يستغرب جيران معمل الجيّة انقطاع الكهرباء عنهم (أرشيف)
الكهرباء: حلم الـ 2012
مهى زراقط
على الرغم من تزايد عدد العرّافين والمنجّمين عاماً بعد عام، وجرأتهم في التنبّؤ بأمور دقيقة وحساسة، سياسية وأمنية وحتى شخصية، إلا أن أحداً منهم لم يتنبّأ يوماً بحلّ لمشكلة الكهرباء في لبنان، أو أي أزمة حياتية أخرى: مياه، هاتف، سلامة غذاء، ميكانيك، ضمان صحي، أدوية أمراض مزمنة، مجانية تعليم، إلخ.
أسباب كثيرة تقف خلف هذا الأمر، قد يكون أبرزها أن حرمان اللبنانيين من أبسط حقوقهم الإنسانية بات بديهياً. اللبنانيون أنفسهم اعتادوه. يعتقدون بأن حرمانهم من الكهرباء منذ ولادتهم أمر طبيعي، وكذا أولادهم الذين باتوا يستغربون عدم انقطاع الكهرباء في حال تجاوز موعد التقنين. والمحزن في الأمر أنهم إذا قرروا الشكوى منه، سواء كان ذلك طوعاً أو بإيعاز سياسي، فهم يقارنون أنفسهم بأبناء المناطق الأخرى. ابن الضاحية يقارن نفسه بابن بيروت. وابن عين الرمانة يشكو ابن الشياح، والعكس. وابن عكار يخال نفسه معاقباً (اليوم)، في حين ينعم ابن الجنوب بدلال لا يوصف. وغالباً لا ينجو العمّال الأجانب من هذه المقارنة.
نجح السياسيون اللبنانيون في جعل القضايا الحياتية خلافية إلى هذا الحدّ. نجحوا في تحويل بديهيات حياتنا إلى مادة سياسية نتجاذبها كأداة من أدوات الصراع، وغطّوا على خطاياهم ببطولات وهمية تنافس فيها وزراء من مختلف الحكومات المتعاقبة، بدءاً من خطط لا تنفذ مروراً بمشاريع قوانين تبقى أسيرة الأدراج، واستعراضات إعلامية تستخدم فيها كلّ أنواع التحريض السياسي والمذهبي والطائفي، وصولاً إلى التباهي بكشف «عمليات فساد» لا يُكتشف فيها الفاسدون، أو يُعلن عنهم.
هذه الطبقة السياسية نجحت في جعل الكهرباء حلماً نرجو أن يتحقق في الـ2012، وإن لم تكن الكهرباء هي المقصودة حصراً، بل كلّ حقوقنا كمواطنين يفتقرون إلى... كلّ شيء.
باسيل: خطة إصلاحية أو... الدموع
من يدفع فاتورتي كهرباء في لبنان يعاني، شأنه شأن من يسرق الطاقة. الدولة غائبة عن تحصيل حقوق ناسها، وهي توقفت عن الاستثمار في إنتاج الكهرباء منذ زمن. الحلول موجودة، ووُضعت على طريق التنفيذ، لكن العراقيل تهدد بوقوع كارثة
حسن عليق
منزله في الطبقة الثامنة من المبنى. وظروف العمل لا تسمح له بأن «يؤقلم» دوامه مع دوام التقنين. أصلاً، هو يرى أنه من المذلّ أن يتحكم التيار الكهربائي بأوقاته. لم يعد يقبل بالتبريرات التي حاول إقناع نفسه بها: لا ليست رياضة، إنه إذلال. يدفع أكثر من 300 ألف ليرة لبنانية ثمناً للكهرباء، الرسمية منها والأهلية (الاشتراك). لكن ذلك لم يمنحه بعد حق الوصول إلى منزله بمصعد كهربائي في بداية العقد الثاني من الألفية الثانية بعد الميلاد. في رحلة الصعود على الدرج، يتذكر كلّ من تولى وزارة الطاقة ورئاسة الحكومة منذ نهاية الحرب الأهلية حتى اليوم. حتى أولئك الوزراء المغمورون في الذاكرة، كسليمان طرابلسي وموريس صحناوي. في نظره، جميعهم مسؤولون عن إذلاله: عمر كرامي، رشيد الصلح، رفيق الحريري، سليم الحص، نجيب ميقاتي، فؤاد السنيورة، سعد الحريري، محمد يوسف بيضون، محمد عبد الحميد بيضون، جورج افرام، إيلي حبيقة، أيوب حميد، محمد فنيش، ألان طابوريان وجبران باسيل . يراجع نفسه. ثمة ما يدفعه لاستثناء جورج افرام.
لن يقنعه أحد في العالم بأسباب توقف الدولة اللبنانية عن الاستثمار في إنتاج الكهرباء. المعادلة بسيطة بالنسبة إليه. سكان لبنان يزدادون يوماً بعد آخر. واستهلاكهم للطاقة يرتفع. ولا مجال لتلبية الطلب إلا بزيادة الانتاج. فأي عقل تفتقت عبقريته وقفاً لإنشاء معامل لإنتاج الكهرباء؟ لا أحد يعلم. مناصرو رفيق الحريري يتهمون النظام السوري ورجاله في لبنان بعرقلة مشاريعه. وخصوم الحريري يتهمون الأخير بتدمير القطاع تمهيداً لبيعه وشرائه. هذا الجدال لا يهم الصاعد على الدرج مقهوراً. كلهم مسؤولون.
■ ■ ■
في إحدى البقاع النائية من لبنان، كان ثمة بلدة لا تنقطع فيها الكهرباء. لكن قبل أشهر، بدأت العتمة تتسلل إلى تلك القرية وأخواتها، بعدما تعطل محول الكهرباء الرئيسي الذي يغذّي المنطقة. لم يحتمل الضغط. ما العمل؟ أيام قليلة وظهرت الحقيقة. مشكلة هذه القرى زيادة الاستهلاك. الحل بسيط إذاً. تبديل المحوّل. لكن القصة لم تنته هنا. فقد بيّنت الإحصاءات التي أظهرها بعض العاملين في قطاع الكهرباء أن القرية التي تنعم بالكهرباء فيها هدر للطاقة بنسبة 80%. بكلام آخر، 80% مما تستهلكه تلك البلدة من الكهرباء مسروق. وفي القرى المجاورة، تراوح نسبة السرقة بين 40 و70%.
■ ■ ■
في بقعة نائية ثانية من لبنان، وقع خلاف بين رئيس المجلس البلدي لإحدى البلدات الكبيرة، وأصحاب المولدات، على خلفية التسعيرة. لم يجد رئيس البلدية سبيلاً للضغط على رؤساء البلديات سوى أن يقصد الموظف المسؤول عن توزيع الطاقة في منطقته، ليرشوه بمبلغ ألفي دولار أميركي، لقاء أن يمنح الموظف بلدة «الريس» الوقت الأقصى من الكهرباء خلال شهر كامل. علم أصحاب المولدات بما جرى، فتوجهوا نحو الموظف «لإكرامه». في اليوم التالي، اتصل الموظف بالريّس قائلاً: دفعوا لي 20 ألف دولار لأقطع الكهرباء عن بلدتك، هل تزيد؟
■ ■ ■
الفساد أينما كان. من الطبقة السياسية إلى المؤسسات العامة، وصولاً إلى جزء لا بأس به من المواطنين. «وينيي الدولة؟» الدولة قادرة على منع التعديات، يؤكد الوزير جبران باسيل. وثمة مشروع للتوزيع لا يضمن وقف التعديات فحسب، بل يسمح لمؤسسة الكهرباء بالتحكم بالطاقة، وخفض التعرفة في ساعات محددة من الليل، وخفض قوة التيار في غير ساعات الذروة. كل ذلك ممكن، وهو مشروع أنجز على الورق، ويحتاج إلى أربع سنوات لإنجازه على مساحة الأراضي اللبنانية. لكن المشكلة ليست هنا. وضع الكهرباء في لبنان لا يبشر بالخير. نزف مالي تجاوز عتبة الأربعة مليارات دولار سنوياً، ومرشح لأن يصل إلى 10 مليارات خلال سنوات قليلة. لكن الأرقام لا تهم من يذلّهم التقنين يومياً. فما الذي تعد به اللبنانيين خلال العام المقبل بعدما صار مبلغ الـ 1.200 مليار دولار في عهدتك بموجب قانون؟ «كل معاملة بحاجة إلى 20 توقيعاً. وفي كلّ دائرة نجد من يعرقل عملنا. والكارثة التي ستقع لن تترك أي مجال آمناً: المالية العامة، الاقتصاد وصورة البلاد، حياة الناس ومعيشتهم، والأكثر من ذلك، المشكلة الميثاقية». والعبارة الأخيرة هي تمويه للعبارة اللبنانية الشهيرة: «مشكلة طائفية». فبحسب باسيل، «المناطق المسيحية تسجّل النسبة الأعلى من الالتزام بدفع بدل الكهرباء». ثم يستدرك قائلاً: «لكن هذا لا يعني بأن المناطق الأخرى لا تدفع. أنا أتحدث عن النسب الإجمالية. فبعض المناطق ذات الغالبية المسيحية لا تدفع بنسبة مرتفعة. والأمر ذاته ينطبق على مناطق تسكنها غالبية من الطوائف الاخرى».
ويرى باسيل أن ما يحول دون الانفجار هو التعاون بين جميع الوزارات المعنية، وبين الحكومة ومجلس النواب، وتنفيذ عدد من المشاريع الملحة، كخط الغاز وخط المنصورية والمباشرة بخطة التوزيع، إضافة إلى استئجار البواخر. لا يعترف وزير الطاقة بوجود مشكلات مستعصية في بعض المناطق المحرومة من الساعات المخصصة لها ضمن برنامج التقنين: «ففي هذه المناطق، ثمة مشكلتان، إما الاعطال العادية التي تصلحها المؤسسة مباشرة، أو تلك الناتجة من التعديات على الشبكة. عملياً، وعدا المشكلة الوطنية العامة، لا توجد مشكلات إضافية سوى في مناطق التعديات». وبماذا يعد وزير الكهرباء اللبنانيين في العام المقبل؟ «إذا لم يتعرض المشروع للعرقلة، فسيشعرون في نهاية العام المقبل بتحسن ملحوظ، وسيرون المعامل الجديدة قد بوشر بناؤها. وأنا متأكد أننا سننجز خطتنا الإصلاحية لقطاع الطاقة على المدى البعيد. أما إذا عرقل البعض مشروعنا، فلا أعدهم سوى بالدموع».
إقليم الخروب يريد «حق الشفعة»
أهالي إقليم الخروب، جيران معامل الجية وبسري وعلمان، لا ينعمون بالكهرباء. لا يطالب هؤلاء بالتمييز عن المواطنين اللبنانيين «بس شوية عدالة ما بتشكي من شي»
فاتن الحاج
لا يشفع لأبناء إقليم الخروب وقوع ثلاثة معامل لتوليد الكهرباء في النطاق الجغرافي لمنطقتهم، بل لم يكن ذلك يوماً سبباً كافياً وضرورياً لكي ينعموا بساعات عادلة من التغذية الكهربائية. لكن المعادلة «غير المتكافئة» لا تقنع الأهالي. سكان محلة زاروت مثلاً، جيران معمل الجية الحراري، لا يصدقون كيف أن «المعمل بوجنا وبتضل الكهرباء مقطوعة». يطالب هؤلاء بما يسمونه «حق الشفعة، إنو مش بيكفي عم منتحمل ضرر المعمل وتلوثه، كمان ما في كهرباء؟».
يقطع جواب أحد الموظفين في المعمل الشك باليقين حين يشرح «أنه لا علاقة لنا بإنارة المنازل؛ فالأمر ليس من مهمة المعمل؛ لأنّ الأخير يعطي الكهرباء لمحطات التحويل لتوزعها بدورها بالطريقة التي تراها مناسبة»، كاشفاً أنّ «معمل الجية يشغّل خمس ماكينات، والطاقة التي ينتجها full، إذ توازي 150 ألف كيلو فولت». يقول الموظف: «إننا نبلّغ ذلك كل من يأتي إلينا ليحتج على انقطاع الكهرباء، فالمعمل ليس المكان الصائب للشكوى والاعتصام». مسؤول محطات التحويل الرئيسية في صيدا عارف مكاري، يوضح هو الآخر أنّ المعامل مرتبطة مبدئياً بشبكة واحدة، وليس هناك معمل يغذي منطقة، مشيراً إلى أن الحل ليس بأيدي محطات التحويل، بل يحتاج إلى قرار من وزير الطاقة وإدارة مؤسسة كهرباء لبنان. أما بالنسبة إلى إقليم الخروب، فتغذيه محطتا سبلين والدامور. لكن مِن الأهالي من يقول «بالزوق المعمل هونيك والكهرباء 24/24».
إذا كانت محطة تحويل الكهرباء في سبلين، فهل تحظى هذه البلدة بالتمييز عن غيرها من بلدات الإقليم؟ ينفي ذلك رئيس بلدية سبلين محمد خالد قوبر، فالتقنين لا يختلف عن القرى الأخرى، «وإن كانت البلدية قد سعت إلى توفير مولّدين كهربائيين بمساعدة بعض الخيّرين، لكن البلدة التي تعد 20 ألف نسمة تحتاج إلى 10 مولدات كي ننير كل المنازل». يطمع الرجل بتوزيع عادل بين بيروت والمناطق، وخصوصاً «أني أكاد أجزم بأنّه ليس هناك أي مرتجع في جداول الجباية الشهرية لمؤسسة كهرباء لبنان، فيما تكاد تكون نسبة التعديات على الشبكة العامة شبه معدومة».
«كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء من فوق ظهرها محمول»، هكذا يوصّف رئيس اتحاد بلديات إقليم الخروب الشمالي محمد حبنجر واقع الكهرباء في المنطقة، أي إنّها «تمر من تحت أقدامنا ولا ننعم بها». يسارع إلى القول: «ما بدنا تمييز، بس شوية عدالة ما بتشكي من شي». يبدو الرجل مقتنعاً بأنّ اللجوء إلى السلبية وحرق الدواليب لن يزيدا ساعات التغذية دقيقة واحدة. لذا، فالاتحاد يبحث عن حلول عملية لحل المشكلة. ويكشف هنا أنّنا «أعددنا في مرحلة من المراحل دراسة بشأن استفادة 60% من قرى الإقليم من معمل شارل الحلو في بسري، ما يوفر الكهرباء 24/24. يومها، توسط النائب وليد جنبلاط لدى الرئيس سعد الحريري لتوفير تكاليف المشروع التي قدرت، بحسب الدراسة، بمليونين و300 ألف دولار أميركي. لكن حبنجر تبلغ بعدها من نائب تيار المستقبل محمد الحجار «إنو المشروع مش ماشي». لا يبدو رئيس الاتحاد متفائلاً بشأن مستقبل الكهرباء في لبنان؛ لأنّ «الذهنية التغييرية مفقودة».
في المقلب الآخر، ثمة قرى في إقليم الخروب استفادت في سنوات ما بعد الحرب من معمل بسري، فكانت الكهرباء تؤنسها 24/24 ومن هذه القرى قسم من مزبود، المغيرية، جون، الجميلية، مجدلونا، علمان، دير المخلص، المحتقرة وغيرها.
منذ سنة واحدة تقريباً، لم يعد هذا الوضع قائماً، وتحديداً حين تقرر تغذية قضاء جزين وقراه من معمل بسري، بعدما كانت تأخذ الكهرباء من صيدا. لماذا؟ «لأنو الوزير جبران باسيل ما بدّو أسود وأبيض بدّو يعاملنا بالتساوي»، يقول مختار بلدة المحتقرة جوزيف فارس. لكن أهالي البلدة لم يكونوا جاهزين لانقطاع الكهرباء 20 ساعة في اليوم الواحد. ليس هناك حتى الآن اشتراكات في مولدات كبيرة، فكل منزل اختار أن يشتري «موتوراً» صغيراً خاصاً به.
ليالي الشمال الحزينة: الاحتجاج وإضرام النيران
التحركات الاحتجاجية على انقطاع التيار الكهربائي باتت جزءاً من يوميات أهالي الشمال. لا محاذير سياسية تمنع أبناء هذه المنطقة من النزول إلى الشارع والتعبير عن غضبهم، وخصوصاً أن البدائل المتوافرة لحلّ مشكلة الكهرباء لا تسمن ولا تغني من جوع
عبد الكافي الصمد, روبير عبد الله
مطلع الأسبوع الجاري، خرج بعض الشبّان من مناطق باب التبانة والقبّة وباب الرمل إلى الشوارع، احتجاجاً على برنامج تقنين التيار الكهربائي القاسي الذي يعيشونه، فسدّوا الطرقات بإطارات السيارات ومستوعبات النفايات، ثم أضرموا فيها النيران. هذا المشهد بات عادياً في عاصمة الشّمال، ولا يكاد يمرّ يوم في المدينة إلا تشهد إحدى مناطقها الشعبية حراكاً من هذا القبيل.
وقد تميّزت التحركات الاحتجاجية في الشارع بأمرين: الأول أنها اتخذت منذ سنوات طابعاً سياسياً واضحاً، ذلك أن أغلب من كانوا ينزلون إلى الشارع كانوا موالين لتيار المستقبل. أما الأمر الثاني، فهو اقتصار هذه التحركات على المناطق والأحياء الفقيرة، وأي محاولة لنقلها إلى الأحياء الحديثة التي يسكنها سياسيون وأغنياء كانت تقابل بتدخل قوي وفوري من قوى الأمن لقمعها.
لكن هذه الصورة لم تلغ واقع أنّ طرابلس تعيش حالياً في ظلّ تقنين قاسٍ للتيار الكهربائي انعكس على حركتها التجارية بنحو لافت؛ إذ ازدهرت تجارة توفير التيار عبر الاشتراك في المولدات الكهربائية الخاصة التي بات لها أربابها.
حاجة المواطنين إلى التيار الكهربائي من جهة، وعدم قدرتهم على دفع بدل الاشتراك من جهة أخرى، دفعا بعض «القبضايات» إلى ابتكار حلّ «مثالي» بالنسبة إليهم، هو فرض أنفسهم بالقوة على أصحاب المولدات، إما بدفعهم بدلاً مالياً متدنياً، أو عدم دفعهم أي مبلغ.
هنا وقع الإشكال. ففي أكثر من حيّ ومنطقة طرابلسية، ولا سيما، حصلت أخيراً إشكالات بين «زبائن» من هذا النوع مع أصحاب المولدات، كانت نتيجتها إذعان هؤلاء للأمر الواقع الذي يواجهونه، لكن مع خفض ساعات التغذية بكهرباء المولدات لخفض التكلفة عليهم؛ لأنهم لا يستطيعون تحمّل خسارة مزدوجة. وهذا ما تظهر تداعياته بوضوح في المناطق الشعبية، حيث تبدو البيوت التي تنعم بكهرباء المولدات أشبه بجزر معزولة يلفها الظلام، بعدما نقل أصحاب المولدات أعمالهم إلى المناطق الحديثة، التي لا تبدو ليلاً متأثرة بانقطاع الكهرباء عنها.
خارج طرابلس، في المنية والضنية تحديداً، كان للمشهد خصوصية أكبر، حيث لا اشتراكات في المولدات الخاصة إلا نادراً، ما جعل الأهالي الذين لا قدرة لديهم على شراء مولد خاص من الحجم الصغير أو المتوسط، يعمدون إلى تركيب بطاريات توفّر لهم إنارة مقبولة، أو العودة إلى استعمال مصابيح الغاز والكاز، من غير أن يلغي ذلك مشاهد الاحتجاج.
ففي الضنية، كانت مشاهد قطع الطرقات احتجاجاً على انقطاع الكهرباء، بين 10 إلى 16 ساعة يومياً، أقل مما هي في طرابلس؛ إذ كانت فاعليات المنطقة تتدخل في كل مرة وتنهي حركة الاحتجاج سريعاً، وحجتهم في ذلك أن «قطع طرقاتنا يضرّنا وحدنا، وإذا أردتم أن يكون لتحرككم نتيجة، فاذهبوا واعتصموا أمام شركة كهرباء لبنان أو وزارة الطاقة».
في المنية خصوصية إضافية؛ ذلك أن أهالي المنطقة اعترضوا على خضوعهم لبرنامج التقنين تحت حجة أن وجود معمل دير عمار في المنطقة، يفترض أن يجعلهم يحصلون على امتياز أكبر من بقية المناطق، لأنهم يتحمّلون تبعات تأثيره بيئياً وصحياً عليهم، وبالتالي يجب أن يُعوّض عليهم من خلال توفير التيار لهم على مدار الساعة. غير أن السجال الذي دار بنحو غير مباشر بين أهالي المنطقة والوزير جبران باسيل، سرعان ما جرى احتواؤه، وكانت نتيجته بعد ذلك أن أصبحت المنية مثلها مثل بقية المناطق اللبنانية، تعيش تحت رحمة التقنين إلى أجل غير مسمّى.
الأمر غير مختلف في عكار، وإن كان معظم أبنائها يردّون أسباب التقنين إلى خلفيات سياسية. معاناة المواطنين واحدة مع الاشتراك، وإن أضيفت إليه فكرة استخدام العدادات لخفض الفاتورة، ليتبيّن في النهاية أن العدادات لا توفر في سعر الكهرباء بقدر ما تدفع بالمشتركين إلى مزيد من التقتير في صرفها. وكانت بعض المناطق العكارية قد ابتدعت، قبل وضع العدّادات، أساليب مبتكرة لخفض الكلفة؛ إذ بدل اشتراك الخمسة أمبير، فليكن الاشتراك 3 أمبير، على أن تقتصر الاستفادة من التيار على إنارة مدروسة للمنزل. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، كما تقول ريما الضناوي: «كانت قيمة الاشتراك الشهري نحو 40 ألف ليرة، لكن المشكلة أن صاحب المولد قرر تركيب عدادات، فإذا بالفاتورة الشهرية تتخطى مئة ألف ليرة!».
فواتير المولدات باهظة جداً، مقارنةً بالمداخيل المحدودة في عكار، وتدخّل البلديات لخفضها بقي ضمن حدود سطحية. ويُطرح السؤال عن أدوار البلديات التنموية الفعلية، وخصوصاً في ظلّ وجود تجربتين، إحداها مشجعة وناجحة جداً، والأخرى فاشلة. ففي بلدة جبرايل اتفقت البلدية مع مجلس الرعية على تشغيل مولد لـ 145 مشتركاً، ومع حلّ البلدية استقل مجلس الرعية بعملية التشغيل. وببساطة، يقول كاهن رعية جبرايل، الأب طوني الجمال، أن لجنة، كوّنها مجلس الرعية مع فاعليات البلدة، كلفت عاملاً للصيانة بأجر شهري يبلغ 600 ألف ليرة، ويجبي موظف في البلدية الاشتراك الشهري مقابل مئتي ألف ليرة. هكذا بلغت قيمة الاشتراك في الشهر الماضي عن الخمسة أمبير مئة ألف ليرة، بينما تجاوزت في البلدات المجاورة مئة دولار. أما في جديدة الجومة، فلم تستطع البلدية منافسة أحد المولدات الخاصة؛ إذ بلغت قيمة فاتورة مولد البلدية مئة دولار في الشهر الماضي. وتقول أمينة صندوق البلدية إن الجابي يتقاضى مئتي ألف ليرة، ولا يوجد عامل صيانة، ومع ذلك تضطر البلدية من وقت لآخر إلى دفع صيانة المولد من موازنتها.
تحسّن في عكار... بسبب وعد؟
يبدو أن تحسناً ملحوظاً طرأ على ساعات التغذية في أغلب المناطق العكارية أخيراً، عزاه مصدر في مؤسسة كهرباء لبنان في حلبا إلى وعد كان قد قطعه المدير العام لكهرباء لبنان بزيادة ساعات التغذية في عكار، وذلك خلال اجتماع عقد معه قبل أسبوع.
غير أن الفاعليات العكارية تنظر بعين الريبة إلى ذلك التحسن، وتخشى أن يستمر فقط حتى انقضاء الأعياد، ليعود إلى سابق عهده. «الأمور رهن بالأيام القادمة»، يقول ناجي رمضان، رئيس بلدية مشتى حمود، الذي أفاد في اتصال مع «الأخبار» بأن «وضع الكهرباء دون الوسط في فترة الأعياد، وهو أمر مقبول مع ذلك، لكن إذا عاد التقنين إلى سابق عهده، فإن تحركات واسعة ستشمل كل منطقة عكار، وسيكون هناك قطع للطرقات واعتصامات وتحركات على الصعد كافة، وسيشارك في التحركات نواب ورؤساء بلديات وصولاً إلى الاعتصام داخل شركة الكهرباء».
يهدّد أهالي عكار بالعودة إلى الاحتجاجات في حال عودة التقنين القاسي (أرشيف ــ كامل جابر)
تعليقات: