الحلول المجتزأة تغذي استمرار الأزمة (عباس سلمان)
انتقادات حادة للتسويـة «الريعيـة» تصيـب الحكومـة و«الاتحـاد العمالي»:
الدولـة تتهـرّب من معـالجة مشكلة الوطـن والمواطن.. فتستديم الأزمـة!
سعدى علوه
أكّد وزير العمل شربل نحّاس لـ«السفير» أمس أن «التسوية» التي توصّل إليها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي منتصف ليل أمس في قضية زيادة الأجور، «ليست مرسوماً أو قراراً صادراً عن مجلس الوزراء»، بل «نتيجة للمفاوضات التي قادها رئيس الحكومة، مشكوراً، بين الهيئات الاقتصادية وبين الاتحاد العمالي العام»، بما يعني أنها ليست نهائية وما زالت قابلة للتعديل».
وكان المواطنون قد صحوا أمس مربكين حيال الغموض الذي يكتنف التسوية التي بدت أشبه بـ«قنبلة» متفجرة أصابت شظاياها الحكومة بمن تضم، كما الجسم النقابي، وطبعاً، العمال والموظفين الذين طووا ليلهم على خيبة الأمل الأكبر منذ السبعينيات، أي منذ تاريخ بدء تصحيح الأجور ولغاية اليوم. وحتى الهيئات الاقتصادية أعربت عن رفضها لـ«التسوية» الهشّة من أساسها.
والتبست نقاط كثيرة على المواطنين، بدءاً من قيمة الحدّ الأدنى للأجور، ومعه تحديد المشمولين بزيادة المئتي ألف ليرة، والثلاثمئة ألف ليرة، مروراً بالأفراد الذين جمّدت رواتبهم عند حدود مليون وثمانمئة ألف ليرة لبنانية وما فوق، وصولاً إلى المنح المدرسية التي حدّدت بمليون وخمسمئة الف ليرة، ليتبين لاحقاً أن المبلغ خاص بولدين فقط من كل أسرة، أي سبعمئة وخمسون ألف ليرة لبنانية عن كل ولد، على أن يحظى الموظف بمنحة لولدين وليس أكثر.
تأتي الزيادة المنقوصة في ظل تأكيد رئيس «جمعية المستهلك» الدكتور زهير برو لـ«السفير» على أن «المؤشر الذي وضعته الجمعية يشير إلى أن عائلة مؤلفة من أربعة أشخاص تحتاج إلى ما لا يقل عن مليوني ليرة لبنانية في الشهر لكي لا تعيش تحت خط الفقر، مع تأمين تعليم أولادها في المدارس الرسمية وليس في أي مدرسة خاصة».
وكان تقرير «لجنة مؤشر غلاء المعيشة» التي شكّلتها الحكومة، قد أشار إلى أن الأسعار في لبنان ارتفعت بثلاثة أضعاف عما سجّل عالمياً، مرجعةً ذلك إلى مجمل الظروف الداخلية السائدة في البلاد.
وبرز سؤال أساسي: لماذا رفع «الاتحاد العمالي العام» سقف مطالبه، في البداية، مصرّاً على جعل الحد الأدنى للأجور مليوناً ومئتين وخمسين ألف ليرة، ثم عاد وقبل بأقل من الحدّ الأدنى من التقديمات؟
قلق مستديم من استحقاقات مستدامة!
ويضع وزير العمل شربل نحّاس ما حصل في سياق متكامل، إذ يؤكد أن الحكومة بدت «وكأنها ساعي بريد بين العمال وبين أرباب العمل، وليست حكومة حقيقية تحدد المشاكل التي تقع على كاهل المواطنين وتضع الحلول العادلة، وتأخذ القرارات وتقوم بتبليغها للمعنيين».
وبذلك، أدت الحكومة، وفق نحاس، «دور الإطفائية أو الصليب الأحمر وهرعت عند وقوع الحادث للنجدة، ولم تبادر إلى معالجة احتياجات الناس ومشاكلهم».
ويكمل نحاس شارحا أنه «بهذا الموقف، وضعت الحكومة نفسها في موضع يشير إلى أنها لو لم تخف من الإضراب لما تحركت، وبأنها ليست مهتمة بنصف مليون مهاجر، وبكل الوضع الاقتصادي والاجتماعي الضاغط على الناس.. فمن اقتراح خطة متكاملة وتغطية صحية شاملة وتقديم حوافز تعاقدية للمؤسسات التي تمنح فرص عمل للشباب وللعاطلين عنه، انتهت الأمور بتسوية مضرة سياسياً بالحكومة وبالاتحاد العمالي العام وبالحركة النقابية برمّتها».
وعن موقف القوى السياسية الأكثرية في الحكومة، رأى نحاس «أننا نعيش ومنذ انهيار الدولة في الثمانينيات، وفق مقاربة مرسّخة تخلق قلقاً مستديماً من استحقاقات دائمة، ما يبقينا في موقع تلقي الحدث، ومحاولة استيعابه وليس المبادرة إلى حلّ المشاكل والأعباء التي تثقل كاهل المواطنين».
أما الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني خالد حدادة، فرأى أن «الحكومة التي لا تكون مسؤولة عن شعبها لا يمكن أن تكون حكومة وطنية، ومجلس الوزراء القابل للانفجار نتيجة زيادة محقة للأجور بسبب غلاء المعيشة هو مجلس لا يستحق الاستمرار».
تفنّن في الهدر!
وتأكيداً على ضعف موقف الحكومة، رأى الخبير الإقتصادي كمال حمدان أن «مندرجات هذا التصحيح تؤكد على وجود منطقين متباينين داخل الأكثرية، وافتقادها لرؤية اقتصادية واضحة وموحّدة وواعدة بالتغيير».
ووصف حمدان ما حصل بـ«التصحيح الاعتباطي والمرتجل على قياس «النتعات»، أو المبادرات اللحظوية غير مبنية على أسس شفافة وواضحة، إذ لم يسبق مثيل له في تاريخ تصحيحات الأجور في لبنان منذ بداية السبعينيات وحتى اليوم».
وأكد حمدان أن «تسوية» الأمس هي «بالتأكيد أسوأ من تصحيح الأجور في العام 2008، والذي اكتفى يومها بتوزيع زيادة ثابتة على كل فئات الأجر في شكل حسنة أو مكرمة».
وأشار حمدان إلى أن التصحيح الحالي للأجور «لم يكن جزءاً من خطة على النحو الذي عمل وزير العمل لأكثر من شهر على صياغته ضمن مقاربة بعيدة النظر تستهدف معالجة بعض التشوهات المتراكمة التي طاولت بنية الأجور عموماً، وتحرير الأجر من أعباء بعض المنافع الاجتماعية العامة لا سيما في المجال الصحي عبر إقرار مشروع التغطية الصحية الشاملة للبنانيين المقيمين».
وأكد حمدان أن «مشروع التصحيح الحالي الذي يوقف استفادة الأجير عند حدود أجر شهري لا يتجاوز حدود المليون وثمانمئة ألف ليرة، يوقع مشاكل ويدخل تشويهات في كل مؤسسة على حدة، لجهة تعاملها مع بنية أجور العاملين لديها»، وأنه، من المرجح، بل المؤكد، «أن يسهل ذلك تحايل أصحاب العمل إزاء تطبيق مندرجات التصحيح بحجة تلافي خلق فروقات غير مسنودة في نظام أجور العاملين لديهم».
وتوقف حمدان عند ما اسماه بـ«التفنن في الهدر»، ليقول إن ما حصل يؤكد «الارتجال أيضاً في طريقة التعامل مع موضوع بدلات النقل، فزيادة ألفي ليرة يومياً على هذه البدلات من شأنه أن يرتب كلفة إضافية قدرها سبعون مليون دولار سنوياً للعامين في القطاع العام، ما يرفع إجمالي تعويضات النقل لهؤلاء العاملين إلى ما يزيد عن ثلاثمئة مليون دولار سنوياً».
يضيف حمدان تلك الفاتورة إلى كلفة قرار وزيرة المال السابقة بشأن تعويض السائقين عن ارتفاع أسعار المحروقات، ليشير إلى أن «الفاتورة الإجمالية لما تتكبده الدولة على دعم نقل موظفيها ودعم السائقين تصبح بحدود خمسمئة مليون دولار».
ويرسم حمدان صورة عن كيفية عمل حكوماتنا المتعاقبة: «فهي تتفنن في هدر خمسمئة مليون دولار في مزاريب دعم النقل العام من دون إمتلاك وتنفيذ خطة وطنية للنقل العام تؤسس للخروج من هذا النفق المظلم الذي يبدو أن لا نهاية له».
وعن انعكاس «التسوية» على الهجرة التي حاول الوزير نحاس في خطته إيجاد آليات للحد منها، رأى حمدان أن «مندرجات التصحيح من شأنها أن تعمّق هجرة المتخرجين والموارد البشرية الكفوءة إلى الخارج، فيما يواصل البلد استقبال مزيد من العمالة الأجنبية غير الماهرة، ضماناً لمصالح طبقية وفئوية و«جمعاتية» ضيقة ومعاكسة لروح العصر».
«عقلية المكرمة»
يسمي الأمين العام لـ«الحزب الشيوعي اللبناني» الدكتور خالد حدادة ما حصل بـ«المأساة» التي تؤكد «أنه في ظل هذا النظام السياسي الذي يشكل تحالفاً بين قوى وزعامات سياسية وطائفية، وبين قوى رأس المال في البلاد، مع أولوية سيطرة للطرف الثاني، ولما كنا نسميه الطغمة المالية في البلاد، يتضح ان الاتجاه هو دائماً إلى تحميل ذوي الدخل المحدود والفئات المهمشة والموظفين والمعلمين أوزار الأزمة المالية والاقتصادية في البلاد».
ورأى حدادة أن «التحالف نفسه هو المسؤول عن هذه الأزمة، فهو الذي أوقع البلاد تحت ديون ستين مليار دولار معظمها سرقات وهدر للمال العام ومصادرة للأملاك البحرية والبرية وأرباح لأصحاب المصارف، ما أنتج الأزمة وزاد الفقر والتضخم ونتائجه، على الرغم من غياب زيادة الأجور».
وبعدما حمّل القيادة الحالية للإتحاد العمالي العام مسؤولية ما يعيشه العمال والموظفون، لفت حدادة إلى أنه يتوجب «على الهيئات النقابية الرافضة للتسوية التنسيق في ما بينها، وقد حان الوقت لطرح شعارين بنيوين هما السلم المتحرك للأجور الذي يلغي الكذب الرسمي عن زيادة الأسعار بسبب زيادة الأجور، ويعطي الحق السنوي للعمال، ويمنع التلاعب بالضريبة وبشكل خاص الزيادة المقترحة على القيمة المضافة، ودعم اقتراح وزير العمل بتأمين التغطية الصحية الشاملة، وإعادة الاعتبار للمجلس الاقتصادي الاجتماعي وغيرها من الخطوات التي تطال السياسة الإقتصادية الإجتماعية التي ضربت سيادة البلاد من خلال الدين العام وزادت في إفقار الناس».
وتوقّف حدادة عند تعليق «مضحك» أدلى به أحد المعلقين السياسيين الإقتصاديين، وهو يتساءل عن «سبب الزيادة على رواتب تفوق مليون ونصف المليون ليرة، بينما يمكن له أو لأحد أولاده أن يصرف أكثر من ثلاثة ملايين ليرة في اليوم»، ليقول: «يجعلون الأمر يبدو وكأنه منحة تعطى للفقراء المساكين على طريقة منطقة الخليج العربي». ورأى حدادة أن «المواطن الذي يتقاضى أجراً محدوداً، حتى وإن جاور الثلاثة ملايين ليرة، يعيش، ونتيجة التضخم الحالي، دون المستوى الاجتماعي المطلوب»، معتبراً أن في ذلك «تجميد للرواتب وإيجاد شرخ بين الفئات الاجتماعية والحركات النقابية التي تمثلها».
حركة نقابية بديلة؟
ومع رفض كل من «الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان» و«هيئة التنسيق النقابية وروابط الأساتذة والمعلمين» و«مجلس مندوبي الضمان» و«جبهة التحرر العربي» و«الحزب الشيوعي اللبناني» و«لجنة حقوق المرأة» وهيئات مدنية عدة، للتسوية الحكومية التي علق بموجبها الاتحاد العمالي العام إضراب الأمس، حمل حدادة جزءاً من الأزمة للقيادة الحالية للاتحاد العمالي العام، التي رأى أنها «تتماهى بالكامل مع القوى السياسية الطائفية الموجودة وتخدمها بمواقفها وتحركاتها». وبعدما أشار إلى أنها «ليست المرة الأولى التي تسقط فيها هذه القوى في الامتحان»، أكد أنه «يجب أن تكون الأخيرة».
ودعا حدادة «القوى النقابية الأكثر التصاقاً بالهموم الشعبية، ومنها الاتحاد الوطني لنقابات العمال والاتحادات الحليفة معه، وأيضاً هيئة التنسيق النقابية، إلى المزيد من التنسيق، وصياغة خطة سريعة للتحرك وتنفيذ الإضرابات والتظاهرات لكسر قرار الحكومة».
ووصل حدادة في انتقاده لأداء الإتحاد العمالي إلى القول بأنه «يجب أن يدفع باتجاه تشكيل حركة نقابية مستقلة تحمل هموم الناس بديلاً عن القيادة العمالية الحالية التابعة لمنطق المحاصصة الطائفية لمؤسسات الدولة والمجتمع».
وقد وصف الوزير نحّاس أداء «الإتحاد العمالي العام»، بأنه «لم يكن عظيماً»، ليعتبر أن «رفعه سقف المطالبة إلى مليون ومئتين وخمسين ألف ليرة للحد الأدنى للأجور، ومن ثم قبوله بالتسوية التي أعلنت، ضرب مصداقيته بين الناس وترك شعوراً كبيراً بالإحباط بين العمال والموظفين».
أما حمدان فاعتبر أن «ما حصل (أمس)، يؤكد بوضوح المسار المريع الذي انتهت إليه تشكيلاتنا النقابية التي نجحت الطبقة السياسية في تجويفها من الفعالية والكفاحية وسعة التمثيل بخلاف ما كانت عليه أوضاع الحركة النقابية في السبعينيات أي الفترة التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية».
برّو: التسوية أجهضت النقاش!
أسف رئيس «جمعية حماية المستهلك» الدكتور زهير برّو لأن «التسوية» التي أعلنت في مجلس الوزراء «أجهضت النقاش والحوار المعمقين اللذين كانا يحصلان للمرة الأولى في لبنان، ولكن النتيجة لم تأت بالعمق نفسه بل تم اجتزاء النقاش، وحصره بنقطة واحدة هي الزيادة على الأجور، بالشكل الذي انتهت عليه».
ورأى برو أن «الحوار تركّز على ضرورة وضع توجه جديد يعزز التقديمات الإجتماعية المعروفة بالأجر الإجتماعي، إلى جانب زيادة الأجور، وذلك عبر خطة طرحها وزير العمل بتفاصيلها على أساس أن تبدأ بزيادة تصل نسبة مجموعها النهائي إلى ثلاثين في المئة على الحد الأدنى والشطور، والأهم أنها تلحظ الرعاية الصحية الشاملة لكل المواطنين بما تسقطه من عبء أساسي على ميزانية الأسرة والتي تصل إلى نسبة عشرين في المئة، على مستوى الأسر الفقيرة». والأهم من ذلك كله، هو «ما تقدم به الوزير على صعيد فرص العمل الشباب عبر إلغاء الرسوم الضريبية على المؤسسات التي تقدم فرص عمل لهم، وفي المقابل تشديد الشروط بالنسبة للعمالة الأجنبية ما يخفف الهجرة ونتائجها المدمرة على صعيد الأسر والشباب»، بحسب برو.
وأشار برو إلى أن ما جرى «يذكّرنا بالحل الذي وضع حينها للسائقين العموميين على مستوى الحلول المبتورة والسطحية، بدلاً من علاج جدي عبر إيجاد نقل عام مشترك مفقود في لبنان»، ليصف الحلول التي تجترحها حكوماتنا بـ«الحلول الترقيعية التي لا تعالج جذر المشكلة، ما يؤكد عدم وجود أي تمايز بين الحكومة الحالية والحكومات السابقة بالنسبة للملفات المعيشية والاقتصادية».
سعدى علوه
تعليقات: