المدينة الجنوبية المنسيّة في غياهب قوانين الانتخابات مذ وُجدت

ليس غريباً في المجتمعات وجود خلاف واختلاف وتباين وتضاد وتقابل في الآراء والأفكار والإيديولوجيات وأيضًا في المبادئ والأساليب والأهداف، ولكل فردٍ في المجتمع الحق في التعبير بالوسائل الشرعية المتاحة عن كل ما تقدّم، والسعي إلى تحقيقها وتعميمها.

لكن ذلك لا يجوز حتماً إلا بما سمحت به شرائع الإنسانية التي باتت المجتمعات البشرية أبعد ما تكون عنها اليوم، بفعل ما تشهده الغالبية العظمى في هذه المجتمعات من انتهاكات وتعدّيات وتجاوزات لم يعد جائزاً أبداً السكوت عنها، فالصمت في هذه الحال أكبر من الجريمة ذاتها.

مدينة منسيّة

مناسبة الحديث، زمن الربيع العربي المتنقّل من قُطرٍ عربي إلى آخر، حيث يتجلّى ثورةً هنا وانتفاضة هناك، فيما لا تزال مجتمعات وطنية ومحلية عربية أخرى ترزح تحت وطأة القهر والاستبداد المتلوّن ألواناً وأشكالاً تتنوع وتتعدّد بين مكان وآخر.

وإذ لا ينكر أحدٌ أن الفارق طبعاً كبيرٌ وشاسع بين شكل وآخر من القهر والتشبيح، إلا أن لكلّ منها في الظروف القائمة سيّئاته التي لا تطاق، وهنا يأتي الحديث عن حاصبيا. ولّلذين لا يعرفون، فحاصبيا هي المدينة الجنوبية المنسيّة في غياهب قوانين الانتخابات مذ وُجدت، والمطوية في أدراج التاريخ مذّ قرر الشهابيون نقل عاصمة إمارتهم منها إلى بيت الدين، وهي اليوم لا تزال على ذلك النسق الرتيب من الحياة المعطّلة على الطريق بين الريف والمدينة، والمشلوحة في آخر صفحات الاتفاقات والتي كان آخرها اتفاق الدوحة.

وفي كل ذلك، ترزح حاصبيا ومنطقتها تحت أحمال كثيرة، حتى قيل عنها في يوم من الأيام إنها "بلاد ما بين القهرين: قهر الاحتلال، وقهر الإهمال". لكنّ ومنذ أن ذهب قهر الاحتلال في عام التحرير، حلّ في لائحة قاهري حاصبيا اسمٌ جديد هو "الشبّيحة". و"شبّيحة" حاصبيا ليسوا بالضرورة من أبنائها، وإن كان منهم من هو كذلك، وهم في الحالين يمارسون ما شاؤوا ويشاؤون من هواياتهم في الهيمنة والتسلّط، ويُشبعون رغباتهم الدفينة الكامنة في الحقد والبغضاء، ويلبّون حتماً طلبات أسيادهم من أرباب "التشبيح".

في حاصبيا أقفل "الشبّيحة" مستشفاها تسعة أشهر، وكلَّت مساعي أبنائها لإعادة فتحه، فلم يتمكّنوا إلا بعد أن أخذ "الشبّيحة" مال الناس ومال "قيصر".

في حاصبيا قسَّم "الشبّيحة" قضاءها إلى قسمين: حاصبيا والعرقوب، وباتوا يزرعون البيان تلو الآخر ليفرّقوا أبناء بيتٍ واحد لم يعرفوا الفرقة يوماً إلا في عصر "التشبيح".

في حاصبيا هيمن "الشبّيحة" على بعض "ضعفاء النفوس" من رجال الدين، فبات رجال الدين هؤلاء ينفثون عن شبّيحتهم كلام التفرقة بدل أن ينشروا تعاليم أديانهم السمحاء.

المحادل الانتخابية

في حاصبيا، ينشر "الشبّيحة" مُخبريهم في كل حيٍّ وزاروبٍ ومجلس، فيكتبون التقارير ويرسلون التعليمات ويدسّون الدسائس، ويزرعون الخلافات.

في حاصبيا، نوابٌ (فلنقُلْ بعضُهم توخّياً للموضوعية) "شبّيحةٌ" ركّبتهم لوائح المحادل الانتخابية، فعاثوا في نيابتهم إهمالاً للناس وجاؤوا بالنوائب من كل حدبٍ وصوب.

في حاصبيا "شبّيحةٌ" ينتقلون من حزبٍ سياسي إلى آخر يبحثون عن مصالح أضيق من الشخصية، ويتكلمون ليل نهار ويتشدّقون باسم "حاصبيا وقرارها الحر".

في حاصبيا "شبّيحة" ضربوا سمعة محاصيلها الزراعية عبر الغشّ الذي مارسوه وما زالوا في تلك المنتوجات، فأهلكوا مواسم الآخرين.

في حاصبيا "شبّيحة" يتنطّحون في كل مناسبة لتراهم كاميرات التلفزة يستقبلون سفيراً هنا ويصافحون مسؤولاً هناك، ويخطبون ويخاطبون باسم الناس الذين لا يعرفونهم على الإطلاق.

في حاصبيا "شبّيحة" امتهنوا العمالة لإسرائيل، وعندما ضربهم صقيع التحرير في أيار العام 2000 التحفوا عباءة "المقاومة"odhl ],j ;,l.

في حاصبيا "شبّيحة" أمنيون يحشرون أنوفهم وأصابعهم بين البصلة وقشرتها، ويقررون ويفرضون ويمنعون ويسمحون ويحلِّلون ويحرّمون، باسم القانون.

في حاصبيا "شبّيحة" بعضهم للأسف يطلقون على أنفسهم اسم إعلاميين أو صحافيين، وهم ليسوا إلا مخبرين لدى هذا الجهاز أو ذاك المسؤول الأمني، وبأمره يأتمرون.

في حاصبيا "شبّيحة" إقطاعيون، قدامى وجدد، باسم البيوتات تارة، وباسم المال طوراً، وهم بوجهيهم القديم والجديد في علم الناس وحاجاتهم ومتطلباتهم لا يفقهون.

في حاصبيا أصناف وأصناف من "الشبّيحة" أينعت رؤوسهم، وقد حان لما تبقّى من القانون والدولة ومؤسساتها، أن تقطفهم. لعلّ الربيع العربي يلفح برياح تغييره وجه حاصبيا فيمسح عنه غبار "الشبيحة" بكل ألوانهم قبل فوات الأوان.

* صالح حديفة، الجمعة 7 تشرين الأول 2011

-------------------------

...

..

.

...وفي حاصبيا من يُواجِه

وبعد أن أدّى المقال المعنوَن "حاصبيا تحت وطأة الشبّيحة" دوره ورسالته في إلقاء الضوء على قلّة قليلة لا تعمل للمصلحة العامة بأي وجهٍ، وتسعى إلى ما تسعى إليه من أمور غرضيّة أوردها المقال المذكور ولا داعي لتكرارها اليوم، فان الواجب يقتضي اكمال المهمة واظهار الوجه الاخر لحاصبيا حرصاً على جهود حريصين كُثر يواجهون كل يوم كل مصادر "التشبيح" في حاصبيا وخارجها، وهؤلاء الحريصون الكُثر هم على تضاد دائم مع كل "الشبّيحة" إلى أي جهةٍ انتموا، بُغية تصويب الأمور وإعطاء حاصبيا ما تستحق.

الحريصون في حاصبيا الذين يعملون بكدٍّ وجهد للخروج من واقعٍ عانت منه المنطقة بشكل مزمن بفعل الاحتلال والحرمان والتسويات السياسية المُجحفة، يكدحون ليل نهار لرفع الغبن عن حاصبيا وقراها بتوجيهات حثيثة من زعماء كبار رفعوا شعار وحدة المجتمع وخلاصه وتكافل بنيه، كوليد جنبلاط الذي أوكل لنفسه ولمعاونيه مهمّة البقاء على تماس دائم مع هموم الناس ولتثبيتهم في الأرض. الحريصون هم اليوم وفي كل يوم مستعدون للتضحية والبذل والعطاء لكي تكتسي حاصبيا حلّة الإنماء المتوازن ولكي تنعم بحياة اجتماعية واقتصادية وسياسية أمنية هانئة ومستقرة دائمة.

والحريصون هؤلاء على حاصبيا وفيها، من ساسةٍ وحزبيين ومن رجال دين ورجال أمنٍ وإعلام ومزارعين وعمّال ومعلّمين، إنّما في ذلك ينطلقون من إيمانٍ عميق بقدسيّة عملهم، ويواكبون مساراً أطلقه كبارٌ في لبنان لطالما قدّموا في سبيل السلم الأهلي والعيش الواحد والمصالحات الوطنية والإنماء المتوازن كل التضحيات وكل الجهود، وتاريخ لبنان يشهد لهم في كل محطة، منذ 1 أيار 1949 وقبله وحتى اليوم.

الحريصون في حاصبيا، وقفوا ويقفون بوجه كل ما من شأنه تعطيل الحياة العامة. الحريصون في حاصبيا رفضوا ويرفضون التصريحات الناطقة بالبغض، ويُجلِّون الوحدة الوطنية التي جسّدت أوُجّها مصالحة الجبل التاريخية وما سبقها وتلاها من وقفات تاريخية في مسيرة التلاقي الداخلي، وهم يرفعون خيار المقاومة بأوجُهها المتعددة نمطاً يومياً ضد إسرائيل، ويقدّرون حتماً من وقف معهم في اللحظات الصعبة ولا يزال.

فالتحية لهؤلاء الحريصين، والثقة كبيرة بأن هناك في حاصبيا وفي لبنان ... مَن يُواجِه.

* صالح حديفة، السبت 8 تشرين الأول 2011

مستعدون للتضحية لكي تكتسي حاصبيا حلّة الإنماء المتوازن