«اللوزينا».. الإسبان ابتكروها والحلبيون أدخلوها إلى سوريا وطوروها
دمشق:
قبل عشرات السنين، اكتشف الإسبان أنهم يمكنهم تحويل ثمار اللوز إلى حلوى لذيذة أطلقوا عليها بالإسباني اسم «مرتسابان»، التي تعرّب «عجينة اللوز»، وذلك من خلال عجنها وقولبتها بشكل فني جميل, وبعد ذلك انتقلت إلى فرنسا وألمانيا، حيث اشتهرت مدينة لوبك، التي تأتي باللوز من إسبانيا وإيطاليا، بتقديم ألذ أنواع اللوزينا في أوروبا، ولأن الحلبيين يتلقفون كل شيء رائع في مجال الطبخ والمأكولات؛ فقد عملوا على إدخال هذه الحلوى اللذيذة إلى سوريا وكان لا بد من أن يضيفوا عليها نكهة حلبية خاصة فقرروا مزاوجتها مع الفستق الحلبي لتنتج «اللوزينا» بعجينة الفستق تلك الحلوى الأرستقراطية الرائعة.
وكما أن الحلبيين مهرة في تلقف كل ما هو جديد في مجال الطعام، فإن أشقاءهم (الشوام) بارعون أيضا في ذلك فجاءوا بـ«اللوزينا» ووضعوا بصماتهم عليها من خلال التنوع في الشكل والتصاميم والمذاق اللذيذ.
ولعلّ أسرة سليق الدمشقية، التي كانت من أوائل الأسر التي عملت في مجال الحلويات الشرقية وخاصة الراحة بأنواعها والنوغا، حيث أطلقت أول محل لها في ساحة المرجة بدمشق في عام 1918 من قبل جودت سليق، لتنتقل فيما بعد إلى سوق الصالحية الراقي وسط العاصمة السورية دمشق في عام 1940, كانت من أولى الأسر الدمشقية التي عملت على تحضير «اللوزينا» في ستينات القرن الماضي، وما زالت تحضرها بأشكالها المختلفة ويتحدث الابن الأكبر للعائلة، الذي يدير محلها في الصالحية (غسان سليق - أبو إياد) عن حكاية «اللوزينا»، وطرق تحضيرها وأشكالها المختلفة قائلا، لـ«الشرق الأوسط»: نأخذ عادة اللوز البلدي الجاف ونقوم بطحنه، وكنا في السابق نطحنه بشكل يدوي ونكبسه يدويا أيضا، ومن خلال مدرج نعمل على بسط العجينة، ومن ثم نقطعها بقوالب، وفيما بعد تطورت الأمور وتم ابتكار آلة بسيطة تشبه المدفع يوضع فيها ثمار اللوز من طرف فتخرج من الطرف المقابل معجونة (تشبه ماكينة عجن البرغل لتنتج الكبّة), ويضاف لعجينة اللوز الفستق الحلبي والسكر لتعجن معها حيث يعطي الفستق اللون الأخضر للوزينا, ويوضح سليق المراحل التي تمر بها اللوزينا حتى تصبح جاهزة للتسويق وهي على الشكل التالي: في البداية يقشر اللوز بعد نقعه في الماء ومن ثم يتم تجفيفه ويطحن بالآلة الخاصة به ويضاف لها فيما بعد الفستق الحلبي المطحون والمعجون أيضا، وهنا يمكننا التحكم بشكل اللوزينا؛ حيث نضع مثلا طبقتين من عجينة اللوز، وبينهما طبقة الفستق الحلبي، وفي المرحلة النهائية نستخدم المكبس، الذي يقدم لنا الشكل الذي نريده للوزينا، فالمكبس له نماذج مختلفة تعطينا أشكالا متنوعة من اللوزينا، ومنها شكل الوردة والمربع والمستطيل وشكل الضفائر، التي تحضر بطريقة فنية، حيث تؤتي بعجينتي اللوز والفستق بشكل أصابع طرية ويتم جدلهما على بعضهما بعضا، وغير ذلك من النماذج، بعد ذلك توضع هذه النماذج في صاج ويتم شيّها في فرن لوقت قصير جدا، بحيث «يلدعها» لهب نار الفرن بسرعة، ولتخرج من الفرن جاهزة للتناول ولتقدم للمتذوق طعم اللوز مع طعم الفستق الحلبي، ولكن بعد أن نعمل على تغليفها بورق «السيلوفان» لكي تحافظ على جودتها.
لقد تم تطوير اللوزينا (يشرح أبو إياد) من خلال إضافات غذائية لذيذة المذاق، ومنها مثلا اللوزينا بقمر الدين، وتحضر هنا اللوزينا من خلال وضع عجينة اللوز وفوقها عجينة الفستق الحلبي، وفي أعلاها نضع طبقة من قمر الدين بلونه البرتقالي المتميز وبنكهته الرائعة. وهناك أنواع أخرى، ومنها اللوزينا بحبات الفستق الحلبي، بحيث يكون لدينا في اللوزينا فستق مطحون بداخلها، وفستق حب يوضع على وجهها العلوي.
- ولكن ما تلك الأشكال من «اللوزينا» التي تعرضها في واجهة محلك وكأنها مهرجان فاكهة وكرنفال ألوان؟! يضحك أبو إياد: هذه «لوزينا الفواكه»، والحلبيون هم من يحضرونها بهذا الشكل الجميل حيث تحضّر كل قطعة «لوزينا» على حدة، وبشكل يدوي، ليتم قولبتها ولتأخذ نماذج الفاكهة والخضار المختلفة كالتفاح والمشمش والخوخ والدراق والكرز والعوجة والفريز والبرتقال والباذنجان والبطيخ الأحمر والموز والجزر وغيرها وتلبس بالشمع المناسب للأكل كشمع العسل للمحافظة عليها، ويتم فيما بعد طليها بصبغات صحية غذائية، وبواسطة ريشة وبيد حرفي لتأخذ اللون المتناسب مع ثمرة الفاكهة، فهناك اللون الأصفر والأحمر والأخضر وغير ذلك، ولكن تبقى هذه النماذج ذات المنظر الجذاب بطعم اللوز وليس بالتأكيد طعم الفاكهة التي تأخذ أشكالها وألوانها فقط وليس مذاقها. وهناك من جرّب أن يحضر «اللوزينا» بالشوكولاته (يتابع سليق)، حيث توضع عجينة اللوز على حصيرة خاصة تسير بشكل متدرج، ونأتي بالشوكولاته لتغطسها بالكامل، وهي تسير مع الحصيرة لتخرج من الجهة المقابلة مبردة وجافة، ولكن لم تلق الرواج المطلوب من الناس والسبب أن طعم الشوكولاته هنا طغى على «اللوزينا»، فقلل من طعم اللوز والفستق وهو الأصل، لذلك لا نحضرها إلا على شكل تواصٍ فقط. وبسبب الأشكال التي يمكن أن يقولب بها «اللوزينا»؛ فإنه يمكن تصميم أشكال لسانت كلوز وحيوانات وغير ذلك، فإنه يعتبر من أجمل وألذ أنواع الحلويات التي تقدم في أعياد الميلاد ورأس السنة والهالوين؛ ليس فقط في أوروبا، بل حتى في البلدان العربية، يوضح إياد سليق.
هناك نوع آخر من اللوزينا (بحسب أبو إياد سليق) يدعى «الغريبة الاستانبولية»، وهي تحضر على شكل طبقتين دائريتين من عجينة اللوز وفي وسطهما طبقة الفستق أو طبقة من الشوكولاته، وتأخذ شكلا هشا متميزا.
وهل يمكن تحضير اللوزينا بالورد الجوري الشامي؟ لا يمكن فعل ذلك، يجيب أبو إياد، ولكننا في دمشق وحلب حضّرنا الفستق الحلبي بالورد الشامي وأنتجنا نوعا آخر مختلف عن اللوزينا أطلقنا عليه اسم كروكان ورد، وهو عبارة عن سكر محروق مع الفستق الحلبي وبعد ذلك نرش عليه بتلات الورد الجوري.
بالطبع فإن غسان سليق كان قد افتتح أكثر من محل في دمشق لبيع «اللوزينا» والحلويات الشرقية، كما يصدر هذه الحلوى الأرستقراطية اللذيذة إلى بلدان كثيرة، وخاصة إلى بلدان الخليج والأردن ولبنان، وكما يقول: «لا يتم تحضير (اللوزينا) سوى في سوريا، وخاصة في مدن حلب واللاذقية ودمشق,مع أنه هناك صهري وابن عمتي بنفس الوقت ويدعى محمد خير عمّار، يعيش في لبنان منذ عام 1950 ولديه ورشة كبيرة لتصنيع الحلويات الشرقية، وحاول تصنيع (اللوزينا) ولكن لم تنجح معه بشكلها الجيد ولم تعطِ المذاق المرغوب، ولا أدري ما سبب ذلك؟! واللبنانيون يحبون (اللوزينا) كثيرا، كذلك هم حال الأردنيون, في حين أن أكثر الشعوب الأوروبية عشقا للوزينا ومن خلال زياراتي لأوروبا هم الفرنسيون, تخيّل أن سعر قطعة اللوزينا في باريس يعادل سعر الكيلوغرام الواحد لدينا؟!...هي إذن حلوى مدللة وتستحق ذلك لأنها ذات مذاق رائع وفوائد غذائية وصحية كثيرة».
ولا ينسى أخيرا أبو إياد أن يخبرنا حكاية الأسرة مع الحلويات الشرقية حيث تبرز صورة الأب (جودت سليق) أحد مؤسسي جمعية تجار دمشق في واجهة محل العائلة بالصالحية، التي تعود إلى عام 1926، مع مجموعة من أوائل تجار وصناعيي العاصمة السورية، كما يعلق، وفي زاوية أخرى من المحل صورة أخرى لوالده تعود لعام 1950 وهو يقدم طبق حلوى لابنته بمحله في سوق الصالحية. يقول: «انطلقت أسرتنا مع تحضير الحلويات الشرقية مع جدي في البداية من لبنان ومن ثم انتقلت إلى مصر لتستقر فيما بعد بدمشق على يد والدي سنة 1918 في ساحة المرجة، ومن ثم في سوق البزورية وبعدها في منطقة الفردوس التجارية وسط دمشق وأخيرا في الصالحية سنة 1940 حيث افتتحنا فروعا في أسواق أخرى ومدن سورية، كطرطوس الساحلية وسابقا في اللاذقية، ولنا وكلاء في الكثير من البلدان العربية وعرفت العائلة عن غيرها من الأسر الدمشقية المتخصصة بالحلويات الشرقية، بتحضير نوع من الراحة المضاف له القشطة العربية».
ويختم الشاب إياد، الذي يمثل الجيل الرابع من عائلة سليق ويدير محلا للعائلة في حي أبو رمانة الراقي بدمشق الحديث، مؤكدا أن الطعام فن وثقافة، وهذا المبدأ الذي تعمل عليه العائلة، ويخبرنا أنه ومنذ الآن يحضر للاحتفال بالذكرى المئوية الأولى لدخول العائلة فن تحضير الحلويات الشرقية، حيث الاحتفال سيكون بعد سبع سنوات.
«اللوزينا».. الحلوى الأرستقراطية المدللة
تعليقات: