.. قدّر الله أن تطوى سرائر الخلق في هذا العالم، ولا شكّ أنّ في تقديره لطفا، وفي لطفه جلّ وعلا حكمة وتقديرا.
تصوّروا معي أن لو هُيئ للإنسان أن ينفذ إلى دخيلة النّاس، ويخبر ما انطوت عليه ذوات أنفسهم من الأفكار والأسرار، إذاً لعرف عندها العَجَب العُجاب، وابيَضَّ فُودَيهِ في غرّة الشباب!.
النّاس، وما أدراك ما النّاس! بحرّ لُجيّ الطباع، جبلّة من التنوّع والتناقض، متاهاة معقدّة يستحيل الخروج من أنفاقها، أُحجية ينوء اللبيب بحلّها .
ألزمتني الحياة مخالطة النّاس بحكم النّوع والضرورة، وقضت اللّابديّة بزجّ وجهي بين الوجوه، ونفسي بين النّفوس، علّني أنظر في مرآة نفسي شكل وجهي، أو أضيع بين ضباب الأنفس وأقنعة الوجوه!..
في دورة المعرفة وجلاء الذّات عانيت وعورة التّجارب، نجحت قليلاً وفشلت كثيرا، تأبّطت الصخور المقنّعة بالعشب لكنّ قدمي انزلقت بقوّة التيار، وألفيتني في اليمّ مبتلّاً بالخجل.
تعثّرت بالمشتهيات ظنّاً بأنّ الأنا حَصّالة الرّغبات، ومضيت في أكثر الأحيان واحداً من النّاس، عدداً من الأعداد!..
في كتاب الحقيقة قرأت الأنا، وبالكتاب عينه أقرأ النّاس!..
أسير في زمن التلوّن فأجد فلاناً يعبد الله مياومة، وبعد الدّوام أو قبله ينحني لعبادة الأصنام !.
أجول في الشوارع فأرى تقوى الوجوه، ولا أتحسّس تقوى القلوب، أطرب لذكر الله يتعالى بقامات المآذن، وأحنّ إلى تعظيمه سلوكاً وامتثالا.
أرى النّاس يتجمّلون الزهادة والعبادة، وعلى أعتاب بيوتهم ومعابدهم يتضوّع الفقراء جوعاً ويتجرّعون بؤسا..
أسمع تمجيد الحريّة على ألسنتهم، وأرقبهم عبيداً على أبواب سادتهم يتوسّلون حقوقهم، ويستجدون أرزاقهم، ويسبّحون بحمد ظلّامهم ..
أسمع رنين ضحكاتهم، فأخبُرها تهكّماً بالضعفاء، وازدراءً بذوي النّقص والعاهات، أو تقمّص كبرياء..
أخشع لأنين دموعهم منتظراً رياح الفعل تهبّ من رحم المعاناة، فلا أرى الحزن إلا كَرّة المأساة..
أنشد البرّ والإحسان فيهم، أسفاً فالبرّ دونه ماء الكرامة عندهم، والإحسان مُثمن والأعرَاض أثمان!..
أطلب الصّدق في نادي التّقاة، فإذا الكذب ملح الرجال تفاخرا، ومنجاة من سطوة الحقّ الزلال.
تصم أذنيّ عبارات التملّق والتصنّع والتّجمّل، وليتها لم تخفي خلفها المكيدة والوقيعة والمداراة، وأقول أشيح عنها وأستظلّ من لهبها فَيء البيوت علّ الروح تصطلي دفء الحقيقة .
وحين دخلت إحداها استقبلني ملاك الوحي بالمعوذتين والإخلاص، وأشرقت بوجهي آية الكرسي، وتبسّمت روحي لأسماء الأئمة والصالحين، فخلتُ نفسي في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، إلّا أنّه خاب ظنّي بعد هنيهة، حين انفلتت الألسن من عقالها كالسّباع الجارحة فلم تترك حرمة إلّا انتهكتها، أو سُمعة إلّا شوّهتها، أو مستورة إلّا أعلنتها، كلّ ذلك في حضرة الآيات والنّذر .
ضقت بهذا النفاق هارباً إلى حيث يسمّيني النّاس معتزلا، وما أروع العزلة إن كان بها جلاء البصيرة، وتهذيب الرّوح، وترويض النّفس، واكتساب الأنسنة!..
بقلم : الشيخ محمد أسعد قانصو
Cheikh_kanso@hotmail.com
تعليقات: