30 تموز 2006: سلام على قانا (م.ع.م)
قانا :
أليس المكان الذي ينام فيه الأطفال إلى الأبد هو الجنة؟ إذاً، فقانا هي الجنّة.
إلا أنها جنة ترتدي فيها النسوة الأسود، جنّة مدمرة ...
كأنها أرض ارتفعت نحو السماء بأجنحة ملائكة صغار، ابتلعتهم ليلة حالكة، ظالمة، سرقتهم من أحضان أهاليهم، مع أنهم كانوا يلتصقون بهم.
تناثروا هنا جثثا هامدة وأشلاء، رأتهم عيون العالم كله، ثم ارتفعوا إلى سلام لن يدركه سواهم، سلام لا يعرفه العدّو.
في التالي، حكاية سنة مرّت على أهل سبعة وعشرين شهيدا، رواية ما زالت تستعاد، على كل شفة ولسان، بأدق تفاصيلها. في التالي، قصة ليلة غاب فيها القمر لتشرق الشمس على ظلام حالك وعلى حياة.. مبتورة...
وجهه ضاحك بين الأضرحة
لم تكن المناسبة ذكرى مرور عام على مجزرة قانا الثانية. لكن الساحة، حيث أضرحة الملائكة الخمسة والعشرين، وشهيدي المقاومة، مكتظة بالأهل والأصدقاء.
الرجال يتحدثون عن عملية إعادة الإعمار، بينما النسوة، متشحات بالأسود، مجتمعات تحت أغصان شجرة قبالة أحباء يغادروهن. لا يتحدثن. تتبسّم الواحدة منهن للأخرى ثم تعود بنظرها، سارحة، الى ضريح أو الى صورة كبيرة جمعت الشهداء فوق المكان الذي يرقدون فيه.. بسلام...
وحده وجهه كان ضاحكا... هو حسن شلهوب، طفل بين كبار ينتظرون زيارة الفنانة جوليا الى المكان. يلهو ويلعب ثم يعود ويلتصق بأبيه المقعد.
حسن نجا من الموت لكنّه لم يخلص من قساوة التجربة.
في الثلاثين من تموز الماضي، كان نائما كما رفاقه، وصحا على ليل دامس وركام... غاب لبرهة من الزمن، ناولته أمه للمسعف كي يهتم به لتعود وتبحث عن الابنة الحبيبة زينب... لكن زينب فارقت الحياة، وظلت يدها ممدودة فوق الدمار، كأنها تحيي أسرتها للمرة الأخيرة.
ماتت زينب، واستفاق حسن ليجد نفسه بين جثث هامدة. ظنّ المسعفون أن «المقاوم الصغير» قد فارق الحياة. نادى على أخته، نادى أنه ما زال حيا. عاد إلى حضن الأم المصابة والى قلبها المفطور على زينب.
صورته وهو ينتفض من بين الموت سائلا عن عائلته لم يتبدل بعد عام على المجزرة. وحده وجهه الضاحك يتعارض مع كل الوجوه المثقلة بالموت وهموم الحياة التي تلت الموت...
حركة تملأ الأرض وتصل إلى السماء ووجه بشوش يضحك بين الأسود وفوق الأضرحة.
تأتي الفنانة، يتجمهر أهل الشهداء حولها... تحييهم، تقبّل النسوة، لا تتكلم. ماذا تقول في حضرة الملائكة؟ تضع إكليلا من الورد ثم تنطلق في جولتها الجنوبية.
ظل حسن طوال الوقت ملتصقا بوالده محمد. هما بعيدان عن المشهد، فالوالد لا يسعه التنقل بين الأضرحة كما غيره من أهالي الشهداء... لكنه كان يتابع الحدث بدقة، وربما بفرح، وقد بدا عليه التأثر والفنانة تنحني أمام زينب ورفاقها...
عام واحد مرّ، لكن قسوة التجربة زادت سنين طويلة على عمر حسن وهو ما زال في الخامسة.
خسر حسن شقيقته وعمّه وعمّته، لكنه ما زال يضحك ويلهو ويلعب لأنهم هناك «في الجنة، حيث لا وجود لإسرائيل».
من يحارب الحياة في قانا؟
ليست قصص ذلك اليوم التي كتبت أو رويت، إلا أجزاء عدة من رواية واحدة.
إنها عائلة واحدة، نامت ثم استفاقت لتجد أنها بترت، قسمت... لملمت أشلاءها ولم تنس حزنها بعد.
قانا التي لم تنقذها ولو أعجوبة واحدة من عرس الدم، وصلت الى العالم على هيئة صور قتل ودمار...
«هل تذكرين صورة الطفلة التي كان يحملها رجل؟ إنها صورة فاطمة ابنة شقيقتي». تقول زينب التي فقدت أما وأبا وشقيقين و... عائلة.
فاطمة، كما زينب الصغيرة، رقدتا بسلام من دون أن تعرفا أن صورتيهما شهيدتين، ستسمحان «بهدنة إنسانية» لم تدم أكثر من يومين.
هذه هي قانا نفسها التي حرّكت العالم في العام 1996 ضدّ إسرائيل، هذا هو دم أبنائها ذاته يحمل إسرائيل بعد عشرة أعوام على وقف اعتداءاتها ولو ليومين.
لماذا ليومين فقط؟ يتساءل رئيس البلدية المحامي محمد عطية. ثم يجيب نفسه «ربما لأن النظرة لإسرائيل لم تعد واحدة في البلد. ربما يعتقد البعض أنها عدّوة قسم من الشعب اللبناني فقط...».
منذ العدوان وبعده بعام، بقيت قانا لا تشبه غيرها من القرى الجنوبية. هنا قسوة الموت والدمار أشد وطأة، هنا تبدو الأرواح الصغيرة منذورة للقتل. كأن قانا أضحت مرادفا للمجازر وصور الأطفال وهم شهداء محمولين على الأكف.
من عدوان الى آخر... «تشيخ» في قانا الحياة بسرعة... وتستعاد ببطء، إذا وجد إليها سبيلا.
الوجوه المتحلّقة حول رئيس البلدية، تسأله مستفسرة عن مصير المنازل المدمّرة. «لا شيء حتى الساعة باستثناء إعادة تأهيل الطريق العام بهبة من إيران، وإعادة ترميم بعض المنازل المدمّرة في خطوة سورية لإعادة البناء».
تقول الأرقام إن العمل بدأ لإعادة إعمار حوالى ستين وحدة سكنية من أصل 164 وحدة. ما عدا ذلك، تكاد الحياة اليومية في قانا تشبه حياة أيام القرون الوسطى «لا كهرباء إلا في القليل من الاوقات ولا هاتف، ولا من دولة تسأل أو حتى تعد بخطة إنقاذ. الشتاء على الأبواب وقانا ما زالت كما كانت منذ سنة، بعيد العدوان...».
يسأل عطية «تعتبر قانا بلدة منكوبة على مستوى الجمعيات الاوروبية، فماذا عن معايير الدولة اللبنانية؟ سنة 1996 وبعد المجزرة، أطلق شعار «ماتت قانا ليحيا لبنان». ما عانته بلدتنا السنة الماضية، يبدو بالنسبة للبعض أشبه بحادث سير... حتى موقع الأضرحة لم يقم للشهداء إلا بمبادرات فردية من الأهالي»...
هل تكفي حياة واحدة؟
«أمي، أبي، أخواي، عمّي، وزوجة عمّي وأولادهم....»
يلفّ الحجاب وجه زينب شلهوب الحزين، ويثقل الحزن عينيها. تبدو وكأنها لا تقوى على النظر الى الأعلى.
يشبه هدوؤها صمت الموت، الموت الذي خطف أحباءها. وحين تتكلم، تبدو كمن يجبر نفسه على الكلام.
من بعيد، تشير الى اللوحة الكبيرة التي تحمل صور الشهداء، تعلوها صورتا شهيدي المقاومة وتتوسطهما صورة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله.
تنطلق من الصف الأول للصور، تعدّ واحد، اثنان، ثلاثة، ثم تبدأ: «هذا أخي والى جانبه أخي الثاني ثم أبي فأمي وعمي وزوجة عمي وابنة عمي... وإبنة شقيقتي....».
طويلة هي لائحة شهداء زينب... لا تكفي حياة واحدة لنحزن على رحيل هذا العدد من الأحباء «الله مصبّرنا» تقول قبل أن تضيف «الحمد لله نلنا نعمة الشهادة».
كانت زينب قد أصيبت في يدها يوم المجزرة، وبعدها، أصيبت بتشنّج في الأعصاب... «كانت شقيقتي عروسا وعمرها خمسة وعشرين عاما، وشقيقتي الثانية هالة، كانت نائمة الى جانب طفلتيها فاطمة (ثلاث سنوات) ورقية (سنة وأربعة أشهر). بعد إصابة المنزل، انتشلوا شقيقتي من بين الدمار، لكننا أضعنا فاطمة، لم نعرف أين هي، ثم وجدناها ملقاة فوق الركام. كانت رقية الى جانب هالة، يقول أحد الرجال انه سمعها تنادي، «بابا، بابا»... لكنها استشهدت هي أيضا...
تعيش زينب اليوم مع شقيقتها سناء وخالتها، «كان إذا مرض أحد أفراد العائلة نصاب بالهلع والخوف، فكيف يمكن وصف حالتنا وقد استشهد من استشهد»... «الله مصبرنا، الله مصبرنا» تكرّر.
انكسرت الشجرة وبقي الجذع
تجلس الحاجة ميرة جباعي قبالة أضرحة الشهداء. هي جذع شجرة انكسرت أغصانها. لها سبحة من الشهداء كما زينب.
تستعيد ليلة 29ـ30 تموز الماضي بالتفاصيل «كنا نجلس في بيتنا، قصفت (إسرائيل) على الشارع فتناثر الزجاج... قصدنا منزلا آخر حيث بقينا لمدة سبعة عشر يوما. كانت الطرقات قد أقفلت، وكنا نجهد لإبقاء الأطفال داخل المنزل. في الليل، نضع الأولاد للنوم في المكان الأكثر أمنا وننام نحن من ناحية الشرفة. في تلك الليلة قصفت إسرائيل، سقط شيء عليّ، انعقد لساني، سمعت زوجة ابني تسألني عن ابنها عباس (تسعة أشهر). قادوني الى مكان آخر وبقوا حتى الفجر ينتشلون الجثث...».
خطفت المجزرة من الحاجة ميرة أكثر من أحد عشر شهيدا من بينهم ابنها محمد شلهوب الذي سبق أبناءه الثلاثة الى الشهادة «استشهد قبل اثني عشر يوما من المجزرة فيما كان يقاوم، لكننا لم نعرف إلا لاحقا...».
لا ترضى منى كمال، زوجة الشهيد محمد، أن تعدّ الحاجة ميرة زوجها من بين شهداء المجزرة «لا يا حاجة ابنك شهيد بالمقاومة، ويجب التمييز ...».
تبدو منى الأكثر تماسكا من بين الحاضرات جميعهن. تقول «الحمد لله نلنا الشهادة، وهذه إرادة الله ورجاء كل مقاوم».
تطلب من ابنتها زينب أن تكمل الحديث، إلا أن زينب ليست على قدر والدتها من التماسك «أشعر ان كل يوم يمرّ هو أصعب من الذي سبقه. أعرف أن الحياة لا تتوقف وانه يجب أن نكملها، ولكن من الصعب خسارة عائلة بأكملها ...».
كان لي ابنة خال
يكسر سكون البلدة ورهبة الموت التي تلفها، الصوت المنبعث من عربة بائع البوظة، والذي يشبه صوت صناديق الفرجة القديمة...
اشترى علي شلهوب كوبا بدأ يلتهمه من دون ملعقة، وهو يلهو مع ابنة الجيران وشقيقها.
«أين وقعت المجزرة، هل تعرف؟».
«من هنا من هنا» يجيب وهو يركض مسرعا صوب مكان الحدث.
يتوقف أمام أرض بور ثم يبدأ بالكلام «كان المنزل من طابقين وكان فيه ملجأ. أي شو مفكرة. كنا في الملجأ. قصفت إسرائيل، وأنا كنت الى جانب أمي. أراد أخي قاسم النوم مع الشباب. عند الساعة الواحدة وخمس دقائق، قصفت إسرائيل، وصار دمار. أنا جرحت وجهي وأختي غدير أيضا جرحت وأخي قاسم صار في الجنّة. حرام جارتنا هالة سمعت صوت ابنتها الصغيرة تنادي بابا، بابا، ثم استشهدت...».
ثم يستدرك ابن السنوات السبع «هناك أيضا مجزرة أخرى وأضرحة أخرى. كانت المجزرة الأولى من زمان وراح فيها 151 شهيدا...».
في المكان ذاته، تقف آية الكروي حزينة وهي تنظر الى كومة حجارة «أنا كان لي ابــنة خال اسمها حوراء هاشم. استشهدت هنا، بعدما أصبحنا أصدقاء...».
يقاطعها علي «أنا أخي صار معها في الجنّة...» يضحك لرفيقه محمد شقيق آية، يغمره وأخته غدير «نحن أصدقاء»...
قاسم وحوراء شهيدان من شهداء قانا الذين ارتفعوا الى السماء. غادروها أشلاء بين الركام. غادروا بلا وداع.
وحدها زينب ابنة الأعوام الستة أبقت يدها ممدودة لتحية أخيرة...
فسلام على الحياة في قانا المنسية.
سلام على الحياة، تستنهضها قانا، كل مرة، برغم الظلم والعذاب.
زيارة الأحبة الكثر (الصور لـ: علي لمع)
علي شلهوب يشير الى موقع المجزرة
تعليقات: