كان الحمار في الماضي شريك الإنسان في حياته وجزءً من حاجاته اليومية
وجاء المساء وخلت الشوارع حتى من القطط والكلاب وأعمدة الكهرباء بالكاد ترى نورها نظرا ً لكثافة الضباب الذي احتضن البيوت في ليلية ماطرة في الأماكن المنخفظة والمثلجة على الرتفعات، وكأنّ في الخارج حرب دبابات نظراً لخلو الشوارع والأزقّة من المارة، فالكل عاد الى منزله قبل المغيب حيث السكون، وأنت بجانب الصوبيا، الذي يعمل منها إمّا على المازوت أو على الحطب، وما أجمل رائحة الحطب في هكذا ليالٍ باردة ومثلجة. وهنا الجمال المخيف بسكونه، هذا السكون الذي كان يقطعه بين الحين والآخر صوت تدفّق مياه المزاريب وغزارة مياه الأمطار في أجواء باردة في الخارج دافئة في الداخل. وهنا يحلو العشاء عندما يكون محضّرا ً من الكشك والقورمة الشهية، لتأخذك الذاكرة بعيدا ً الى الوراء ويختلط الماضي بالحاضر، وما أجمل الماضي بكل ذكرياته.
ماض ٍ كان كلّ ما فيه مختلف عن هذا الحاضر الذي نعيشه اليوم. لم يكن في ذاك الماضي من طفولة لا بل كانت الرجولة التي كانت تفرضها قسوة الحياة الصعبة، فكانت طبخة المجدرة هي السلاح بوجه زمن كان غاية في الجدية، عندما كان الحمار فيها شريك الإنسان في حياته لا بل جزء من حاجاته اليومية. فكان هذا الحمار الصبور يعمل في حراثة الأرض ويحمل على ظهره الأثقال، ومنها القمح، الى إحدى الطواحين التي كانت تعمل بالماء كمطحنة الرقيقة ومطحنة نهر الوزاني، لتحوّل هذا القمح الى طحين ومن ثم الى خبز شهيّ المذاق. ولم تزل هذه المعالم شاهدة على زمن أجدادنا الذين كانوا بمستوى تلك المصاعب،ذلك الزمن الذي من شيء تحصل عليه من غير ثمن. وكانت المتاعب هي ثمن الحياة في ذاك الزمن، حيث كان الإنسان يعيش تلك الأيام الصعبة عندما كانت المحدلة والماعوس على كل سطح من أسطح بيوت الخيام الترابية. هذه المحدلة كانت الوسيلة الوحيدة لمنع تسلل مياه الشتاء الى داخل المنزل وكانت تستعمل لرصّ التراب الهش فتجعله أكثر تماسكا ً.
إنّها قصّة ذاك الإنسان الخيامي الذي عايش ذلك الماضي، ونحن اليوم نعيش حاضرا ً فيه شيء من الراحة والمتغيرات و لكن الكثير من المتاعب، لا بل الكثير من المصائب، والكل يعرف ماذا فغلت هذه التكنولوجيا بالإنسان في يومنا هذا من ويلات وويلات وويلات أخلاقية وأجتماعية، وأصبح الترابط الأسري هشّا ً غير متماسك كما كان في الماضي، لا بل إنّه سائر نحو التفكك التام. ومن هذا التغير نعرف كيف كانت الخيام بين الماضي والحاضر وما من شيء الاّ وله ثمن، وثمن هذا الزمن مرتفع جدا ً.
تعليقات: