نمرة مرتضى: شاهدة على مجزرة حولا عام 1948
عاشت نمرة مرتضى، أكبر معمّرة في لبنان، طفولة قاسية تمنت بعدها لو تتزوج برجل غني وتشتري الأراضي الزراعية. لكن زوجها الذي عمل في الجيشين الفرنسي واللبناني استطاع أن يعوض عليها سنوات الحرمان، فرزقت ثمانية أولاد و141 حفيداً
حولا | إذا كانت الأميركية بيسي كوبر قد احتفلت بعيد ميلادها الـ115 في أيلول الفائت، لتصبح أكبر معمّرة في العالم بعد وفاة البرازيلية ماريا غوميز فالنتين، فإن الجنوبية نمرة حمد مرتضى هي أكبر معمرة في لبنان والشرق الأوسط. قبل 111 عاماً، ولدت مرتضى في حولا، حيث لم تمح السنوات الكثيرة مآسيها المتعددة؛ فهي لا تزال تبكي طفولتها الصعبة ويتمها المبكر جداً؛ إذ توفيت والدتها وهي في الشهر السادس، فكبرت لا تعرف وجهها، حتى في الصورة؛ فالكاميرا لم تكن قد دخلت بعد قاموس أبناء المنطقة الجبلية الوعرة القريبة من الحدود مع فلسطين التي كانت يومها تحت الحكم العثماني.
تتذكر مرتضى بحرقة الطفولة ما قاله لها والدها حين سألته عن أمها؛ إذ أجابها: «أخوالك طلبوا من والدتك أن تذهب معهم في رحلة إلى مدينة حوران، فأبت أن تتركك، لكنهم أقنعوها بأن تودعك عند جدتك، وهكذا كان. لكن مرضاً ألمّ بها فجأة أدى إلى وفاتها، فدفنت هناك». وتقول: «حياتي مع زوجة أبي وعملي المضني في الأراضي الزراعية عند الإقطاعيين لم يكونا أقل قساوة».
كان زمن المجاعة، وكانت مرتضى في بداية صباها، عندما وعدها والدها بتزويجها رجلاً يصونها. لا تزال تتذكر كلماتها جيداً يومها «المهم أن يكون غنياً وليس راعياً ليبعدني عن شبح الجوع». تقول عباراتها بصورة متقطّعة، وكأن هذا التاريخ كان حاسماً في حياتها. لكن الرياح جرت بغير ما تشتهي، وتزوجت وهي في الرابعة عشرة رجلاً فقيراً يدعى حبيب قاسم، أصبح في ما بعد من أوائل العسكريين مع الجيش الفرنسي.
كان راتب زوج مرتضى في الجيش الفرنسي كافياً لتوفير عيشة راضية، كما تقول، «وكنت أنتقل معه من مكان إلى آخر بحسب مكان خدمته العسكرية، ما سمح لي بالتعرّف إلى أماكن كثيرة بعكس أبناء البلدة».
تنتقل للحديث عن مجزرة حولا فتقول: «لقد طلب مني أحد الجنود اليهود أن أذهب إلى الساحة، حيث يصطفّ الرجال، لكن أحداً قال له اتركها وشأنها، فهي تحمل طفلاً على كتفها. شاهدت المجزرة بأم عيني، وشاهدت كيف سقط أحد رجال البلدة أرضاً إلى جانب الشهداء، وادّعى أنه ميت، وبعد انسحاب الصهاينة قام وفرّ هارباً باتجاه بلدة شقرا. يومها حملت أطفالي وهربت باتجاه شقرا. كنت أحمل ولدين، وأقترب بهما إلى مكان معين ثم أعود لأحمل ولدين آخرين، وهكذا إلى أن وصلت إلى شقرا، وبعدها انتقلت إلى النبطية ثم إلى مرجعيون حيث كان زوجي يؤدي خدمته العسكرية».
يقاطع محسن قاسم والدته ليقول: «والدي كان من طلائع الجيش الفرنسي ومن أوائل الذين انضمّوا إلى الجيش اللبناني، والموظف الوحيد في البلدة، وقد شارك في حرب 1948 ضد إسرائيل وحصل على ميداليات كثيرة. كان راتبه آنذاك نحو 20 ليرة، ولم يكن يتقاضى تعويضات عائلية، لكن الجيش كان يقدّم له هدية رمزية عند ولادة كل ولد، هي عبارة عن لعبة صغيرة، وقد كان راتبه 236 ليرة عندما أصبح في سن التقاعد في عام 1961. يومها، لم تكن أجرة العامل تزيد على ربع ليرة».
بعد التقاعد، ساعدت مرتضى زوجها في «مصروف البيت»، فراحت تبيع ما تيسّر من ثمار التين والعنب، واستطاعت أن تدخر جزءاً من راتب زوجها ليشتري الأراضي الزراعية التي كانت تحلم بها.
تعاني أم محمد اليوم من مرض خبيث، لكنها لا تزال تقوى على الكلام والسير على قدميها. ربما كانت معاناتها في صغرها سبباً في قوتها الجسدية؛ فقد أصبحت في ما بعد مرشدة للأهالي في فنون الطبخ والحلويات المنزلية؛ إذ كان تنقل مرتضى من مدينة إلى أخرى سبباً في تعلمها الكثير من حياة المدينة، حيث استعان بها أبناء القرية كثيراً في عمليات التوليد التي كانت تجري في المنازل على أيدي صاحبات الخبرة.
لا تزال مرتضى تفضل العيش في منزلها القديم، لكن أولادها يفضلون أن تعيش معهم؛ فهي تنتقل من منزل إلى آخر من منازل أبنائها. تحدّث أحفادها الصغار عن قصص حياتها المشوّقة، وإن كانت تخلط الجديد بالقديم، لكنها حتماً أقوى وأصلب من كثيرين لم تتجاوز أعمارهم مئة عام.
تعليقات: