قضية برج حمود- الأكراد: قرار عنصري ومسيّس مفتوح على ألف احتمال
يمكن لمن يراقب تداعيات قضية برج حمود، وما رافقها من بيانات متعددة ومتضاربة، أن يضيفها إلى سلسلة القضايا التي تنبت بين الحين والآخر فوق هضاب لبنان وبين وديانه. ربما تشبه القضية في صيغتها وتداعياتها قضية لاسا، أو غيرها من القضايا، التي تتخذ منها جهات سياسية مختلفة مناسبة لتأجيج النار الطائفية، ولتسجيل "أهداف" في مرمى "الخصم". وفي كل مرة، تخاطر تلك الجهات في أخذ البلد إلى صراع داخلي جديد، يمكن أن يصل إلى حدّ الحرب الأهلية إن تهيأت ظروفها، ويكون الأمل الوحيد هو أن تنتهي "القصة"، كما بدأت، غير مفهومة، أو حتى أن تقفل من دون إيجاد حلول لها، وهو أفضل من تفاقمها.
في هذا السياق تندرج قضية برج حمود، وللرواية صياغتان. تقول الأولى:
يحاول "حزب الطاشناق" (وهو محسوب على قوى 8 آذار)، بالتنسيق مع بلدية برج حمّود، إعادة تنظيم المنطقة نظراً لكثرة أعداد العمال الأجانب، الذين يقطنون منازل من غرفة واحدة أو غرفتين، ويتشاركها أكثر من عشرة أو خمسة عشر عاملا، "ما يسبب إزعاجاً كبيراً في الأبنية التي يسكنونها، فضلاً عن كون إيجاراتهم غير قانونية وغير مسجلة في البلدية ولا تحترم أصول وقواعد عقود الإيجارات، وليس معهم أوراق ثبوتية" كما جاء في بيان مكتب الحزب الإعلامي.
وقد أضاف إلى إعادة التنظيم الشكلي والقانوني للمنطقة، محاولته وضع حدّ لـ"تضاعف عمليات الإخلال بالأمن والتعرّض للسكان وتحوير وجه المنطقة من سكنية، تجارية، صناعية إلى منطقة تعجّ بالأجانب إقامتهم في لبنان غير قانونية وهم من جنسيات مختلفة مثل السريلانكيين، والفيليبينيين، والأثيوبيين، والمصريين، والسوريين، والهنود والتركمان".
هكذا، بادر الحزب إلى الطلب من البلدية إزالة الأوضاع الشاذة "من دون أن يكون لعملها أو مبادرتها أي خلفيات سياسية أو إثنية أو مذهبية أو طائفية أو غيرها".
أما الرواية الثانية، التي يتبناها الأكراد القاطنون في برج حمود، مدعومين من قوى الرابع عشر من آذار، فتقول إن قرار الحزب والبلدية "لا يهدف الاّ النيل من الأكراد، لا سيما بعد تظاهرهم أمام مبنى السفارة السورية ضدّ نظام الرئيس السوري بشّار الأسد. وقد اتخذ الحزب هذا القرار مدفوعاً من حلفائه كما من جهات سياسية خارجية".
الصورة في برج حمّود
بين البيان الصادر عن الحزب، والتعليقات السياسية والتحليلات الإعلامية، تعيش برج حمود صباحها على إيقاع هادئ، وعلى إيقاع التحضيرات لموسم أعياد واعد، بعيداً عن السجال الذي يدور حولها.
وعلى إيقاعها، يعيش يامن، الكردي المجنّس، صاحب متجر صغير للخضار والفاكهة.
مع أفول هذا العام، يكون يامن قد أمضى ثلاثين عاماً في برج حمود التي أتاها شاباً. وتزوج وأنشأ عائلة فيها. هو لم يستلم أي إنذار لا من بلدية ولا من حزب كي يترك المنطقة كما يقول، "وما من كردي تسلّم إنذارا خطيا بالموضوع، لكني سمعت من بعضهم أنهم تلقوا تهديدات بالطرد من المنطقة".
لا يعرف يامن بماذا يجيب لدى سؤاله إذا كان الأكراد قد تلقوا تهديداً بالطرد فعلاُ أم لا؟ "أنا ما حدا إجا صوبي" يؤكد رافضاً التعليق على ما نقله إليه بعض معارفه.
باستثناء الإنذارات التي زرعتها بلدية برج حمود بين الأبنية طالبة من المالكين تسجيل عقود الإيجارات وفقاً للقانون، ما من أجنبي في المنطقة يملك ورقة إنذار. ولعلّ سؤلاً صغيراً عن علم أحد العمال الهنود عن طلب البلدية تسوية أوضاع المستأجرين، يكفي لإحداث بلبلة وتجمهر عدد من الأجانب سائلين إذا كان الأمر يتعلّق بقرارات جديدة للأمن العام أو بمتوجبات مالية إضافية على اقاماتهم.
لكن تلك ليست حال فراس، الشاب الكردي الذي هجر الغرفة التي كان يقطنها وشابين آخرين للسكن عند صديق "خوفاً من قرار الطرد" الذي أنبأه به صديق. هو يعمل في مصنع صغير للأحذية منذ خمس سنوات، ويسكن برج حمود منذ أكثر من سبع سنين.
يعتبر فراس أن هناك خطة لطرد الأكراد من برج حمود "لأنهم تظاهروا ضد النظام السوري، وهي مسألة لا شك فيها ولو لم نتلق إنذاراً مباشراً فتلك القرارات لا تبلغ شخصياً بل جماعياً عبر القيادات".
هو على عكس محمود لم يشأ أن يمكث في المنطقة تلافياً للمشاكل. لكن محمود يعلن نفسه جاهزاً لها "لا سيما انه قرار جائر وعنصري".
يرفض الكثير من أصحاب المتاجر من الأرمن التعليق على قرار البلدية، ويكتفي أحدهم بالقول إنهم يتابعون ما يدور في برج حمود عبر الإعلام "لكننا لا نعيشه. ولم نكن نلتمسه لولا الإنذارات الملصقة على الأبنية".
لكن جو، وهو صاحب متجر للمجوهرات، يعتبر أن المنطقة تحولت إلى منطقة للعمال الأجانب، وأنهم باتوا يشكلون خطراً و"الدليل طعن شاب أخيراً واغتصاب فتاة، ونحن نتكلم عن كل الأجانب وليس عن جنسية معينة منهم".
قد تعزز صيغة الخوف التي يتحدث بها جو دوريات قوى الأمن الداخلي والجيش اللبناني في المنطقة ليلاً، وهو يرى فيها حلاً مؤقتاً وليس جذرياً.
الرأي و.. الرأي الآخر
يشير نائب رئيس "الجمعية الخيرية الكردية" محمود سيالا إلى أن قرار إخلاء المساكن اتخذ منذ الاثنين الماضي، ولولا تدخلات بعض السياسيين لكان طبّق في محاولة لتطهير المنطقة من الأكراد. وأوضح أنه "لا يجوز إنسانياً تشريد ما يناهز سبعة آلاف كردي ممن يعيشون في برج حمود". وسأل عن الإطار القانوني الذي يجيز لحزب الطاشناق اتخاذ مثل تلك القرارات وتنفيذها "وكأنهم بذلك يتخطون الحكومة والدولة".
وأوضح أن هناك عدداً قليلاً من الأكراد الذين فضلوا ترك المنطقة لا سيما بعد إطلاق النار على متاجر تعود إليهم، "فيما يصرّ البعض الآخر على البقاء فيها حتى ولو قرر الحزب تنفيذ قراره".
وبالحديث عن الممارسات اللاأخلاقية التي أشار إليها بيان الحزب، طالب سيالا بتسليم مرتكبيها إلى القوى الأمنية، "كما يجب أن يصار مع كل مخالف للقانون مهما كانت جنسيته"، معلناً أن الأكراد "ناطرين التحدي" ومذكراً بأن الأرمن لم ينالوا الجنسية قبلهم.
في المقابل، يوضح النائب عن "حزب الطاشناق" آغوب بقرادونيان أن "الموضوع لا يتعدى تنظيم أمور الأجانب في المنطقة"، وأن البلدية لم تتوجه إليهم بالإنذارات بل إلى أصحاب الملك الذين قاموا بتأجيرهم، على أن تطبق القانون في حال تخلفوا عن تسوية الأوضاع. واستنكر تسييس الموضوع "من قبل جهات مستفيدة"، مطالباً "من يحرص على الأكراد بأن يعيطهم حقوقهم" ومذكراً بأن "الشعبين الأرمني والكردي عانيا من الجلاد نفسه، ولهما تاريخ مشترك".
وأكد أنه تم تأسيس مقاه في المدة الأخيرة تعمل في غير الوجهة المخصصة لها، "تماماً كما أنشئت للغرض نفسه متاجر في الدورة، يملك بعضها مواطنون من الأرمن سيصار إلى إقفالها بعد طلب رئيس بلدية الدورة بموافقة محافظ جبل لبنان على ذلك".
بين هذا الرأي وذاك، يلفت مصدر حقوقي إلى أن أي مقاربة تمييزية لأي مسألة هي مرفوضة من الأساس، معتبراً قرار بلدية برج حمود تسوية إيجارات الأجانب بالقرار التمييزي العنصري.
وإذ أكد صوابية القرار البلدي من الناحية القانونية، على اعتبار أنه من صلاحياتها بموجب المرسوم الاشتراعي الرقم 77/118، الا أنه تساءل عن التوقيت مشيراً إلى أن "الممارسات غير الأخلاقية لا تستدعي قراراً عنصرياً بل استدعاء القوى الأمنية المختصة".
وانتهز المصدر المناسبة للتذكير بأهمية إنشاء مجلس أعلى لحقوق الإنسان والبت بمسألة وسيط الجمهورية، وهي جهات من شأنها أن تحلّ مثل تلك النزاعات.
إلى ذلك الحين، يبدو أن قضية برج حمود لن تقفل الا كما فتحت: بقرار سياسي.
مادونا سمعان
تعليقات: