن الأمر على وشك النهاية، وأن الاسرائيليين يحكمون احتلالهم.
كنا في السادس من حزيران 1982 في واحد من ايام القيامة وقد بُعثر المقاتلون وبُعثرت الأحلام والشعارات ودم الابرياء والجدران والعقائد.
صعدت إلى بيتي وجلبت سلاحي ونزلت. قبل شهرين علّقت، انا الكادر العسكري في الحزب الشيوعي اللبناني، عضويتي في منظمة النبطية، لأسباب عديدة. هذا صباح جديد ولا وقت لدينا. كان على الشيوعيين تنظيم أمورهم. انضوينا في مجموعات ووزعنا المهام على بعضنا. ذهبت وبضعة شبان إلى كفررمان ومن هناك مشينا خارجين من الجنوب، «عشيرة حمراء» لا تدري إلى أين تذهب.
مشينا كيف ما اتفق في سيارات قليلة. أحمد* المقاتل في الحزب ومعه زوجته وأولاده الثلاثة. فاديا الحامل. أمل، وعلى يدها ابن أخيها عمره اسبوعان، حملته ومشت لا أحد يدري إلى أين وآخرون. خليط غريب في ترحال يكاد يشبه ذاك المسير الأربعيني العتيق للفلسطينيين شمالاً. وصلنا إلى جبل لبنان، وبعضنا يحكي، بسوريالية، عن هجوم معاكس. حين وصلنا إلى الجبل، كنا مقاتلين ومدنيين، في ثماني سيارات وشاحنات. كنت أفكر في الاشياء كلها معاً: كيف أؤمن الحليب للرضيع، وكيف أحافظ على حياة الناس تحت سماء بلا أمان.. وكيف وكيف.
نمنا في عمّاطور الشوفية بين بيتين لرفاق لنا هناك. صباح اليوم التالي أكملنا الى بحمدون عبر الباروك. منها قررنا المتابعة إلى المروج. هناك نزلنا في مساحة ترابية، وقسمت المهام على من معي، لكي نتدبر شؤوننا والاهتمام بالأسلحة التي معنا. في تلك الليلة وصل الإسرائيليون إلى ضهر البيدر. أين نذهب الآن؟ بقاعاً، في طرق لا أحد يدري بها إلا أحد الرفاق، حتى نصل إلى جديتا. كانت قيادة الحزب عادت إلى التواصل معنا، والامين العام جورج حاوي حكى معنا لاسلكياً. يومها قيل لنا «إننا لم نعد وحدنا»، وإن الاتحاد السوفياتي «تدخل بثقله لإيقاف الحرب»، وإن المطلوب «هو الصمود والصبر».
وبينما المعنويات ترتفع، حصد الطيران الاسرائيلي كل قواعد الصواريخ السورية في السهل. ومع أن الجيش السوري قاتل براً وجواً، إلا أنه تعرض في البقاع لضربات اسرائيلية قصمت ظهر ألويته هناك. لا شيء بشّر بأي خير.
نحن ظللنا نتنقل شرقاً، لننتقل بعدها شمالاً صوب بعلبك. لم يعد معنا مدنيون وتطور «انسحابنا التكتيكي» ليصير «انسحاباً استراتجياً»، كما اتفقنا في حينها، متهكمين من حالتنا. وصلنا إلى بعلبك، وتابعنا من هناك إلى عرسال حيث انقسم أهلها إلى طرفين واحد مع بقائنا في القرية وآخر ضده، وكادا يتقاتلان إلى أن غادرنا إلى جرد المنطقة. هناك نشرت الآليات والعناصر في رقعة واسعة وتموهنا ما استطعنا، فإذا ما ضُربنا، فلن نقتل كلنا على الاقل. الآليات الأربع التي ركنت بالقرب منا للجبهة الشعبية ـ القيادة العامة، تلاصقت ونام عناصرها تحتها. احتاج الاسرائيليون إلى غارة واحدة ليقضوا عليها.
لم يعد أمامنا إلا انتظار ما لا ندريه. الجنوب والبقاع الغربي وقسم كبير من الجبل احتلوا، وبيروت الغربية صارت تحت الحصار. قررت أن أعود إلى النبطية. تفككت العشيرة الحمراء، وعدت مع رفاق لي إلى الجنوب في شاحنة محملة بالبيض. أخبرت «أبو جمال» فحسب. هو قاسم بدران، القيادي الشيوعي الجنوبي الذي سيكون من ابرز قادة «جمول» ويستشهد لاحقا في الغارة الإسرائيلية على مركز الحزب الرئيسي في دير الرميلة (1989).
بت ليلتي عند صديقي وقمت صباحاً نازلا الى شوارع النبطية على عادتي. صعدت إلى بيتي الذي كان الجيران رفعوا عليه علماً ابيض، نزعته ما صعدت إلى السطح. بحثت عن السلاح المخبأ في البيت، فوجدته، وهناك ألغام وصواعق ولغم اسرائيلي جاهز. لم يصل أحد إلى هذه الأغراض الثمينة.
رحت استكشف الحياة الجديدة التي يغلف قشرتها أمان وهدوء من المستحيل أن يكونا حقيقيين. ليس عادياً ولا طبيعياً أن تأتي الباصات السياحية الإسرائيلية إلى النبطية، وينزل الإسرائيليون منها مدنيين، يلتقطون الصور ويتبضعون. ليس عادياً أن يأتي هؤلاء ليتفرجوا علينا. لا بد أن هناك خللاً ما.
كان علينا أن نفعل شيئاً، لكن بهدوء وبطء. بدأت من لقمة العيش. انا الذي كنت في سلك التعليم قبل ان اتفرغ في الحزب، اقمت بسطة خضار مع رفيق لي. وفي السوق أبيع البطاطا وأحتك بالناس وأسمعهم، ويسمعونني، انا ورفاقي من الشيوعيين المعروفين أصلاً.
الحذر الذي يلتجئ إليه الناس تحت الاحتلال وعيون عملائه، السريين منهم والعلنيين، راح يكسر بما يشبه الإشارات. بإبداء رئيس مخفر الدرك، الذي لطالما صادرنا دوره كمسلحين، الخوف من أن أعتقل، وعرضه علي المساعدة لكي اغادر المدينة. اللحام الذي لم يعرف عنه حبه للشيوعيين، بادر حين زرته برفع صوته محيياً «الرفيق»، ولما هممت بإعطائه ما على الحزب من دين له، رفض أخذ المال مهدداً. رفض المال بمفهومه، كان فعل تضامن على طريقته.
بائع المشروبات الروحية رمى البضاعة الاسرائيلية التي فرضها عناصر كبير العملاء آنذاك سعد حداد في الشارع. ماجد استعار رشاشاً ودخل الى المقهى في النبطية مطلقا النار إلى سقفه مهدداً: «ليكو يا اخوات الكذا.. يللي بدو يقول انو الشيوعيين خلصوا من النبطية بدي...».
لاحقاً قرّعته. قلت له إن ما فعله كان مطلوباً لكن هذا هو حجمه. هذا أمر لن يتكرر. كنا بدأنا نكسر حاجز الخوف، وهذه المرة لم نعد وحدنا. صحيح، لكن ليس الاتحاد السوفياتي من صار معنا. لا. نحن عدنا إلى أنفسنا. هناك احتلال سنقاومه.
كل واحد فينا عرف أن بإمكانه أن يفعل شيئاً. هذه بداية جيدة بعد نهاية سريعة ساحقة. أنا كنت متفائلاً.
نحن الذين هُزمنا في أول السطر، عرفنا أن السطر امامنا ما زال طويلاً.
[ كل الأسماء في هذا النص مستعارة، بلا أي دلالات تشير إلى أصحابها الأصليين، ما خلا تلك المقرونة بأسماء شهرة. كما انها ليست حركية من التي تطلق على المقاتلين لإخفاء أسمائهم الاصلية.
---------------------------------------
بعض من حكاية «جمول» يرويها أحد مجهوليها (2)
... فجـأة وجـدت نفسـي في حضـن معبـر باتـر
جهاد بزي
في الحلقة الثانية من شهادة رضا، المسؤول في «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية»، يشرح كيف جند المقاتلين في جنوب لبنان وجبله، ويروي كيف كان يخطط لعمليات الجبهة في الجنوب، هو القاطن في بيروت، يعمل مياوماً في شركة «اوجيه لبنان» التي كانت تنظف العاصمة استعداداً لـ«لبنان الجديد» في خريف عام 1982.
اعتقلتُ وماجد وآخرون من شيوعيي النبطية. استمر التحقيق ليومين، ولم يثبتوا علينا أي تهمة، لكن كان واضحاً أن العين فتحت واسعة علينا. غادرت معتقل أنصار وفي نيتي ترك النبطية في اليوم نفسه. إلى بيروت التي كانت ورشة.. و«أوجيه لبنان» تزيل ركام اجتياحها من الاسرائيليين.
لحق ماجد بي بعد فترة قصيرة، وبعد فترة قصيرة أيضا، بتنا أربعة نبحث عن عمل. في المدينة الرياضية المدمرة سجلنا أسماءنا كعمال في «أوجيه لبنان» ورحنا ننظف المدينة. هذا عمل سيسد قوت أيامنا، ويبقي لنا وقتنا الآخر لنفكر في ما ينبغي فعله. رحت أبحث عمّن يمكن تجنيده.
وصل إلي شاب اسمه عباس، وهو منضوٍ مع العملاء في النبطية. وثقت به بعد توصية رفاق آخرين. عباس الملآن بالحماسة بلا تدريب، درّبته.
الشاب الآخر كان سليم، طالب لبناني كان يدرس في بلد عربي، خضع معي لدورات تدريب مكثفة وبسرية تامة في شقة في الضاحية، كانت تستمر لساعات طويلة اعلمه فيها كل ما سيحتاج إليه حين يعود إلى النبطية.
بتنا في أواخر 1982، وصرنا نفكر في كيفية مد قنوات اتصال مع الجنوب. كانت هناك محاولة لتشكيل جهاز عسكري من العملاء الشيعة يخدم اسرائيل أفضل مما فعل جيش سعد حداد الذي بدأ يتحول ميليشا مسيحية. جيش من العملاء الشيعة. تشاورت مع «أبو جمال» في أمر اغتيال احد قادته وسألني ما اذا كان لدي أحد ليقوم بالعملية، فقلت له نعم. بعثت إلى عباس برسالة شفهية مع شقيقتي ابنة الرابعة عشرة، وأتى عباس من الجنوب والتقى «أبو جمال» به وأعطاه صندوق علب سجائر، وشرح له اي نوع من العبوة هذا الصندوق، وتدرب عباس عليها. هذه العملية وقعت في قلب النبطية. العميل المستهدف كان يأتي ليلاً إلى بيت امرأة. ألصق عباس العبوة بسيارته. حين أتى الخبر بأن العميل «طار»، طلبت من عباس أن يهدأ تماماً.
كان من السهل تجنيد العشرات في حينها، وهذا لم يكن مطلوباً، بل على العكس. الألوية كانت للقدرات ولإمكانية الإفادة من الاشخاص. بلال، الشاب الذي أتى، يريد ان يشتغل بدوره، صار يتلو اسماء شبان يمكن تجنديهم الواحد بعد الآخر حتى قاطعته: إهدأ. لا نريد تشكيل منظمة حزبية الآن. هذا عمل مختلف. لدينا مهمة محددة تحتاج إلى اثنين فقط. إذا كنت أنت أحدهما، فهل لديك الثاني. اخبرني عن فؤاد، العنصر في قوى الامن الداخلي، الذي لا دخل له بالشيوعيين. خططنا لعملية في النبطية. المكان والزمان وطرق التمويه والهروب. وأخذ بلال ما احتاجه من سلاح من المخبأ الذي كان سليم وضعه فيه، من دون ان يلتقيا. بلال وفؤاد رميا القنابل على جيب عسكري اسرئيلي وذابا في سوق النبطية المزدحم في نهار اثنين. ضربنا للمرة الثانية في النبطية.
بات لي مجموعة في النبطية. حركة عباس، المفترض من عملاء حداد، كانت الأسهل بين الاربعة. في مشوار ثان إلى بيروت، حمل عباس عبوة «تي أن تي» ودرب على استخدام جهاز اللاسلكي. هذه ستوضع في «بولمان» يحمل جنوداً إسرائيليين. سميت العملية «عملية دار المعلمين». عباس أخطأ حينها بتجنيد شاب ساعده. هذا الشاب، مدفوعاً بالفخر والخفة، أخبر بما فعل. لاحقاً سيعتقل عباس ولن يتحرر حتى عام 1984 في عملية تبادل اسرى. خطيئته اوقعته في مأزق كنت حذرته منه. حتى تحت التعذيب لم يكن عباس ليقر عن سليم، ببساطة لأنه كان يجهل كل شيء عنه.
كنت بحاجة إلى وجه جديد يكون صلة وصل بين المنطقة وخارجها. جندت لونا. حين عادت من مهمتها الاولى وهي ايصال رسالة إلى مخبأ خاص بسليم، كانت مرعوبة. قالت إن عميلا كان جارها في الضاحية رآها هناك. سألتها عشرات الأسئلة كي أعرف ما اذا تعرف عليها حقاً. استنتجت أنه لم يفعل. لاحقاً، وبعد التأكد من عمالته، قُتل.
كنت افكر في استغلال كل الصدف حتى تلك التي قد لا تعقل احياناً. عرفت أن رفيقاً بات مسؤولاً مع العملاء في النبطية. بينما يكون لدى غيري خيار واحد هو قتله، أنا كنت أمام خيارين. هذا شيوعي ملتزم وأعرفه منذ طفولتنا وأظنني اعرف معدنه. بعثت لونا اليه ومعها رسالتي وقد كتبت له فيها عن تاريخه وعن المأمول منه وعن دوره المفترض، وقلت أن ليس علي هو الذي يمكن العثور عليه مرمياً في دمه على الطريق. أجاب برسالة تفصيلية يمكن اختصارها باستعداده التام للمساعدة. نجحتُ إذاً. وكل ما كنت أريده هو ألا يطلق النار، لا علينا ولا على الاسرائيليين. اردته خزان معلومات. كشف لي عن عملاء سريين، وأمّن لنا سلاحاً ونبهني من اي مخاطر في طريقها إلينا.
علي صار واحداً من مجموعة في النبطية شكلت خلية ناشطة في منطقة عمليات واسعة. شابان يرميان مجموعة قنابل يدوية في جرجوع. آخر يفجر عبوة ناسفة ورفيقه يؤمن انسحابه ببندقية كلاشينكوف في بلدة بعيدة. اتساع الرقعة الجغرافية هي أكثر ما يربك العدو. كان هذا يعنيني إضافة إلى ما هو مقدس بالنسبة إلي: تأمين سلامة المقاتل.
شبه منفصل عن القيادة الحزبية، عملت في حلقة ضيقة حذرة مع شبان محترفين لا تدفعهم عواطفهم فقط بل كانوا مقاتلين حقيقيين. انتظار فؤاد الطويل والثقيل اسفل بضع شجرات بجانب الطريق، جعله يرى قنبلته اليدوية التي رماها تصطدم بجبهة الضابط الاسرائيلي قبل ان تنفجر بالآلية. وتوارى بلحظات.
واحد آخر ممن اعتمدت عليهم كان مراهقاً ونجل مسؤول كبير في الحزب. هشام، الطالب الثانوي تقرّب مني. بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي من الجبل(ايلول 1983)، صرنا بحاجة إلى طريق للسلاح من الجبل إلى منطقة جزين. هشام، ابن القرية الجبلية يعرف منطقته أكثر مني، وهو ممنوع من العمل في الجبهة لأنه الذكر الوحيد لأبويه. غير أنني أرسلته وشاباً آخر اسمه حسن في عملية استطلاع. غابا ثلاثة ايام وقُلبت بيروت عليهما. عادا وقد وجدا المدخل المطلوب. هكذا، صار بإمكاننا أن نهرّب سلاحاً.
معبر باتر صار هاجسي. كثفت زياراتي إلى قرية هشام. من هناك، في مرة، ذهبت ولونا في «كزدورة» بالسيارة. كنت أريد أن استكشف ما أمكن هذا المعبر المرعب كما يوصف دوماً. في الطريق، أوقفت السيارة ونزلت لونا وقطفت زهوراً. تابعنا حتى وصلنا إلى منعطف ما ان انهيته حتى وجدت نفسي في حضن الحاجز الإسرائيلي. في حضن معبر باتر شخصياً. من دون تفكير، أخذت باقة الورد من لونا، وقدمتها الى الجندي الذي ابتسم سائلاً بعربية ركيكة عن وجهتي: «إلى جزين» أجبت، فطلب مني أن اعود قبل السادسة.
تابعت مذهولاً. أنا الآن في المنطقة المحتلة، هكذا، في خطأ مميت.
لونا والسيارة ترتجفان معاً. وجدت دكاناً ابتعت من عنده قناني بيرة. لن اعود بسرعة كي لا اثير أي شبهات. حين عدنا أدراجنا، بعد اكثر من ساعة، عرضنا قنينة على الجندي نفسه فرفض وسألنا ما اذا كنا انبسطنا، فقلت له: «كثيراً».. أنا الذي كان مسدسي مخبأ تحت فخذي.
حين صرت بعيداً، راحت ساقي ترتعشان. اوقفت السيارة، مهدداً لونا بالعقاب إن عرف مخلوق بما حدث. لم يكن يفترض بالمسؤول الذي كنته أن يصير عرضة لتهكم رفاقه وسخريتهم نتيجة خطأ لا يقع فيه مبتدئ. وعدتني لونا ضاحكة بأن تكتم سري. الرفيقة التي عرضتها لهذا الخطر، كما لغيره، ستصير زوجتي في وقت لاحق.
رأيت معبر باتر إذاً. في ايلول 1984، في الذكرى الثانية لانطلاقة جبهة المقاومة، بدأنا تنفيذ عملية الموقع. مجموعتان لا تعرفان بعضهما. واحدة ستضع السلاح في نقطة محددة، والثانية، المؤلفة من هشام وحسن، ستمشي إليه وتأخذه لتتابع إلى الموقع وتضربه.
في ليلة تنفيذ العملية، سهرت في بيت رفيق يطل على منطقة العملية. بقيت مستيقظاً، وعند الخامسة فجراً، طلبت من الرفيق أن يعد القهوة. كان الضباب ثقيلاً في تلك الليلة. عند السادسة والنصف صباحاً، راحت الانفجارات وأصوات الرشاشات تدوي. لشدة حماستي، وقعت على الكنبة القريبة شبه مغشي علي. بينما الرفيق الذي امضى الليل كله معي، من دون ان يعرف لماذا انا عنده اصلاً، لم يجد إلا أن يرميني بسيل من الشتائم.
انتظرتهما حتى الظهر في بيت هشام. عادا بوجهين مطليين بالسخام. دخلا واغتسلا وجلسا يخبرانني بما حدث: وصلا إلى السلاح حيث كان، وتابعا لتوهما في الضباب. ظلا يمشيان تائهين، في منطقة وعرة، حتى استقرا في نقطة بانتظار جلاء الطقس. فجراً، تلاشى الضباب فوجدا نفسيهما على بعد أمتار من الموقع من جهته الخلفية. تحت عينيهما، جُمع الجنود الاسرائيليون وانتظموا في صفوف في التعداد الصباحي. قاما بكل ما استطاعا: رميا مقنبلتين وقنابل يدوية وأطلقا النار ببندقيتهما، حتى أن هشام وجد وقتاً ليطلق النار من مسدسه في تلك الدقائق القليلة من المباغتة التي فقد فيها الجنود كل قدرة ممكنة.
«رمينا الخبز.. وطفا السمك، ورحنا نصطاد».
بسط كفيه ومررهما فوق مائدة الطعام الصغيرة التي تحلقنا حولها، يشرح كيف كان الموقع أمامه، والأسماك التي فيه.
---------------------------------------
بعض من حكاية «جمول» يرويها أحد مجهوليها (3)
عندما كانت المقاومة أولوية..أنتجت وحررت
جهاد بزي
في الحلقة الثالثة، يتابع رضا، المسؤول في «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية»، شهادته، فيروي عن فشل حيناً، وعن نجاح حيناً، وعن لحظات تخبط ولحظات اعتداد.
عن الصعود والهبوط عشية تحرير جزء جديد من الارض، وعشية تغير الاولويات في السياسة وعشية مشهد جديد يتشكل، يبحث فيه الحزب الشيوعي اللبناني عن مكان بين الطوائف، بينما أبناؤه يصلون إلى مارون الراس، ويفجرون هناك تلفزيون العملاء.
قرر الحزب الشيوعي إخراج مصطفى سعد من صيدا. هذا القائد الحقيقي للمقاومة في حينها، الرجل الذي صمد في مدينته وتصدى وبقي صوته عالياً تحت الاحتلال، كان واضحاً ان الإسرائيليين سيقتلونه قبل انسحابهم، بعدما وضعوه في إقامة جبرية.
قام الرفاق بعملية تسلل إلى المدينة من نحو 23 شخصاً لإجلائه. وقع خلاف بيننا. أنا كنت ضد أن يشارك من ليس مُجَرّباً كفاية، لأن الوصول إلى صيدا بعد الباروك والريحان يتطلب مهارات ذهنية وجسدية استثنائية. قلت إن هناك مسؤولية على حياة الناس.
استعين بدليل ومساعده، وهذان من قرية واحدة، أخذا معهما سبعة من المقاومين، بعضهم آت لتوه من الاتحاد السوفياتي.. ومن غيره. في المواجهة التي وقعت بين نيحا وباتر، سقط ستة شهداء. كانت خسارتي الشخصية الأصعب والاقسى مذ بدأت عملي. الخسارة في الدم لواحد مثلي لا تنسى. بعدها أيضاً خسرنا ممرنا إلى المنطقة المحتلة، الشريان الجبلي الذي داريناه بالرموش طيلة ثلاث سنوات.
للأمر تتمة. بعد يومين أو ثلاثة، وقعت محاولة اغتيال سعد الذي قتلت طفلته ناتاشا، وأصيب هو بما نعرفه من جراح غيّرت وجه حياته إلى الابد، هذا البطل المغبونة حكايته.
في الشهر الذي تلى هذه المحاولة، أي في شباط من ذاك العام، 1985، انسحب الاسرائيليون من صيدا وشرقها وجزء من مناطق النبطية والزهراني واقليم التفاح وصور.
في ثلاث سنوات من العمل، كنا قد حققنا بناء تنظيم بشري متماسك، وقمنا بواجبنا تاماً. استشهد منا وجرح واعتقل الكثيرون. صار منا جيل من الكادرات كان واحدهم يدخل الى المعتقل، ويعذب، ولا يعترف، كما تطور مستوى القدرات القتالية والقيادية. كنا نعتقد اننا بتنا أقوياء.
بعد هذا التحرير الجزئي، قال عقل الحزب السياسي إن الأرض لمن يحررها. قال ايضا ان الاستمرار على هذه الوتيرة من العمليات، منا ومن غيرنا بالطبع، سيحرر ما تبقى من الأرض في وقت قصير، وينبغي الآن، استباقاً، التوجه إلى الداخل، أي «ضرب قوى اليمين اللبناني». هذه باتت أولوية الحزب في ظل تغييرات ما سياسية تجري، لم نقرأها، نحن العسكر، في حينها جيداً. بينما كان نفوذنا، وربما وجودنا، كيسار يخطو بثبات إلى موته، وبينما مشهد آخر يركب، لا مكان لنا فيه، كان عقل الحزب السياسي نفسه تائهاً، يناور بين حدين متناقضين: بين حد التقليل ما أمكن من الخسارة الكبيرة الآتية لا شك، وبين تلك الرغبة التي لم تنقص قط، بالدخول الى نعيم السلطة.
كنت في وادٍ آخر، أقوم بما أعتقد أنني أجيد القيام به. أنا العائد من مهمة في المنطقة المحتلة، في طريقي إلى نبطية محررة، معتداً بنفسي، وقعت وحسن (الذي شارك في عملية معبر باتر) في كمين حركي في جرجوع، تعرف عناصره على حسن بالاسم.
نُقلنا ليلاً إلى مكان فمكان آخر في صندوق سيارة وتركنا هناك مع آخرين. بينهم وجدنا رفيقين آخرين كانا معنا في المهمة. التالي هو المشهد الذي سوف يُنحت في ذاكرتي: 12 متهماً بالتعامل مع اسرائيل في سجن حركي، ورفاقي الثلاثة، وأنا، مع مثل هؤلاء.
فتح الباب علينا ونوديت باسمي كاملاً. عرفت أنني في حارة صيدا. وطُلب مني انتظار «المحقق». أي محقق؟ من أنتم أصلاً؟
غرقت بإحساسي بالمهانة. وابن النبطية الذي دخل ليحقق معي كان يعرف من أنا، وأعرف من هو. أنتم ستحققون معنا؟ أنتم؟ راح يعتذر، سائلاً عما أريد: قلت له اخرجْ شباني من بين هؤلاء الذين في الأسفل وحررهم، ففعل، ثم تركني لشأني.
عدت إلى النبطية أخيراً. أعددت ورفاقي في النبطية مخابئ أسلحتنا ومخابئنا الفردية. وبتنا نفكر الآن بالمنطقة الجديدة للعمليات، وأسئلتها الكثيرة. بموازاة ذلك، كنا نعمل في منطقة جبل الريحان التي نعرفها جيدا.
كنت أريد استعادة مركز الحزب في النبطية، لكن القيادة طلبت مني أن أنسى الامر. كنا، وفق ما أظنه ضحية تسويات قام بها الحزب مع القوى الطائفية، نخرج من قلب الجنوب، صوب صيدا والرميلة. هذا تراجع سندفع ثمنه غالياً. في العام 1985 كنا نملك القدرة والامكانات لأن نقوم بعمليات نوعية ممتازة، لكن «جمّول» لم تعد أولوية. لماذا؟ لا شك بأن الجواب يقع في متاهات السياسة. وكما نحب، نحن الشيوعيين، أن نحدد أزماتنا في خانتي الذاتي والموضوعي، فموضوعياً، كانت دورياتنا الذاهبة إلى المنطقة المحتلة تواجه صعوبات جمة في الدخول وبعد الخروج، ويتعرض رفاقنا للضرب والاعتقال والاهانة على أيدي قوى محلية كان واضحاً انها لا تريدنا أن نعمل.
ذاتياً وموضوعياً إذاً. المقاومة، نفسها، لم تعد أولوية، غير أن الحزب دخل في حالة غريبة من الرغبة بالعمليات كي يظل الاسم رنّاناً في الاعلام فقط.
بدأت العمليات الاستشهادية، أو شبه الاستشهادية. هذا لم يكن باب فخر لنا، وينقصه الكثير من الثبات والشجاعة والاقدام والقدرة على التخطيط والتنفيذ، على الاقل بالنسبة لمخططي هذه العمليات، لا لمنفذيها. ولم أكن أقبل بالمفهوم الذي يقول: «نحن مستعدون لأن نموت في سبيل تحرير الارض. لا تكن مستعداً للموت. من الممكن أن تموت، أجل، لكن لا تذهب إلى المعركة وأنت مستعد للموت سلفاً».
[[[[
كأننا نبدأ من جديد. ومن جديد، نبدأ بخيط رفيع. المسؤول المباشر معي يأتي ليقول لي: هناك رفيق لنا كان مزروعاً في جيش لحد في عيناثا وهرب ونريد تأمين سكن له. ذهلت. عميل لنا في عيناثا لا يفيدنا بشيء؟ هذا كنز لا أحد يعرف قيمته.
أتيت به إلى شقة في حارة صيدا هذا الذي سأسميه هنا «عزيز».
كان مسؤول حاجز في بنت جبيل. يعرف المنطقة كلها شبراً شبراً على ما يقال. جلسنا نرسم كل ما في ذاكرته من طرقات ومراكز ونقاط تفتيش. حكى كيف خرج من المنطقة التي يعرفها ككف يده.
شاب اسمه جمال كان قد جاء إلي عابساً يريد أن يعمل في المقاومة ووافقت على أن أطلبه حين يأتي دوره. لاحقاً طُرق باب بيت جمال، ابن البلدة المحاذية للمنطقة المحتلة وطلب منه أن يوافيني ففعل. كانت مهمتهما الاولى، هو وعزيز، تنفيذ عملية في بنت جبيل، حيث الحاجز الذي كان عزيز مسؤولاً عنه. ضربا الحاجز وعادا في الليلة نفسها.
في مهمة ثانية لعزيز، قتل ضابط اسرائيلي في منطقة بين بنت جبيل وعيناثا. في جلسات نقاش عملنا، كنا نقول إن الشغل يجب أن يكون كهذه العمليات التي بعضها صغير والآخر أكبر. أما مواجهة التحصينات الاسرائيلية بأجسادنا فعمل خاسر. لم يكن لدينا القدرات الهائلة التي ستصير لاحقاً لـ«حزب الله» حيث بات يشن هجمات كاملة على المواقع ويحتلها لساعات قبل أن يتركها.
دُمر مبنى إذاعة لحد في سهل الخيام، وسقط لنا ثلاثة شهداء. بعده، اتخذ قرار بتفجير مبنى التلفزيون التابع للعملاء، وهذا كان في مارون الراس. سألت ما اذا كانوا يملكون خريطة فنفوا. كيف نقوم بهذه العملية إذاً؟ «ندخل فصيلاً»، أجابوا. هكذا. بلا أي خطة. هذا يعني أنني سأرسل أناساً إلى حتفهم بلا أي مقابل.
بدأت بالتخطيط. وصف عزيز مبنى التلفزيون. أرسلته وجمال لاستطلاع المكان، وعلى ظهر كل واحد منهما عشرون كيلوغراما من الـ«تي أن تي»، خبئت قريبا من المكان. رسما ما رأياه. ورحت أرسم على الخريطة: منطقة واسعة مسيجة بأسلاك شائكة، وهناك بيت عند مدخلها، وبرج مراقبة يبنى.
في الدورية الثانية، عزيز وجمال تفقدا السلك الشائك ولاحظا التغييرات في الموقع وحملا أربعين كيلوغراما جديدا من المتفجرات. بات لدينا ثمانون كيلوغراما هناك.
طلبت مساعدة رفيق لنا على اتصال مع أحد عملائنا في المنطقة، كي يصور لنا كل منطقة التلفزيون. 72 صورة صنعت منها مشهدا بانورامياً للمكان.
في الدورية الثالثة، حمل الاثنان ألغاماً مضادة للمدرعات، ودارا حول المكان، وواحد منهما قال للثاني: في المرة المقبلة سيطلب منا أن نتفقد ما اذا كان الشريط الشائك مكهرباً، دعنا نقم بهذا الآن.
على الخريطة، رسمنا كل تفصيل، بينما بعض الرفاق من القادة يخططون لعمليات مثل: عشرين عنصراً مع عشرين قاذفة آر بي جي!
قلت لهم: سأحتاج إلى خمسة مقاتلين. وهذه عملية بنتيجتين لا ثالثة لهما: إما يسقط الخمسة، وإما ينجون كلهم. اختلفنا وعلت أصواتنا حتى وافقوا على أن أنفذ ما أخطط له.
ذهب حسن برفقة عزيز مستطلعاً المكان ونبشه نبشاً، ليأتي برأي في العملية هو نفسه رأيي. من شقرا إلى مارون الراس، يحتاج المقاتلون إلى ثلاث ساعات مسير. سينفذون عملية كبيرة وينسحبون في خط يحتاج بدوره الى ثلاث ساعات. احتمال الاشتباك في طريق العودة سيكون قاضياً.
وافقت القيادة على العملية، واخترت المقاتلين، وخططنا طويلاً، ودُرّبوا على الارض مرة بعد مرة، على كيفية تفخيخ الموقع وكل التفاصيل المتعلقة بالعملية.
ذهبوا الى العملية مزودين بما يحتاجونه من عدة، كما بأعلام للحزب الشيوعي كي لا يُسرق إنجازنا. في شقرا، راجعنا كل العملية للمرة الاخيرة، كمن يراجع الدرس قبل لحظات من الدخول الى قاعة الامتحان.
الإجراء الاخير: أعيدوا إلي مسامير العبوات التي ما ان تزال منها حتى يبدأ العد العكسي لانفجارها. هذا إجراء خاص بي. أريد ضمان ألا تنسى عبوة من دون أن تنفجر.
ذهبوا، وجلست أنتظر. في حسابي أنني سأبدأ بالاستماع الى الانفجارات بعد الثانية والنصف ليلاً. حينها، ستكون المجموعة بعيدة نحو ساعة عن موقع التفجير، وفي أرض يمكنها فيها التحرك بحرية أكبر نسبياً.
عند الثالثة إلا ربعاً، دوى الانفجار الاول. قلت لمحمد، رفيقي الذي معي: الآن الثاني، فانفجر. والآن سألني، فقلت: الآن سينفجر اثنان متتاليان. حصل. ثم ساد صمت متوقع بعدها. لتدوي أصوات رشاشات قدرت انها للعملاء المصدومين.
بقيت مشدوداً، أفكر بالشبان، مع أنني مطمئن إلى حد ما. عند الرابعة والنصف صباحاً، ساد الهدوء من جديد. سألني محمد ما اذا كانوا قد تأخروا، فقلت انتظر. عند الخامسة إلا ربعا، بدأت أقلق. عند الخامسة دخلوا، كلهم.
واحد منهم رماني بالمسامير صارخاً: «خود»..
«الليلة لا مصارعة»، قلت. فالتلفزيون لن يبث مساء السبت برنامجه الاشهر عن المصارعة الاميركية الحرة. قمنا ودبكنا.
حتى الآن لم يسامحني جمال لأنني لم أشركه في هذه العملية. في بالي حينها أنه لا يمكنني إرسال عزيز وجمال الى العملية نفسها، لأنني اذا خسرتهما معاً، فسأفقد الدليل إلى المنطقة.
قبل أيام فقط، ذهبت إلى الموقع للمرة الاولى في حياتي. وقفت أتفرج على أرض عشت فيها وعاشت فيّ زمناً طويلاً، على الورق، وفي داخل رأسي.
أنا أيضاً ممن شاركوا في تحرير هذه الارض، أكثر مني الشاب الذي رماني بالمسامير وضحكته تملأ وجهه وتضيئه. اسمه فرج الله فوعاني، الذي سيستشهد في عملية نوعية لاحقة.
----------------------------------
بعض من حكاية «جمول» يرويها أحد مجهوليها (4)
أتـى السـلم... خسـرنا مقـاومتنا ومـا ربحنـا سـلطة
في الحلقة الرابعة والأخيرة من شهادة رضا، المسؤول في «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية»، يحكي الرجل المجهول عن انقسامات الحزب الشيوعي العمودية والأفقية، وعن صراعاته الداخلية التي بدت مستعصية، وهو يدخل في حمى ما بعد الطائف وطي صفحة الحرب الأهلية اللبنانية، ونهاية الاتحاد السوفياتي العظيم وأحلامه الكبيرة.. والصغيرة. ولن تكون «جموّل» بخير، طالما عمودها الفقري، حزبها الشيوعي عليل ويكابر، ويرفض الاعتراف بأن الحمى تهز أوصاله.. ولا بدّ من وقفة جريئة.
أُخذت بما كنت أفعله. هذا العمل المضني والقاسي والمستدام. العمل في «جمول» كان تجربة حياة. بيوتنا المفتوحة لجميعنا وصداقاتنا التي كانت تبنى وتمتن في اوقات كثيرة كثيفة بالمشاعر. أنا العسكري الذي يخطط للعمليات، كنت احياناً أراني جالساً اصغي بشغف لمن يروي مشكلته العاطفية. هو ذاته، سأحتاجه في لحظة ما، وسأجده. هو نفسه قد يصلني نبأ استشهاده لاحقاً.
اسماء كثيرة مرّت بي، لا أنسى اسماًً. رجال ونسوة، كل واحد وواحدة فيهم كان حالة تروى. يفاجئك المعدن الطيب عند الناس. ليسوا ابطالاً. لن استخدم هذا الوصف. لكنهم كانوا مقاومين. هم بدأوا يقاومون ما إن فكروا بأنهم يريدون المقاومة ويستطيعونها.
هذا كلام بريء وحقيقي وجميل. لكن واقعاً كان ينمو في مكان آخر. واقع الخلل الذي كان يفكك الحزب بعضه عن بعض، وإن داخل قشرة البيضة الحمراء.
كان الحزب ينقسم عمودياً وافقياً، في تيارات متلاطمة تتفق فقط على التناقضات والاضطرابات، وفي صراع دائم ومستمر على السلطة.
هذه مساوئ ستطال، اول ما تطال، الجسم المقاوم لأنه الأشد حساسية ولأنه يتطلب الحد الاقصى من الصدق ومن التضحية. نعم، اضطهدنا وتعرضنا لموجة اغتيالات، غير أن هذا كان يمكن تحمله، بل ربما كان ليشدّ عصبنا. مشكلتنا الاساس كمقاومة، كانت في بيئتنا الطبيعية، الحزب. هذه البيئة التي لم تعد حاضنة لنا. لم تعد الجدار الذي نحمي ظهورنا به.
أحكي هنا عن تجربتي الشخصية، على الأقل، وسأتابع منها.
أنا الباقي على تفاؤلي، قررت ورفيقين آخرين، في العام 1987 الضغط باتجاه العمل على تغييرات جذرية في جهاز المقاومة. في اجتماع مع رفيق عيّنته القيادة مسؤولاً علينا، قررنا ان نقول ما لدينا، فإذا بالمسؤول يبلغنا بأن المكتب السياسي فصلنا نحن الثلاثة من جهاز المقاومة وأعادنا الى تنظيم الحزب، وإن رفضنا يعني خروجنا من الحزب.
بتّ بلا عمل إذاً، أنا الذي أزعم أنني لا أجيد عملاً غير هذا. أي مكافأة لي على ما قمت به طوال سنوات؟ لا جواب عندي. وللمفارقة، ففي الأشهر التي تلت، كثر سقوط الرفاق أسرى او شهداء في عمليات وظيفتها لفت النظر إلى أننا موجودون. لست اقول إن إبعادي كان السبب، لكنها الرؤية المقلوبة التي قررت لجهاز المقاومة أن يخدم الحزب، وليس العكس.
في العام الذي تلا، عادوا إليّ يسألونني أن أرجع إلى جهاز المقاومة. رجعت، أنا الذي لم أنقطع أصلا، واستطعت في خلال إزاحتي عن المقاومة تجنيد شاب في مركبا قام بأكثر من عملية في المنطقة المحتلة.
كان في بالي أن العمل لن يكتب له النجاح ما دمنا لا نرى الإسرائيليين. علينا ان نرى عدوّنا ويرانا حتى نقاتله. لن تكون المقاومة برمي قذيفة «آر بي جي» على الاسمنت المسلح للمواقع للمستعدة لتلقي الغارات الجوية. لن أدبّ الرعب في الإسرائيلي ما لم ألتحم به.
بدأت أعيد ترتيب البيت. أبني بنك معلومات جديداً عن المنطقة المحتلة التي كان اتصالنا بها ضعيفاً تماماً. القلة الحمراء المزروعة في المنطقة المحتلة كانت شبه منسية. ارسلت في اثرها واجتمعت بها واستمعت إليها وأعدت بث الروح فيها.
نظمت دورات تدريبية لرفاقنا. وبإمكانات ضئيلة جداً، جددنا دروياتنا في القرى والبلدات الحدودية. في القنطرة وكفركلا وبين مارون الراس وبنت جبيل. في ذكرى انطلاقة المقاومة في العام 1989 نفذنا عملية في مركبا، على بعد ثلاثمئة متر من الشريط الاسرائيلي الشائك. عملنا. لكن لم يعد لعملنا وهج. نحن في زمن ايغور غورباتشوف، والارض تبدو كمن تستعدّ لأن تعكس دورتها. وتتالت الصدمات من اتفاق الطائف الى نهاية الحرب إلى نهاية المعسكر الاشتراكي إلى وعود الزمن اللبناني الجديد. أصيب الحزب الشيوعي بمرض السلطة وصارت أزمته مستعصية.
ليس صحيحاً أن حزباً عليلاً ستكون مقاومته بصحة جيدة. حين يمرض ستمرض معه. لم تعد قادرة على حماية ثقافتها، وصراعات حزبها تسيء إلى كل ما يتعلق بها. حتى حين يقوم الرفاق بإنجازات فإنها تضيع.
في تلك السنوات، بات قتال اسرائيل هو أسهل الامور. لكن فينا كمنت مصاعبنا. وكان علينا كي نقاتلها أن نتخطى حواجز انفسنا. وهذا بدا مستحيلاً.
حين يُطلب منا تسليم لوائح باسماء المقاومين لكي يدمجوا في مؤسسات الدولة، فهذا يعني أن قراراً اتخذ بإنهاء القضية، ومع أنني رفضت تسليم الأسماء، لكنني أصبت بالضجر.
في العام 1993 كنت أديت واجبي أمام ذاتي، وأمام دم رفاقي وفي عيونهم، أظل حتى اللحظة اقرأ فيها احتراماً كبيراً. أديت واجبي وانا أرى ما فعلتُ في عيون أناس آتين لن يعرفوني باسمي ولا بشكلي، لكنهم سيعرفون ماذا فعلنا، نحن الذين مشينا في تلك الطريق. هذا كان يكفيني في حينها. ولم أكن أريد أن أخسر. ولم أخسر.
كنت ضجرت. ولأنني لم أكن مستعداً لإرسال شاب إلى الموت كي يفاوض أي كان على حصة له في السلطة، ذهبت. نعم ذهبت.
الشيوعيون يحتلفون بالذكرى الستين لانطلاق الحزب الشيوعي في بعلبك 1984 (م. ع. م)
معسكر تعبئة للحزب الشيوعي عشية الاجتياح (من أرشيف «الشيوعي»)
تعليقات: