ابو حبيب في حانويه خلال الحرب يخبر عن استشهاد ولده،
أما هو فقد توفي قبل أشهر (أرشيف ــ وائل اللادقي)
كان لمجزرة قانا وقع مدوٍّ تجاوز ردود الفعل اليومية على ما سبقها من مجازر ارتكبت منذ بداية الحرب. وكما غيّرت هذه المجزرة في المواقف السياسية على أكثر من مستوى، كان لها وقعها على العاملين في المنظمات الإنسانية. الزميل عمر نشابة تلقى اتصالاً من مسؤولة في إحدى منظمات حقوق الإنسان الدولية تطلب المساعدة وتسأل عن وسيلة نقل توصلها إلى الجنوب مع فريق من الخبراء لإعداد تقرير عن الذي حصل، فكان أن ترافقوا إلى الجنوب المحاصر وعاد نشابة بأخبار الصامدين فيه
الأحد 30 تموز 2006: وصلنا إلى صور عند الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر. الطريق كانت شبه فارغة، لكنها طويلة ومتعبة. خنادق كثيرة كانت حفرتها القذائف على طول الطريق سقط فيها العديد من السيارات، فيما اصطدمت سيارات وشاحنات أخرى بأعمدة الكهرباء أو انقلبت من جرّاء الضغط الذي أحدثه القصف.
لم نتوقف في صور، بل أكملنا سيرنا باتجاه قانا. الطرقات فارغة، لا شيء يدلّ على معالم حياة في ظلّ القذائف والدخان المتصاعد من كلّ شيء تقريباً. نصل إلى قرية حناويه، فنرى رجلاً عجوزاً جالساً عند مدخل بيته، هو أبو حبيب الذي أخبرنا أن الطائرات اصطادت ابنه كالعصفور بينما كان على دراجته النارية، لكن «لن أترك بيتي، فليدمّروه على رأسي». (سألنا عن أبو حبيب قبل أسبوع، فعلمنا أنه توفي منذ أشهر).
من حناويه أكملنا باتجاه قانا حيث تلفّ رائحة الموت البلدة. كان الجوّ مخيفاً وكنّا وحدنا في قانا والشمس في طريقها إلى المغيب. هنا قتل الطيران عشرات الناس وهم مختبئون في الملاجئ. عندما اقتربنا من مكان المجزرة في قانا، أعربت المسؤولة عن منظمات دولية لحقوق الإنسان عن خوفها من البقاء فقرّرنا العودة إلى صور، إلى مستشفاها الحكومي تحديداً، حيث تعرّفنا إلى الدكتور مصطفى جرادي الذي أخبرنا عن القصف والضحايا، لافتاً إلى أن «بعض رؤوس الجثث صغر حجمها كثيراً وهذا غير طبيعي»، مرجحاً أن تكون إسرائيل قد استخدمت أسلحة محرّمة دولياً.
في المستشفى التقيت أبو إبراهيم من قانا. فقد ابنته وبيته وكلّ ما يملكه. طلب مني أن أذهب إلى قانا وأفكّ الأبقار لتسرح في الطبيعة وأن أذبح واحدة منها وأوزّع اللحم على الناس عن روح ابنته. كما طلب أن آتيه بصورة لابنته لينا «من الكومودينا قرب السرير»، ثم عاد واستدرك: «البيت هُدّم، وعليك أن تبحث في الركام»...
فاطمة أيضاً كانت هي وشقيقها محمد هناك... عمرها عشر سنوات، من بلدة عيترون التي شهدت ثلاث مجازر. كانت تجلس مكتوفة اليدين تستمع بصمت إلى ما يقوله الكبار في غرفة الانتظار بين غرف الجرحى... سألتها رأيها فقالت: «أنا بسّ بدّي توقف الحرب»، «لماذا؟»، «لأن الحرب عم تقتل الأطفال».
عند الساعة التاسعة ليلاً، قرّرنا الذهاب إلى منزل عمّ زميلنا ماهر (أبو عادل) بالقرب من مخيم البصّ للاجئين الفلسطينيين. الأخير كان قد غادر البيت مع عائلته قبل أيام، وتركوا كلّ شيء في مكانه، كأنهم سيعودون إليه بعد قليل. قال لي ماهر: «ألا يذكّرك هذا بما حصل للفلسطينيين عام 48؟»، فصرخت به أن يسكت.
«غروزني» اللبنانية
الاثنين 31 تموز 2006: مع طلوع الفجر توجهنا إلى بنت جبيل التي لم يكن قد دخلها أي صحافي بعد. هنا دارت معارك ضارية بين المقاومة والإسرائيليين.
رأينا عشرات الأطفال والنساء محشورين في شاحنات نقل وهم يرحلون عن المدينة رافعين المناديل البيضاء كي لا تقصفهم الطائرات. لوّح الأولاد لنا من خلف حديد الشاحنة رافعين شارات النصر، وعلمنا أنهم ذاهبون إلى تبنين.
عند مدخل بنت جبيل تقع مستشفى الشهيد صلاح غندور حيث التقينا الدكتور فؤاد طه ومساعده جلال العلي. استُهدفت المستشفى استهدافاً مباشراً وسقطت قذيفة في غرفة الطبيب. يبدو أن الجيش الإسرائيلي كان يهدف إلى اغتيال طه لشلّ المستشفى كلّياً، فهو الوحيد الذي بقي يعمل. قال لنا: «أنا باقٍ ولن يستطيعوا كسر عزيمتنا»، وشكا نقصاً في مياه الشفة والمازوت. وخلال جولة تفقدية لاحظنا أن المستشفى غير مؤهل لاستقبال الجرحى، فغرفة الطوارئ تنقصها المعدّات ولوازم النظافة والكهرباء، بينما لم تسلم أي غرفة فيها من الدمار: الأبواب مخلّعة والزجاج مبعثر في كلّ مكان والأسرّة محطمة.
من المستشفى اتجهنا إلى ساحة بنت جبيل بصعوبة، لأن الطريق كانت محفَّرة من جرّاء القصف، وكان ركام البيوت متناثراً في كلّ مكان. في الساحة امرأة تمشي بسرعة وتوتّر، وملامح الذعر بادية على وجهها. قالت لي: «ساعدني! أريد أن أنتشل زوجي وأخته من تحت ركام منزلنا...». مشينا في المدينة المدمّرة باتجاه الثانوية الكائنة في أعلى البلدة. كانت الطائرات تحوم فوقنا، وحذّرنا عدد من الصحافيين من الذهاب إلى أعلى البلدة لأن الطائرات تستهدف كلّ ما يتحرّك. لكنّ الحاجّة أصرت على الاستمرار في المشي نحو بيتها المدمّر. التفتَت نحوي فقلت لها قبل أن تسأل إنني معها، وأكملنا السير. 100 متر، 200 متر، 300 متر بين الدمار. بدا لي أن بنت جبيل هي مدينة «غروزني» الشيشانية في لبنان، إذ لم يسلم بيت في الساحة من التخريب الإسرائيلي. إسرائيل دمّرت كلّ شيء. مشينا ومشينا، وإذا بالمرأة تصرخ فجأة، تجلس أرضاً وتروح تحفر الأرض بأظفارها... التفتت إليّ وقالت: «ساعدني، ساعدني. هم تحت الركام ساعدني!» لم أتحرّك. لم أستطع أن أتحرّك. زاد هدير الطائرات وشعرت بأن القنابل ستسقط علينا. رحت أركض حول ركام المنزل حتى وصلت إلى الجهة الخلفية، وهناك وجدت مدخلاً خلفياً صغيراً وبوابة محطّمة ودرجاً. نزلت، فإذا رجل عجوز يخرج من الظلام. قلت له: «هيا! أنا هنا لآخذكم إلى الأمان! هيا! بسرعة قبل أن تقصفنا الطائرات!». لكن الرجل العجوز لم يردّ وباشر في البحث عن أغراضه وقال: «أين الشنطة؟». ثمّ رأيت امرأة على السرير، كان جسمها متيبساً وكانت تمصّ زرّاً من أزرار قميصها من شدة العطش ويداها مربوطتان فالتفتّ نحو الرجل وسألته عن سبب ربط يديها فقال: «حتى لا تأكل أصابعها من الجوع». فككت يديها وحملتها على كتفيّ وخرجنا جميعاً. عندما وصلت إلى الشارع انتابني تعب شديد، ففقدت توازني وسقطت إلى الخلف فسقطت عليّ. لم أتأذّ لأنني كنت أرتدي سترة واقية، ولم تتأذّ المرأة العجوز، بل نظرت إليّ وابتسمت عندما قلت لها: «أنا منّي غرندايزر بسّ بدّي شيلك من هون»، لكنني لم أستطع حملها بين الركام لمسافة طويلة. سقطتُ مرة أخرى، لكنها هذه المرّة لم تبتسم، بل صرخت صوتاً ينمّ عن الألم. الرجل العجوز سقط أيضاً وراح يصرخ: «الديسك... تحرّك الديسك معي...».
نظرت إلى السماء، فرأيتُ طائرات حربية تحلّق مهدّدة بالقصف. «يا سلام! امرأة مشلولة ستموت من الجوع، ورجل عجوز لا يقوى على الوقوف، وطائرات مرعبة في السماء... ماذا أفعل؟؟». اقتربت من الرجل ورحت أدلّك عموده الفقري حتى استطاع أخيراً أن يقف بصعوبة. طلبت منه أن يبقى مع أخته حتى أعود مع زميلي وائل ونحضر معنا حمّالة. نزلت الشارع باتجاه ساحة المدينة المدمّرة. لم أجد زميلي وائل اللادقي، ولم يعطني عناصر الصليب الأحمر حمّالة، كما رفضوا مساعدتنا لأنهم كما قالوا «لم يحصلوا على الضوء الأخضر من قيادتهم، لأن القصف ما زال محتمَلاً». طلبت من أحد الصحافيين الألمان المساعدة، فمشى معي باتجاه أعلى المدينة وساعدني على إنزال العجوزين إلى الإسعاف.
وفي الطريق نحو ما بقي من الجهة الشمالية من بنت جبيل التقيت أبو أحمد. أعتقد أنه من المجاهدين الأبطال الذين دافعوا عن المدينة بشراسة وبسالة حتى لا تسقط بيد الإسرائيليين. كان يجلس على الدرج بين البيوت المدمّرة، وقال لي إنه يعيش هنا مع أمّه. سألته إن كان يحتاج إلى أي شيء، فردّ: «وأنت هل تحتاج إلى شيء؟».
من بنت جبيل توجهنا إلى تبنين حيث يتجمّع النازحون. كان هناك صفّ طويل من سيارات الإسعاف المكسورة الزجاج بفعل القصف، وفيها عشرات النساء والعجّز الذين يحملون أكياس نايلون تحتوي على البعض القليل من أغراضهم الشخصية. «إلى أين؟»، «إلى صيدا أو بيروت» أجاب أحد سائقي السيارة بصوت عال.
من تبنين إلى خربة سلم فقلاويه وصولاً إلى صريفا. هناك الرائحة قوية... إنها رائحة الموت تفوح من بين الركام... هنا قتلت إسرائيل العشرات في منازلهم... ألعاب الأطفال والملابس وأدوات المطبخ وقطع من القماش، يبدو أنها من بقايا الأثاث، وإبريق شاي مهشم تختلط جميعاً بالأحجار والردم... وأجساد أصحابها.
«اكتب شي حلو عن هالبلد»
الثلاثاء 1 آب 2006: عدنا إلى بيت أبو حبيب في حناويه. قال لنا إن صاروخاً إسرائيلياً سقط في بيت في ساحة البلدة من دون أن ينفجر. دخلنا المنزل من الحفرة التي أحدثها الصاروخ، ورأينا ذلك الجسم الحديدي الضخم في الدار بين الأثاث المبعثر في كلّ مكان. صاروخ يتجاوز طوله أربعة أمتار وقطره حوالى متر وعليه كتابات بالإنكليزية تختلف عن الكتابات العبرية على القذائف التي عاينّاها في بنت جبيل. لو انفجر هذا الصاروخ لأحدث دماراً هائلاً... هل كان الصاروخ الذي طال أطفال قانا من العيار نفسه؟
أردنا التزوّد بالوقود، لكن كلّ المحطّات كانت مقفلة، ذهبنا إلى ميناء الصيادين والتقينا صياداً اسمه أبو أندريه قال إنه يؤمن لنا الوقود بـ50 دولاراً. نقدناه المبلغ وانتظرنا عودته في الميناء بين الصيادين السكارى الذين لا عمل لهم فراحوا يشربون الويسكي منذ الصباح حتى يتناسوا المصيبة التي حلّت بهم.
أحد الصيادين كان يعمل، يرمي القصبة وينتظر الرزق. راح وائل يصوّره مغيّراً وضعيته لتكون الصورة أجمل. الصيّاد بدوره راح يتخذ وضعيات تظهره صياداً ماهراً و«قبضاي». قبل أن نعود إلى السيارة قال لي: «اكتب شي حلو عن هالبلد»... وكأننا ننتج برنامجاً وثائقياً لجذب السياح إلى هذه المدينة الساحلية الواقعة على شواطئ البحر المتوسط! عدنا إلى باقي الصيادين السكارى، وقال لي أبو أندريه: «عندما ينتهي الويسكي سنموت من الجوع، فنحن نعيش كلّ يوم بيومه، ولا يسمح لنا الإسرائيليون بإخراج قواربنا من الميناء».
عدنا إلى وسط صور حيث زرنا عائلة مهجّرة من قانا... هناك التقيت زينب، شقيقة مقاتل شهيد. أخبرتني أنها فقدت كلّ شيء: بيتها، الدكان الذي كانت تعمل فيه، الأرض التي كانت تساعد أقاربها على زرعها بالتبغ... كانت عيناها منتفختين من شدة البكاء، لكنها بقيت تبتسم. قالت «اصبر! النصر آت».
تحوّل الصحافيون إلى مسعفين في بنت جبيل يوم
الهدنة (أرشيف ــ وائل اللادقي)
يوم خرجت حنان بحثاً عمن ينتشل أهلها من تحت الركام
وبعد عام راحت تستعيد ما لم تنسه
(وائل اللادقي)
تعليقات: