في هذا المدخل، كمن مقاومون لأربعة أيام ينتظرون دخول الإسرائيليين
إلى مركبا الصور لـ: علي لمع
عديسة :
هذه التقرحات الصغيرة في كفي «أبو حيدر» ليست من آثار الحرب. هي حديثة وحين تندمل سيظهر غيرها. هكذا هي أكف العّمال. واضحة. أكف تسهل قراءة مستقبلها. وتسهل قراءة حاضرها وماضيها.
لو صادفه أي منا للمرة الأولى، في ساحة عديسة، على دراجته النارية الصغيرة، يتدلى من أحد مقبضيها كيس نايلون فيه فاكهة، لاستفسر منه مثلاً عن بيت صديق يقصده. ما كان سيخطر في بال أحد أن يسأله: أين كنت تقف؟ ومن اين أتوا؟ وكيف فتحت النار عليهم؟ واين كان حسين؟ وكيف لوّحت له؟
لم يكن سيرد في بال أحد أن هذا الرجل الأربعيني، بلهجته القروية، كان واحداً من رجال تلك الحرب، ولم يكن هو سيتبرع بإخبار أي كان بأنه كان هنا قبل عام، وأنه قاوم.
لكننا تعرفنا إليه قبل ساعتين من اللقاء، في الساحة.
جلس وحكى عن ليل مواجهات طويل في عديسة. روى ببساطة غريبة ما يفترض أنها معركة جلست فيها الروح على الكف.
حين سيغادر على طول الطريق التي نزل عليها الإسرائيليون، سيظل سؤال واحد مصرّاً على تكرار نفسه: هل حقاً يظن أن ما فعله هو ورفاقه كان على هذا القدر من البساطة؟
«كانوا نازلين والطريق ملآنة بهم الى آخرها». ثم ماذا؟ ثم أطلق النار عليهم. معقول هذا الرجل؟ لم يفكر للحظة أننا لا نقدر عليهم، وأنهم أقوى منا. لم يتذكر أن إيران تستغله وتحرك المدرعات الإسرائيلية والمشاة الى قريته وتدفع سلاح الجو الإسرائيلي الى قصف بيته فوق رأسه. لم يعرف أنه إذ يحمي قريته فهو يعرّض السلم الأهلي للخطر. لماذا يتعب نفسه أصلاً؟ ربما يجهل أنه إذا انتصر فنسب النصر الى ربّه الذي له يسبّح ويحمّد، فسوف يسخر منه ومن نصره الإلهي سياسيون و«مثقفون» أقلهم «ثقافة» يعرف أبعد بكثير مما يعرفه المقاوم وناسه مجتمعين. ألا يعلم بأمر هؤلاء المتنورين؟ ألم يقرأ «ابو حيدر» يوماً لهم؟ ألم ير بعد واحداً منهم غارقاً في كتابة ملحمة شعرية في عشق رجل سياسي؟ ألم يسمع بعضهم وهو يؤكد، من موقعه الاستراتيجي في شارع الحمرا، أن ما تفعله المقاومة في بنت جبيل هو، في علم العسكر، دفاع تراجعي؟ أكان عليه أن يفكر إقليمياً في هذه اللحظة؟
غالباً، لم يفكر ابو حيدر في كل هذا وهو يحارب وجهاً لوجه. قضيته أكثر وضوحاً، وأقل تلوثاً. كان في ساحة تلك المعركة. يحمي رفاقه ويحمونه. يواجه مسألة لا نتعرض لمثلها كل يوم أو حتى كل حياة: مسألة حياة أو موت.
«عاديون جداً جدا»، يقول أبو حسين، رفيق أبي حيدر من ميس الجبل، في وصف المقاومين.
حقاً؟ قاماتهم ليست أطول من قاماتنا وأعينهم ليست أكثر اتساعاً من أعيننا. يعملون ويتعلمون ويتزوجون ويكبرون ويموتون ويخجلون. هل هذا يجعلهم عاديين مثلنا؟
لا. ليسوا عاديين مثلنا هؤلاء الذين كانت أمهاتهم وزوجاتهم وأطفالهم ينتظرونهم بينما هم ينتظرون عدوهم في أي طريق جرّب أن يسلكها. ليسوا عاديين مثلنا. هؤلاء الذين حين تنتهي الحرب يضيعون في شوارعنا. نراهم في الجامعة وفي دكان السمانة وفي محل تصليح السيارات وفي حقول التبغ. لا نعرفهم، ويفضلون ألا نعرفهم. مجهولون، على الرغم من حكاياتهم التي لا تصدق. ليسوا عاديين مثلنا إذ يحققون ما حققوه ولا يعنيهم ان يظلوا مجهولين الى هذه الدرجة.
كيف تصفهم؟ كيف تصف مقاوماً؟
مسؤول القطاع الأوسط في المقاومة، كيف تصفه مثلاً؟ هذا رجل بلا بدلة ولا أوسمة على صدره. ليس في لغته وملامحه ما يشي بـ«جنرال عسكري» يكرهه الشعراء. خجول بالكاد تسمع صوته مع أن صدى صواريخ رجاله ما زال حتى اللحظة يتردد في وادي الحجير الذي كان ضمن نطاق اختصاصه.
كيف تصف مقاوماً؟ إنه رجل يريد أن يحتفظ باسمه ووجهه سرّاً. يضحك حين تقول له بكل ما اصطنعت من جدية أنك بداية تريد التقاط مجموعة من الصور له لنشرها. هو حين يحكي الآن، فلأنه يخدم قضيته، لا صورته الفردية.
رجل لا ينسب ولو إنجازاً واحداً الى نفسه، مع أنه قائد قطاع. يضع عدوه نصب عينيه. يقارن بينه وبين عدوه. يقول إن الجندي الإسرائيلي الذي يصرف كميات هائلة من الذخيرة، والخاضع شهرياً لدورات تأهيل وتدريب، هذا الجندي، بغض النظر عن دبابته وطائرته وبارجته، خيّب ظن المقاومين، الذين كانوا يترقبون مقاتلاً يواجههم.
لا ينتبه البتة إلى عاصفة الغبار المثارة حول انتصاره واسم انتصاره. كادَ عدوه وحمى بلده. وكفاه ما فعل.
كيف تصف مقاوماً؟ حكاياتهم تصفهم. هي حكايات لا تنضب، وربما ينبغي أن تظل تروى.
في ما يلي، بعض مما أنجزوه في ثلاث قرى من القطاع الأوسط في الجنوب. هي نماذج لما كان في تلك الأيام الطويلة.
كيف تصف مقاوماً؟ اسمه المستعار «أبو حيدر» وله كفّا عامل.
كيف تصف مقاوماً؟ هو رجل «مجهول»، تمتلكك رغبة هائلة في أن تصافحه، تشد كثيرا على كفه، وتقول له: شكراً.
تعليقات: