تطوّع عشرة شبان وشابات من ابناء الحارة لتدريس الطلاب (حسن بحسون)
غلب على «حارة صور» في السنوات الأخيرة صيت الخروج على القانون، وخصوصاً في ظل الفقر الذي يعانيه أبناؤها، وحالات التسرّب المدرسي المتكرّرة. لتغيير هذه الصورة وإعادة «الحارة» إلى أصلها الحضاري والتراثي، أطلقت «حركة أمل» أخيراً مشروعاً تربوياً في «الحارة» يوفر دروس تقوية وأنشطة هادفة للطلاب
«في البدء كانت الحارة». شعار أطلقه أحد الزوّار الأجانب لمعرض افتتح في بيت المملوك قبل أسبوعين، يضم صوراً نادرة لمدينة صور تعود إلى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. الصور التي التقطها من الجو والبحر الباحث أنطوان بوادوبار، تظهر أن مدينة صور كانت حينذاك مجموعة صغيرة من البيوت تجاور ميناء الصيادين الحالي. المعرض ذاته يقع في قلب أحد المباني التراثية (بيت المملوك) التي تظهر في إحدى الصور.
يحاول المستكشف الأجنبي أن يقارب بين الصور والواقع، بالاعتماد على خريطة أثرية، وينطلق في رحلة العودة إلى التاريخ الذي يسكن بين جنبات الحارة. لا يفلح بسهولة في العثور على الملامح التي تتحدث عنها الأبحاث عن صور القديمة. فارق كبير بين الصور التاريخية، والواقع اليوم، حيث التلوّث البصري هو السيد هنا: فوضى بشرية وعمرانية وشبكات كابلات وأشرطة تحجب السماء وخانات تراثية تحولت إلى مكبات نفايات.
هكذا يخلص السائح ومرافقه اللبناني إلى أن السكان الجدد للحارة لا يحافظون على نحو كاف على إرث أجدادهم الثقافي والحضاري. ظواهر ربطاها بما يحكى عن المكان وبعض سكانه، وبالوضع الذي آل إليه وبات يظهره كأنه حزام عشوائي خارج عن القانون والنظام. يهبّ أحد شبان الحارة رافضاً التهمة، داعياً إياهما إلى الاطلاع على تاريخها والشخصيات التي ترعرعت فيها من أطباء ومثقفين وضباط وسياسيين، وصولاً إلى المشروع التربوي الذي انطلق قبل أسبوع، هادفاً إلى تحسين المستوى التعليمي، ومواجهاً ظاهرة التسرّب المدرسي من جهة، وصيت «البلطجة» الذي شوّه سمعتها في السنوات الأخيرة من جهة ثانية. فقد أطلقت شعبة «حركة أمل» في صور ـــــ لجنة الحارة بالتنسيق مع بلدية صور، مشروعاً تعليمياً تربوياً يستهدف الطلاب من أبناء الحارة المسجّلين في المرحلة الابتدائية، يهدف الى مساعدتهم مدرسياً عبر توفير دروس تقوية مجانية. المشروع المألوف في الكثير من البلدات والجمعيات، يكتسب أهمية خاصة في حارة صور بالذات. ذلك أنه، إلى الحي المكتظ بالفقراء والكادحين، تتوجه أصابع الاتهام عند كل حادث أو إشكال يقع في المدينة. كأن أبناءه وأعمال البلطجة، قد أصبحوا وجهين لعملة واحدة. وهي الحارة التي تتصدر الأخبار الأمنية بين الحين والآخر، بسبب عمليات المداهمة التي ينفذّها الجيش والقوى الأمنية بحثاً عن أحد أبنائها. وبناءً عليه، أصبحت الحارة تخرّج مطلوبين بعدما خرّجت اللبنة الأساسية لمثقفي المدينة.
وعن ظروف إطلاق المشروع، يوضح منسّقه رجا الشعار أن «المستوى المعيشي المعدم والمتوسط لذوي الطلاب أثّر في المستوى التعليمي، وأدى الى ازدياد ظاهرة التسرّب المدرسي، إذ إن معظم العائلات لديها ثلاثة أولاد في المدرسة على الأقل. وبما أن العدد الأكبر من أربابها يعملون أجراء يوميين، فإن الكثيرين منهم لا يستطيعون تحمّل تكاليف دراستهم بين أقساط ونقل ومصروف يومي ودروس خصوصية. من هنا، يضطر هؤلاء إلى تسريب الولدين الأكبر سناً من المدرسة لكي يساعداهم على زيادة المدخول». في المحصلة، أدى تدني المستوى التعليمي إلى ظواهر اجتماعية أخرى من البطالة، إلى انحراف بعض الشبان وتبنّيهم سلوكيات غير منضبطة بسبب قضائهم وقتاً طويلاً في الشارع من دون مراقبة أو متابعة من الأهل. هذه الظروف التي خلقها الفقر والجهل، تراكمت عاماً بعد عام، لتصنع سمعة سيئة للحارة. من هنا، تنادت اللجنة إلى وضع خطة مواجهة لتلك الظواهر مجتمعة، فوجدت أن ما يمكنها فعله: مساعدة الطلاب مدرسياً في دروسهم يومياً ومجاناً عبر طاقم من الأساتذة. هؤلاء لن يوفروا على الأهل تكلفة الدروس الخصوصية فقط، بل إنهم يوفرون أيضاً برنامجاً ترفيهياً وإرشادياً وتربوياً شاملاً لأولادهم. ويشير المسؤول التربوي في اللجنة إسماعيل السمرا إلى أن عشرة شبان وشابات من أبناء الحارة الجامعيين والأساتذة تطوعوا لتدريس الطلاب مختلف المواد الدراسية، ولمساعدتهم على تذليل العوائق التي تواجههم من صعوبات تعليمية أو مشاكل اجتماعية بالتنسيق مع إدارة مدارسهم.
وقد انطلقت الصفوف في بيت المملوك بـ50 طالباً، ويتوقع المنظمون أن يتضاعف العدد تدريجياً مع استقطاب عدد أكبر من الطلاب، لكن كيف يمكن جذب المتسرّبين أو تعزيز انتماء الطلاب إلى المدرسة وثنيهم عن التسرب لاحقاً؟ يقول السمرا إن فريق المشروع استقطب «رأس الشلة» الذي يؤثر في أترابه في السلوكيات غير المنضبطة، ما أدى الى انفراطها وغيرة أعضائها بعضهم من البعض الآخر، ودفعهم إلى الالتحاق بالصفوف. وما يحفّزهم على الانضمام إليها سلسلة الأنشطة الترفيهية التي خصّصها المشروع للطلاب الذين يحققون تفوقاً في الدراسة، بدءاً من الرحلات والألعاب وصفوف الكاراتيه. في هذا الإطار، يذكر السمرا أن هناك فتياناً وفتيات متسرّبين مدرسياً رغبوا في التسجّل في صفوف التقوية، والعودة إلى المدرسة إذا سمحت ظروف ذويهم المادية بذلك. المشروع يستعين بخبرة إيلينا بحر، الاختصاصية في تربية الطفولة المبكرة. ابنة الحارة تجاهد لأن تغيّر قليلاً في اهتمامات وهوايات طلابها الجدد من تكسير اللمبات في شبكة الإنارة العامة واختراع الإشكالات، إلى الرسم والمطالعة والرياضة.
المكتبة العامة
يلتحق العدد الأكبر من أبناء الحارة بالمدارس الرسمية أو إحدى المدارس شبه المجانية بسبب عدم قدرتهم على تحمل نفقات التعليم الخاص، علماً بأن تلك المدارس تقع خارج نطاق الحارة، بل تبعد عنها نسبياً. إلا أن «الكنز» المعرفي المجاني الرئيسي المتوافر في صور، أي المكتبة العامة او مركز المطالعة والتنشيط الثقافي التابع لوزارة الثقافة، يقع في حضن الحارة نفسها، لكن القليل من أبنائها يرتمون في هذا الحضن في أوقات فراغهم. على الرغم من أن المكتبة توفر نظام استعارة الكتب، والعديد من أنشطة الحكواتي والمسرح والحاسوب والإنترنت والألعاب على مدار السنة. من هنا، وضع القيمون على مشروع التعليمي، نصب أعينهم تقوية الانتماء إلى المكتبة بعد المدرسة.
تعليقات: