.. تعانق الموروث والمأثور، مزيج من الشوق والرغبة، انعتاق من عالم الضباب والسراب، إلحاح على باب الحقيقة !..
تقودني هذه الحزمة بإصرار مساء الخميس إلى منتهى الكيان البشريّ، ومحطّ الرحال الأخير لأثقال الروح، فأخلع عنّي كلَّ لبوس كثيف، وأنفض ما علق في الذهن من غبار الدنيا، لأبحر في مركب التفكّر بمجدافين اثنين الحبّ والرجاء ..
أوزع الجسد على جنبات القبور العتيقة، وتنحاز عيناي دوماً إلى قبر أمي، هكذا انحياز القلب يدير بوصلة العينين!.
وعندما يشتعل البخوّر وتفوح رائحة الآخرة، والبصر الحديد يخترق كلَّ الأسماء وكلَّ الأشياء .. أفتح دفتر الذكرى وأستعيدهم ..
بكلّ صورهم وتفاصيلهم، بنبرة أصواتهم وصمتهم، بسكونهم وغضبهم، بحزنهم وفرحهم، ببكائهم وضحكهم، أعيدهم إليّ وأعود اليهم، ليسوا قلة هم أعمدة الدار الأولى، وأشرعة مراكبنا المنسيّة على شطآن القدر الأقسى ..
أقلّب في الصفحات.. هذا أبي وذاك طعم أبوّة غريب المذاق، ونداء لم يألفه اللسان، كفّ تمسح رأس يتيم قبل الطلقات الحقودة وعواء الذئبية في دولة الغياب ..
هذا أخي الأول حبو الشباب على أعتاب الأماني المسروقة، وتبعثر الأوراق بين الجدّ والهزل، واحتطاب البراءة وقوداً في الشتاء..
هذا أخي الثاني رفيق العمر الحزن، ورحيل الحلم عند مفترق الصباح ..
هذه المسكونة بالحبّ والورد أمي .. واعذروني فأمام حضرتها ينعقل الكلام، ويستقيل البيان، ويبقى لقلبيّ أن يبوح بجوعه، ولعينيّ أن تسكب ألم الفراق ..
مساء الخميس ألتقي أحبتي المستغرقين في الصمت .. الهائمين كالفراش في بساتين الملكوت، وفي رحاب اللقاء أحاول الاقتراب من وحشة الموت، من عالم المجهول، يدفعني الفضول الى مساس المحذور فيرتدّ اليّ الفكر خاسئاً وهو حسير، وتعجز الروح الأسيرة خلف قضبان الجسد المتكئ على الرخام عن اللحاق بفراشات البرزخ، وتبقى تسترق السمع لأهازيج القافلة المبحرة نحو حدود الضوء ..
بقلم : الشيخ محمد أسعد قانصو
تعليقات: