واحدة من الشقتين اللتين يقطنهما الأشقاء الخمسة في منطقة النبعة (علي لمع)
إلياس فريد عاصي: «قاومتهما لأنهما حاولا قتلي»
كان يسمع صوتاً يقول له: «لن تموت. إنهض».
بصوت أجش، يتحدث الستيني الياس فريد عاصي، مستحضراً ذكرى مشؤومة، مرّ عليها أربعة أشهر، وقد كْشف سرها بالأمس: ليلة إطلاق «ثنائي الإعدام» جورج وميشال تاناليان (اعترفا بقتل عشرة أشخاص، ومحاولة قتل عاصي وع. ن.) النار على وجهه، في شارع مقفر من شوارع دلبتا الجبلية. آنذاك، كانت باكورة جرائمهما الأولى، التي أثارتها «السفير» الإثنين الماضي.
صوته الأجش المبحوح هو الجرح الذي لم يندمل بعد، كأنه شاهد على جراحه التي تروي قصة بطل واجه الموت، ثم رُمي على قارعة الطريق كأنه جثة ميتة. سائق سيارة الأجرة الذي يقطن في جعيتا، ينكر صفة البطولة، في عبارة فيها شيء من التواضع: «حاولا قتلي، فقاومتهما».
«لقد مات»
كانت الساعة تشير إلى التاسعة والنصف ليلاً، عندما غادر الرجل منزل أحد الأصدقاء، عائداً إلى منزله في جعيتا. تعوّد الستيني، منذ أن بدأ كسب رزقه من سيارته قبل ثلاث سنوات، على تلبية «توصيلات» خاصة، محاذراً العمل على الخط العمومي.
في طريقه إلى منزله في منطقة انطلياس، أوقفه «ثنائي الإعدام» وسألاه: «هل تقلّنا إلى ساحة غزير، لقاء مبلغ قيمته خمسون دولاراً؟». وافق السائق على طلبهما المغري. جلس أحدهما إلى جانبه، فيما استقر الآخر في المقعد الخلفي.
لزم السائق الصمت حتى وصل إلى ساحة غزير. قال لهما: «ها قد وصلنا»، غير أنهما أردفا: «إلى الأمام قليلا من فضلك، وحقك محفوظ». توجّس عاصي من طلبهما، ومع ذلك، فقد مضى بهما إلى الأمام، فوصلوا إلى منطقة دلبتا. كان الشارع مقفراً.
«إلى الأمام قليلاً من فضلك»، أضاف أحدهما لعاصي. اجتاحت نوبة قلق عارمة السائق، فرفض المضي قدماً بضع خطوات، وطلب منهما الترجل من السيارة «فوراً». وفي أجزاء من الثانية، شعر عاصي بفوهة المسدس تدغدغ رأسه من الخلف.
خلال ثوان وجيزة، حاول السائق الوثوب من السيارة، غير أن الشقيقين واجهاه بالضرب المبرح، فقاومهما كيفما اتفق، إلى أن أطلق أحدهما النار، من مسدس عياره 7.65 ملم، فاخترقت رصاصة حنكه، ثم رموه على قارعة الطريق.
«لقد مات»، أعلن أحدهما، ثم أفرغ مبلغاً قيمته ثلاثمئة دولار من جيب السائق، وسلبه أوراق ابنته الثبوتية وساعة يده، واستقلا السيارة (من نوع «مرسيدس» 300).
توجس الشقيقان من مشهد الدماء المنتشر في السيارة، ظناً منهما بأن أحدهما قد نزف (علماً أن التحقيقات الأمنية أكدت عدم العثور على أي نقطة دم لهما في السيارة)، فانتزعا المرآة الداخلية التي كانت مخضبة بقطرات دم، تزينها سبحة السيدة العذراء.
سار مخضباً بالدماء
محاولاً النهوض بمشقة لم تواجهه يوماً، انتفض الستيني واقفاً. ثوان قليلة، وسقط أرضاً. الشارع مقفر من السيارات والمارة. سترته البيضاء، وبنطاله الأسود، مخضبان بالدماء. وجه الرجل مكسو باللون الأحمر.
في تمدده على الأرض، كأنه جثة بلا روح، كان يتضرع لشفيعته «سيدة بشوات». كان يحادثها، يقول لها إنه يريد أن يرى عائلته، ثم يموت. «لن تموت. إنهض»، سمع الستيني صوتاً منادياً، فنهض منتفضاً على ألمه، على موته.
مترنحاً ذات اليمين وذات اليسار، سار الستيني مسافة ساعة كاملة، والدماء تسيل من جسده، حتى وصل إلى مطعم في ساحة دلبتا. لمّا رأى رواد المطعم جسداً دامياً، يحمل وجهاً مشوهاً، صرخوا بصوت واحد ولاذوا بالفرار.
تفهّم أصحاب المطعم المشهد الماثل أمامهم، متذكرين حالة مشابهة وقعت قبل سنوات. تجمهروا حوله حائرين، فأومأ عاصي إلى سيارة مركونة. أعرب الرجال عن توجسهم من نقله إلى المستشفى على مسؤوليتهم، فدخل إلى المطعم وحمل ورقة بيضاء. بدمائه، كتب على الورقة رقم هاتف شقيقه الخلوي، فاتصل أصحاب المطعم بالإسعاف أولاً، ثم هاتفوا شقيق عاصي. إلى مستشفى «سيدة لبنان» في جونية، نقلت سيارة الإسعاف الستيني.
مكث الرجل في المستشفى ثلاثة أسابيع كاملة، خاضعاً لمراقبة طبية مشددة. ولمّا تحسنت حالته الصحية، مكتسباً صوتاً جديداً، كاد يفقده إلى الأبد، سأل: «هل عثرتم على السيارة؟».
بحثاً عن «ثنائي الإعدام»
كان «ثنائي الإعدام» قد ابتاعا بنقود عاصي كميات كبيرة من المشروبات الروحية، ثم وضعا الزجاجات الفارغة في صندوق السيارة التي ركناها، بعد يوم واحد من سرقتها، بالقرب من مستشفى «الحكمة»، وفي صندوقها الخلفي ساطور يستخدمه الجزّارون. وبعد أسبوع من بقائها بمحاذاة المستشفى، عثرت القوى الأمنية على السيارة. عرف عاصي بالخبر، فسأل من سريره في المستشفى: «هل ألقوا القبض عليهما؟». ولمّا عرف الستيني أن «ثنائي الإعدام» متواريان عن الأنظار، بدأ رحلته الخاصة. ما إن خرج الرجل من المستشفى، حتى راح يتردد إلى منطقة الدورة، مع بعض الأصدقاء، بحثاً عن الشقيقين القاتلين. استمر على هذه الحال، حتى استسلم. يجلس عاصي اليوم في منزله، محاولاً إقناع العائلة بالسماح له بمعاودة العمل على السيارة، لكن من دون جدوى. يقولون إنهم لن ينسوا ليلة الرعب التي عاشها والدهم. يريدونه إلى جانبهم، ليل نهار. يكفيهم أن يتذكروا أن والدهم كان، ذات ليلة قائظة، في طريقه إلى الموت. يتأملونه، ويخافون عليه من «شريد قاتل تربطه أواصر القربى بثنائي الإعدام. فوالدنا الشاهد الوحيد الحيّ على جرائمهما الإثنتي عشرة، بعدما غادر الإيراني ع. ن. البلاد، إثر نجاته من الموت على أيديهما».
اعترافات جديدة
أفاد مصدر أمني «السفير»، ليل أمس، بأن مستجدات التحقيق التي يشرف عليها منذ ثلاثة أيام «فرع المعلومات» مع الشقيقين جورج وميشال تاناليان، توصلت إلى اعتراف ميشال بقتله ثلاث ضحايا، فيما اعترف جورج بقتله سبع ضحايا.
ويأتي اعتراف «ثنائي الإعدام» بعد تبادلهما تهم القتل في اليوم الأول من التحقيق، مع اعترافهما بتنفيذ الجرائم الإثنتي عشرة، علماً أن عدد القتلى هو عشرة أشخاص، بينهم السبعينية ملكة توفيق توفيق، بينما نجا من الموت كل من الياس عاصي وع. ن. (إيراني الجنسية).
تعليقات: