حماية الجسم تبدأ مع حماية الأسنان
هل يمكن أن تتخيّل دواءً للسرطان لا مواد فاعلة فيه، ومكوّناته ليست سوى الماء؟! وماذا تقول عن مضادات حيويّة تحوي كبسولاتها على بودرة التالك فقط؟ وماذا عن أدوية مركّبة من كميات قليلة جداً من المواد الفاعلة لا تكفي للقيام بدورها المطلوب، في حين تحوي أخرى مواد سامة قد تودي إلى الموت؟ هكذا هي الأدوية المزوّرة التي تشكّل بحسب إدارة الغذاء والدواء الأميركية (FDA) عشرة في المئة من مجمل السوق العالمية للدواء، مع العلم بأن أكثر البلدان المتضررة منها هي دول العالم الثالث حيث تشكل 25 في المئة من سوقه هذه الدول.
وفي تقريرها الأخير حول الأدوية المزوّرة، والصادر في تشرين الثاني ,2006 أوضحت منظمة الصحة العالمية أن أعداد هذه الأدوية مطروحة في جميع الأسواق وكمياتها تزداد كل عام مع تطوّر وسائل التزوير والتقليد وبيعها إما عن طريق اختراق قنوات التوزيع التقليدية الرسمية أو عن طريق الترويج لها عبر الإنترنت، وذلك من خلال شبكات عالمية ناشطة ومنظمة. وعلى الرغم من أن جميع الدول سنت قوانين تحظّر استيراد الأدوية المزوّرة، إلا أن شبكات التزوير تعمل على إدخالها حيثما تشاء بأساليب مختلفة. وتشكل إفريقيا، وأميركا اللاتينية، والهند والصين أهم بلدان منشأ هذه الأدوية.
وبهدف تسليط الضوء على هذه القضية التي تمس، إلى جانب المرضى، الشركات الكبرى المنتجة للأدوية التي يتم تزويرها، نظمت مختبرات سانوفي - أفنتيس بالتعاون مع الاتحاد الدولي لنقابات الصيادلة الفرنكوفونيين (CIOPF) ورشة عمل ضمت أطرافا عدة معنيين بالموضوع في لبنان.
وكان تقرير منظمة الصحة العالمية الأخير تناول الوضع في لبنان بالاستناد إلى ما أعلنته «الهيئة الوطنية الصحية» في العام 2004 عن أن 35 في المئة من المواد الصيدلانية المطروحة في الأسواق اللبنانية مزوّرة. في المقابل يشير المدير العام لسانوفي - أفنتيس (لبنان، سوريا والأردن) الدكتور أحمد ياقوت الى «أنه لا يمكن إعطاء رقم دقيق عن الأدوية المزوّرة المتوفّرة في الأسواق اللبنانية.. نعرف فقط أنها تشكل ما بين 6 و 12 في المئة من حجم السوق العالمية، وهو رقم ضخم.. وقد يكون الرقم في لبنان مماثلاً أو أكبر».
ويوضح ياقوت أنه بما أن الأدوية ليست سلعا عاديّة، بل تشكل تهديداً على الصحّة، فإن من يقوم بتزويرها لا يفعل ذلك بنيّة طيّبة إنما من أجل ربح مالي سريع. لذا فهو يزوّر الأغلى ثمناً فيطال عادة أمراض السرطان والقلب، والسكّري وما إليها. ونحن نحاول مع المعنيين القيام بكلّ ما يمكننا للحدّ من ذلك، مشددا على كلمة الحدّ وليس «وقف» «لأن هذه كلمة كبيرة ولها فعل كبير لسنا بحجمه».
ويعتبر الصيدلي والأستاذ الجامعي الفرنسي الدكتور جان - بيار فوشيه، «أن تزوير الدواء هو مشكلة كبرى في العالم. وتعرف منظمة الصحة العالمية الأدوية المزوّرة بأنها أدوية تحمل عمداً لصيقة لا تشير إلى هويّتها ومصدرها الحقيقيين. والتزوير يستهدف عادة الأدوية البديلة (أو الجنيسية التي تصنّع بعد أن تنتهي مدّة براءة الاختراع للدواء الأصلي) لكنه يطال أكثر الأدوية الأصلية».
ويشرح فوشيه «أن التزوير يأتي تحت أشكال مختلفة:
- من خلال تقديم و/أو مكوّنات كيميائية مطابقة وهنا نتكلّم عن «نسخة».
- في غالبية الأحيان تختلف المكوّنات مع تسجيل مقادير منخفضة من المادة الأوليّة، لكن يمكن أن نسجّل في بعض الأحيان وبشكل عرضيّ مقادير زائدة ويعود ذلك إلى عدم المراقبة والضبط المناسبين.
إلى ذلك، هناك أيضاً المواد الخطرة كالملوّنات. فتقديم دواء يشبه الأصلي لا بدّ من أن يتم بإضافة الألوان اللازمة، وغالباً ما تكون هذه المواد من المعادن الثقيلة السامة«.
ويشير فوشيه إلى أن الجمارك الأوروبيّة صادرت في العام 2006 شحنات مختلفة بلغت حوالى ثلاثة ملايين علبة دواء. ويقدّر ارتفاع كمية الأدوية المزورة بين عامي 2005 و2006 بنسبة 384 في المئة. وهي تأتي من الهند (31 في المئة) و الصين (20 في المئة) ومن مناطق أخرى كتايلاند، الفيليبين، النرويج، الولايات المتحدة، باكستان (18 في المئة ) وبلدان أخرى. إلى ذلك، فإن الإمارات العربيّة ليست مصنّعاً لكنها تشكّل نقطة عبور أو «ترانزيت» باتجاه الدول الأوروبية بشكل خاص عبر المنطقة الحرة في «جبل علي».
صعوبة كشف التزوير
من جهته، يعبر المحامي وليد ناصر عن خوف شخصي من تناول الأدوية ويرى ضرورة التدقيق بالدواء قبل شرائه لأنه لم يعد من السهل التمييز بين الدواء الحقيقي والدواء المزوّر. ويتحدّث ناصر عن الدواء المزوّر الذي هو نسخة تشبه إلى حدّ كبير بشكلها الخارجي النسخة الأصلية، وتأتي العلبة والألوان والاسم التجاري وشكل الحبّة مطابقة للدواء الأصلي بهدف غش المستهلك. وقد عرض خلال ورشة العمل عددا من علب الأدوية المزورة التي تشبه إلى حد التطابق العلب الأصلية.
ومن وجهة نظر قانونية، يشرح ناصر أن الدواء المزور لا يمر على وزارة الصحة بل يصل إلى السوق اللبنانية مباشرة ومشابهاً للدواء الأصلي المسجّل في الوزارة ويوزّع على هذا الأساس.
كل ذلك يتم بوجود قوانين محلية وعالمية سنت لمكافحة هذه الآفة ووضع حدّ لانتشارها. ويشرح ناصر أنه «على الصعيد المحلي لدينا قانون براءة الاختراع (العام 2000) وقانون حماية حقوق المؤلف، العلامات التجارية، النماذج الصناعية والمزاحمة غير المشروعة. أما على الصعيد الدولي، فهناك اتفاقية TRIPS وهي جزء من معاهدة الدخول إلى منظمة التجارة العالمية، واتفاقية PCT ولبنان وافق عليها لكن انضمامه لم يصبح نافذاً بعد، وبالتالي لا يمكن تطبيقها عندنا».
وبالتالي، فإن طرح هذه الأدوية المزورة في السوق يعرض الفاعلين لملاحقات قانونية فهم يخالفون عددا من القوانين منها:
- استخدام الاسم التجاري نفسه يخالف قانون العلامات التجارية في لبنان (العام 1924) وعقوبة هذه المخالفة جزائية تصل إلى ثلاث سنوات سجنا وغرامات مالية. وبما أن القانون قديم فإن الغرامات منخفضة ويتم العمل الآن في وزارة الاقتصاد على رفع قيمتها.
- الشكل الخارجي (العلبة): قانون النماذج الصناعية (العام 1924).
- المزاحمة غير المشروعة، وهي تشكل السلاح الأكثر فعالية في لبنان لمحاربة الدواء المزوّر.
وينتقد ناصر ضعف الملاحقة القانونية والقضائية في لبنان والتي «ليس لديها بعد الحسّ الكافي لاتخاذ قرارات صارمة في وجه هذه الآفة وهذا الجرم الذي يرتكب». ويشير إلى أن القوانين المرعية الإجراء في لبنان ليست سيّئة، لكن المشكلة تكمن في التطبيق الحقيقي والجاد.
نصّور: لا داعي للهلع
وبصفته رئيس القوة الخاصة في الاتحاد الفرنكوفوني لمحاربة الأدوية المزوّرة، يشدّد الدكتور زياد نصّور، نائب رئيس الاتحاد الدولي لنقابات الصيادلة الفرنكوفونيين ونقيب صيادلة لبنان سابقاً، على عدم إثارة الهلع.. فهذا الموضوع يشمل كل بلدان العالم بما فيها بريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية.. يقول نصور «دعونا لا نجلد أنفسنا». لكنه يؤكّد أنه «إذا كان هناك علبة واحدة مزورة في مكان واحد فقط، فهذا أمر يعنينا لأن هناك شخصا واحدا سيتأذى من ذلك».
ويوضح أن «القول إن دواء ما مزوّر لا يعني أنه لم تدفع الرسوم الجمركية الخاصة به ولا هو دواء سعره أرخص بالضرورة. بل هو ليس دواءً. فصحة الإنسان هي التي يطالها في الأساس والدواء ليس سلعة تجارية». لذا يعتبر أن هناك مشكلة تتعلّق بالمفاهيم حول معنى الدواء بالنسبة للصيادلة كمادة خطرة للعلاج والمريض كإنسان يحتاج للعلاج، فيما هي بالنسبة لآخرين سلعة تجاريّة وزبون نستفيد منه مادياً. أما الصيدلي الذي درس لمدّة ستّ سنوات وخضع لكلّ الاعتبارات ليكون مسؤولاً عن الدواء وعن صحة الإنسان فهو ليس صاحب دكّان».
ويرى نصور ضرورة لوجود مختبرات متخصّصة أو على الأقل إعادة إحياء المختبر المركزي وإنشاء إدارة خاصة في لبنان على غرار «إدارة الغذاء والدواء» FDA في الولايات المتحدة و«الوكالة الأوروبية لتقييم المنتجات الدوائية» EMEA في أوروبا اللتين تحدّدان كسلطة ما إذا كان دواء ما صالحا للطرح على أراضيها. أما الآن فليس لدينا سوى وزارة الصحة لتحديد ما هو الدواء الجيد..
ويشرح أنه «في السياق القانوني، اللجنة الفنية في وزارة الصحة تسجل الدواء. لكن، يمكن للوزير أن يوقع على دواء ما من دون أن يكون مراقبا. هذا يعني أن الدواء لم يسجّل، لم يمرّ على اللجنة الفنيّة ولم تتم دراسة ملفّه. وهذه الخطوة سياسية.. «أدخلنا دواء أرخص وبالتالي ربحنا شعبية أكبر». ليس هناك بلد في العالم يدخل دواء من دون مراقبة وفقط بتوقيع سياسي. إلى ذلك، تدخل المستشفيات من جهتها بعض الأدوية بهدف إجراء تجارب علمية مثلاً».
وعن العوامل التي تساهم في ترويج الأدوية المزوّرة، يتحدّث نصور عن: العامل الاقتصادي (الدواء باهظ الثمن وبالتالي يؤمن ربحا كبيرا)، المضاربة غير المشروعة، الفساد، القوانين الضعيفة أو غير المطبقة، الاستيراد الموازي (المشرّع في لبنان)، المناطق الحرّة في المرافئ الجوية والبرية والبحرية، الانترنت بالإضافة إلى الخدمة إلى المنازل والتي من خلالها تسهل عملية تسويق الدواء المزوّر.
وعرض نصّور لدراسة أعدتها شركة «أبوت» للأدوية التي بينت أنه إذا ما تمّ تزوير عملة بقيمة ألف دولار فإن الربح من ورائها يبلغ 3300 دولار؛ والربح من البطاقة مصرفية هو 6700 دولار، والهيرويين ربحه 19 ألف دولار، والسجائر ربحها 43 ألف دولار، وبرامج المعلوماتية من 40 إلى مئة ألف دولار، أما دواء بقيمة ألف دولار فيقدم ربحا بقيمة 500 ألف دولار.
الجمارك تحركها الشكوى
وتتطلب عملية مكافحة التزوير جهداً كبيراً من جهات عدّة أبرزها الجمارك العامة. ويتحدّث رئيس شعبة البحث عن التهريب في مديرية الجمارك ورئيس مكتب الاتصال المحلي التابع لمنظمة الجمارك العالمية الرائد وليد الهبر، أن «مشكلة البضائع المقلّدة والمقرصنة تتفاقم لتصبح خارج السيطرة ولتفرض تهديداً خطراً مباشراً على الصحة العامة وسلامة المواطنين وكذلك على الاقتصاد الوطني للدول». ويضيف أنه في لبنان وفي غياب الإحصاءات الرسمية، قدّرت جمعية حماية المنتجات والعلامات التجارية في دراسة أعدتها في العام 2004 أن خسائر لبنان من التقليد والقرصنة تتراوح بين 75 مليون ومئة مليون دولار أميركي سنوياً.
وتتوزع مسؤولية تطبيق القانون ومنع التقليد على الجمارك، ومكتب مكافحة الجرائم المالية، ومكتب مكافحة جرائم المعلوماتية في الشرطة القضائية، ومكتب حماية الملكية الفكرية في وزارة الاقتصاد والتجارة، ودائرة التفتيش الصيدلي في وزارة الصحة. يقول الهبر «نحن نتحرّك بناءً على طلب تدخل يأتي بصورة مباشرة عبر القضاء أو من صاحب الحق الذي يقدم شكوى عبر المديرية العامة. وفي ما يتعلّق بالدواء المزوّر، جزائياً تلاحق وزارة الصحّة المستورد، أما الجمارك فتلاحقه مالياً». ولا يتمّ إدخال أي دواء (مساعدات لجمعيات أم استيراد) إذا لم توافق عليه دائرة التفتيش في وزارة الصحة. ويتساءل الهبر عن كيفية تمكن ضباط مكافحة الجمارك من اكتشاف التزوير إذا لم يتوفر خبير معهم ليعلمهم بأن هذا المنتج أو الدواء مقلّد؟ لذا ينبغي أن يقدم صاحب الحق شكوى بوجود بضاعة مقلّدة لبضاعته وإلا فنحن لا نستطيع التحرّك. ويشير الهبر إلى غياب الأحكام الصارمة بحقّ المزورين حتى في ما يتعلّق بالدواء. والحالات التي ضبطنا فيها دواء مزوّرا أتت الأحكام فيها متساهلة في حين أن حماية القانون تتطلّب عقوبات أكثر صرامة.
ماذا يحصل بعد مصادرة أدوية مزوّرة؟ يقول الهبر إن «وزارة البيئة تمنع إتلافها في لبنان. وبالتالي يجب إعادة تصديرها إلى شركات متخصصة خارج البلاد. لكن الأدوية تتكدس أكثر فأكثر اليوم. وعلى الرغم من أن «شرط المصالحة» (بين الجمارك والمستوردين) يقتضي بأن يخرج المخالف البضاعة المزوّرة من البلاد على نفقته، إلا أن ذلك لا ينفّذ».
ويلفت إلى أن أكثر الذين يتاجرون بالأدوية المزورة هم أشخاص من ضمن جمعيات أو يستغلون أسماء جمعيات معيّنة. وبعد اكتشافهم، تسقط الملاحقة الجمركية بمجرّد أن يدفعوا ما عليهم ويوقّعوا صكّ المصالحة، فيما تبقى الملاحقة الجزائية قائمة وتتابعها وزارة الصحة.
وزارة الصحة المسؤول الأول؟
وزارة الصحة العامة هي المعنيّة الأولى بالقضية إلى جانب الجمارك. وتشرح رئيسة قسم التفتيش في الوزارة الدكتورة كوليت رعيدي، «أننا نقوم بعمليات تفتيش روتينية في المستودعات والصيدليات بالإضافة إلى تحقيقات عندما يلزم الأمر». وهي توضح «أن تصنيع واستيراد وتوزيع وبيع الأدوية يحصل بفضل شهادات وتراخيص متخصّصة في مراكز تحت الرقابة الصيدلية. إلى ذلك، فإن شروط الاستيراد واضحة ودقيقة والأدوية المستوردة تخضع للتفتيش عند وصولها إلى مطار بيروت أو مرفئها». وتشدّد رعيدي على ضرورة القيام بتقدير سريع للأدوية المشتبه فيها وتحديد ماهيتها وكمياتها. وعلى الاثر، تنشر الوزارة قرار منع تداول وسحب الدواء من الأسواق اللبنانية ويتم تبليغ المعلومات للدوائر المحلية المعنية في التوزيع وللمتخصصين في مجال الصحة (نقابة الأطباء والصيادلة، نقابة المستشفيات ومستوردي الأدوية) وكذلك منظمة الصحة العالمية، إذ إن هناك تبادل معلومات بيننا. ومن ثمّ يصار إلى تبليغ النيابة العامة ويكلّف التفتيش الصيدلي سحب الدواء المزوّر من الأسواق. أما العقوبات المفروضة على المتورّط بحسب رعيدي فهي «غرامة مالية تتراوح بين عشرة ملايين وخمسين مليون ليرة. أما السجن فيتراوح بين سنة وثلاث سنوات إلى جانب مصادرة المواد المضبوطة. وفي حال ثبت تورّط صيدلي، فهو يمنع من ممارسة المهنة».
وتلفت رعيدي إلى أن مصنّعي الأدوية المزوّرة يتقنون عملهم، لذا تصعب أكثر فأكثر عملية التعرّف الى هذه الأدوية ومقارنتها بالأدوية الأصلية. وتشير من جهة أخرى، إلى أن نقابة مستوردي الأدوية في لبنان لعبت دوراً مهماً في كشف الأدوية المزوّرة وقد وضعت «هولوغرام» (صورة مجسمة) على الأدوية الشرعية كنظام أمان لحماية المريض. لكن يبدو أن المزوّرين بدأوا يقلّدون حتى الهولوغرام، لذا اعتمد صانعو الأدوية الشرعية مؤخرا العلامة الآمنة أو security label وهي عبارة عن علامة إلكترونية تلصق على العلبة ولا يمكن فصلها. لكن هذه التقنيات مكلفة جداً ولها تبعاتها على أسعار المنتج.
أدوية كثيرة ومتنوعة
تعليقات: