عبد الباري عطوان: لاجئ الصفحة الأولى قبلته «القدس» (مروان طحطح)
تزدحم سيرته بالوقائع والأحداث والتواريخ. حين يحاوره المرء، يحار من أين يبدأ. مع كلّ ذكرى يسردها، يُظهر عبد الباري عطوان انفعالاً وحماسةً، كأنّ ما يرويه يحدث معه للتوّ. لم يترك الصحافي المشاغب فراغاً في حياته إلا ملأه بالجدل والسجال. خرج باكراً عن الانتماء الضيّق، ليحمل فلسطينيّته إلى فضاء عربي قومي، ويوصِل إلى صياغة خطاب إعلامي يخاطب الغرب بأدواته. خطاب أزعج اللوبي الصهيوني في لندن حيث يقيم عبد الباري عطوان، وصار يضغط لمنع ظهوره على الشاشات البريطانيّة. على هامش «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»، التقينا رئيس تحرير جريدة «القدس العربي» اللندنيّة، لنسترجع معه بعض ذكرياته التي وضعها في كتاب «وطن من كلمات» (دار الساقي)، وجاء لتوقيع نسخته العربيّة في «بيال».
ذات يوم من خريف العام المشؤوم، 23 تشرين الأول (أكتوبر) 1948 تحديداً، وجد أهله أنفسهم في خيمة خارج أرضهم في قرية أسدود الفلسطينية. ظلّت أمه تنوح كلّما تذكّرت ذلك اليوم الذي تغيَّرت فيه حياتها إلى الأبد. بعد عامين ولد عبد الباري، في خيمة للاجئين الفلسطينيين في مدينة رفح. ظل أبوه مريضاً حتى توفي في الثانية والأربعين، تاركاً خلفه عائلة كبيرة من عشرة أولاد وبنات، خرجت من الخيمة للسكن في بيت طيني على أطراف المخيم. بيت من غرفة واحدة، اتسعت للجميع: «كان ينام الأصغر إلى جانب والدتي، ثم الأكبر، فالأكبر، كأنّنا في علبة سردين». كان الطفل اللاجئ يغافل نواطير الحقول ليسرق الفاكهة من شدة الفقر والجوع. «قضيت كلّ طفولتي حافياً. كنا نحمل الإبر لنزع الشوك من أرجلنا. انتعلت حذائي الأوّل وأنا في السادسة، وكان عليّ أن أذهب إلى المدرسة. وذاك الحذاء توارثه إخوتي من الأكبر إلى الأصغر، واستخدمته للطابور الصباحي فقط، لتجنب الطرد من المدرسة».
يبتسم عبد الباري عطوان حين نذكّره بالرسالة التي بعثها إلى الرئيس جمال عبد الناصر. «كنت في الصف الثاني الابتدائي. اشتريت طابعاً بريدياً بنصف قرش وكتبت رسالة: الرئيس جمال عبد الناصر، أنت بطل، وأنا أحبك. عبد الباري عطوان، مدرسة دير البلح للاجئين الفلسطينيين». لم يتوقع ابن الثماني سنوات أنّه سيتلقى رداً من الرئيس المصري، جعله بطلاً في المدرسة والمخيم.
تقاطع معجبة جاءت لإلقاء التحية جلسة الذكريات. يحيّيها، ويعود ليحدّثنا عن سبب خروجه من غزة. بعد احتلال إسرائيل للقطاع عام 1967، خاف أهله عليه، وقرروا إرساله إلى عمّان للدراسة. «جمعوا لي ثلاثين جنيهاً مصرياً، هي كل ثروة العائلة، وذهبوا للإسكافي، ليضع النقود في حذاء وخاطوه. كانت ثروتي في حذائي»، يقولها رافعاً حذاءه الأنيق اليوم أمامنا، مشيراً إلى مكان وضع النقود. حين سافر إلى الأردن، اكتشف أنَّ ثروته لا تساوي شيئاً... بدأ حياته العملية عاملاً في مصنع لتعليب البندورة بثلاثين قرشاً في اليوم. ذهب بعدها لتعلم قيادة السيارة، وعمل في أمانة العاصمة لرش المزارع، ثم سائقاً لسيارة تجميع القمامة. آخر عمل له في الأردن كان لدى محل حلويات «ناشد إخوان»، كان صاحبه السوري الجنسية يفتح مصنعه بعد انتهاء الدوام الرسمي لاجتماعات المقاومة الفلسطينية. اجتماعات حضرها عطوان، وزادت من وعيه السياسي، رغم أنَّها لم تشجعه على الانتساب إليها. «رغبتي في التعلُّم، ونزعتي المستقلة، منعاني من الدخول في لعبة التأطير الحزبي».
استطاع الخروج من الأردن، عندما أرسله أخوه عبد الفتاح، بأوّل مرتّب قبضه من مهنة التعليم في السعودية، للدراسة في القاهرة. هناك بدأ مرحلة جديدة من حياته، أسهمت في صقل ثقافته ووعيه. «من «جامعة القاهرة» حيث كنت أحرّر مجلات الحائط، قدنا تظاهرات خرجت عام 1972 إلى ميدان التحرير. منذ ذلك اليوم أصبح طموحي الوطنية والتغيير». ميله إلى الثقافة والمسرح في القاهرة، عاصمة الثقافة العربيّة آنذاك، قاده إلى فترة تدريبية في القسم الفني لمجلة «المصور»، استمرّت شهراً واحداً، لينتهي في الصحافة السياسية، ويبقى فيها حتّى اليوم. «اخترت الصحافة لأنّني كنت ممتلئاً بالغضب، وكانت أفضل وسيلة للتعبير عن مأساة شعبي»...
بعد تخرجه من جامعة القاهرة عام 1974، أجبر على المغادرة تحت تهديد الأمن المصري له بالسجن، بسبب نشاطه السياسي والصحافي. كان في حيرة إزاء المكان الذي يذهب إليه، حين تلقّى عرضاً للعمل سائقاً لسيارة ثريّ ليبي من القاهرة إلى طرابلس. هكذا انتقل إلى ليبيا. وهناك قادته المصادفة لكتابة أوّل مقال صحافي ضدّ شاه إيران، لكنّه رُفض مرات عدة، وإذا بالصحف الليبية تنشره بعد خلاف نشب بين القذافي والشاه. خرج بعدها من ليبيا للعمل في جريدة «المدينة» السعودية، وتلقى بعدها عرضاً من جريدة «الشرق الأوسط» في لندن. كانت تلك نقطة تحوّل في حياته المهنية والشخصية. لكنّ خلافاً مع رئيس تحرير الصحيفة آنذاك عثمان العمير، أدّى إلى خروجه منها. «أصررت على وضع صور مجازر الاحتلال أثناء انتفاضة 1987، لكنّ العمير كان يفضّل صور بطولة «ويمبلدون»». استقال عطوان، وخرج لتأسيس جريدة «القدس العربي» عام 1989 التي تصدر في العاصمة البريطانيّة منذ ذلك الحين. أطلقت الصحيفة شهرته الإعلامية، ولا يزال في رئاسة تحريرها منذ ثلاثة وعشرين عاماً، إلى جانب سناء العالول أوّل نائبة رئيس تحرير عربيّة.
شخصيّتان أثّرتا في مسيرته الصحافية: أسامة بن لادن وصدام حسين. «طلب بن لادن لقائي، لأنني كنت خارج المنظومة السعودية المسيطرة على كل وسائل الإعلام العربية، وبسبب موقفي الرافض للوجود الأميركي في المنطقة. وعندما غزا صدام حسين الكويت، كنا خيمة صغيرة أمام ناطحتين إعلاميتين هما «الحياة» و«الشرق الأوسط»». مطالبة بن لادن على صفحات «القدس العربي» بحلّ عربي لغزو الكويت، ورفضه الشرس للوجود الأميركي في المنطقة، رفعا من نسبة مبيعات الصحيفة الجديدة في السوق الإعلامية بنسبة ألف بالمئة، ونقلتا رئيس التحرير الشاب من صحافي عربي، إلى صحافي عالمي.
يتنهد عبد الباري بتعب، وهو يعيد تشريح وضع المنطقة المقبلة على تحولات خطيرة. يعبّر عن تخوّفه من احتواء الثورات العربيّة، وتوظيفها في المشروع الأميركي الجديد. «مستقبل المنطقة والخليج غير ورديّ على الإطلاق. حكم القبيلة والعسكر سينتهي قريباً، وعلى السلطة الفلسطينية إنهاء عملية السلام المجهض. الشعب الفلسطيني أحق بالثورة والمقاومة».
جماعات اللوبي الصهيوني في بريطانيا والولايات المتحدة لقبّته بـ«وزير إعلام تنظيم القاعدة»، في محاولة لمنعه من إلقاء محاضرات في الجامعات، ومنعه من الظهور في أي برنامج يتحدّث عن القضية الفلسطينية. «سألوا الملحق الصحافي الإسرائيلي بعد انتهاء مهمته في لندن: ما هو الإنجاز الكبير الذي حققته؟ أجاب: قلّصت من ظهور عبد الباري عطوان على التلفزيون؛ لأنّه أكبر عدو لإسرائيل». في الوقت الذي يحاول فيه إخراج صحيفة «القدس العربي» من أزمتها، ما زالت تُعرض عليه أموال ومشاريع، وتُشن عليه حروب من جهات عدّة... أمّا هو، فيرى مستقبله في التقاعد والراحة من أعباء السفر والكتابة، و... صنع الصفحات الأولى.
5 تواريخ
1950
الولادة في مخيّم دير البلح في قطاع غزة بعد عامين على النكبة التي شهدت تهجير عائلته من قرية أسدود الفلسطينيّة
1974
تخرّج من قسم الإعلام في كليّة الآداب في «جامعة القاهرة»
1989
أسس جريدة «القدس العربي» اللندنيّة التي لا يزال يرأس تحريرها إلى اليوم
1996
التقى أسامة بن لادن في جبال تورا بورا، وأصدر بعدها كتابه «القاعدة التنظيم السري»
2011
زار «معرض بيروت العربي الدولي
للكتاب» قبل أيّام، موقّعاً الطبعة العربية من مذكراته «وطن من كلمات ـــــ رحلة فلسطينية من مخيم اللاجئين إلى الصفحة الأولى» (دار الساقي)
تعليقات: