العسكريان النروجيان السابقان مورتين وهايتمان أمام نصب الشهداء في إبل السقي.
الخدمة العسكرية النروجية ضمن "القبعات الزرق" من بدايات "اليونيفيل" قبل 34 عاماً
تخطّت التبادل الديبلوماسي بين بلدين إلى تبادل إنساني واجتماعي وثقافي بين شعبين
مرجعيون:
في آذار 1978، ورداً على اجتياح القوات الاسرائيلية الجنوب تحت اسم "عملية الليطاني" بذريعة إبعاد مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 425 الذي دعا إسرائيل الى الانسحاب من جنوب لبنان، وإنشاء قوة موقتة تابعة للأمم المتحدة "يونيفيل" لتطبيق هذا القرار. أولى الكتائب الدولية التي تمركزت جنوب الليطاني، كانت الكتيبة النروجية التي انتشرت في بلدة ابل السقي ومحيطها.
هذه القوة التي بدأت "موقتة"، توسعت صلاحياتها ومنطقة عملها مع صدور القرار 1701 بعد عدوان تموز 2006، لتشمل كل جنوب الليطاني، وزاد عديدها الى زهاء 12 ألف جندي من 35 بلداً... وبعد 34 عاماً على وجود القوة الدولية في جنوب لبنان، هل تغيّر الوضع، وهل تغيّرت مهمة "القبعات الزرق"؟
لم نبحث عن الإجابات التقليدية لهذه الاسئلة عند أي مسؤول لبناني أو دولي، وإنما في حكايا جنديين نروجيين، من قدامى المحاربين، التحقا بأولى الفرق النروجية التي خدمت في لبنان منذ عام 1978، وعادا اليه مجدداً ليوطّدا أواصر الصداقة بين الشعبين اللبناني والنروجي اللذين تعايشا معاً حتى عام 1999 (حين انسحبت آخر كتيبة من المنطقة لتحل مكانها الكتيبة الهندية)، لكن العلاقة لم تنته عند هذا التاريخ، بل تعمّقت عاماً بعد عام بفضل بعض الجنود النروجيين القدامى الذين لم تكن مهمتهم مجرد تجربة عسكرية، وإنما ذكرى جميلة أرادوا أن ينقلوها الى أبنائهم جزءاً من تاريخهم وتاريخ بلادهم.
بين بيوت ابل السقي التراثية وقرب أحد المراكز الدولية السابقة، التقينا كلاً من يان هايتمان وبير مورتين في زيارة روتينية للبلدة من أجل الإعداد لزيارة مجموعة من أطفالها لبلادهما، وكانت معهما جولة أفق عن مشاهداتهما في تلك المرحلة، وكيف ينظران الى المنطقة وأبنائها بعد كل هذه الاعوام، وخصوصاً أن واقعها الأمني لا يزال على حاله، وبالتالي فالحاجة الى "القبعات الزرق" لا تزال ملحّة.
أولى المفارقات، لقاء مصادفة جمع هايتمان ومورتين بأحد ضباط الكتيبة الهندية المسؤول عن أحد المراكز الدولية الحدودية الذي خدم فيه مورتين عام 1978، ودار حوار بينهما عن التغيّرات التي حصلت وسبل التأقلم مع ظروف المنطقة، لكنهما أجمعا على ترحيب أبناء المنطقة بـ"اليونيفيل" وعلى طيبة الشعب اللبناني، وأكثر من ذلك استمرار الوضع الأمني كما هو!
لم يلتق هايتمان ومورتين في لبنان أثناء خدمتهما العسكرية. لكن بعد سنوات طوال من العودة الى الديار، جمعتهما كما غيرهما من الجنود القدامى، محبة لبنان وشعب جنوبه. فمورتين قدم للمرة الاولى في آذار 1978 مع أول فرقة نروجية وصلت عن طريق إسرائيل (كان أصغر جندي وفي التاسعة عشرة). أما هايتمان فقد جاء الى لبنان مع ثاني كتيبة في أيلول 1978 جُدّدت لها ستة أشهر أخرى، ليعود لاحقاً في كتيبتين متتاليتين عام 1980، وفي كتيبة عام 1982. التقيا في النروج عام 1999 ليؤسّسا معاً لمرحلة جديدة من العلاقات بين لبنان والنروج.
تختلف تجربة كل من هايتمان ومورتين في لبنان، لكن نظرتهما متقاربة جداً وتطلعاتهما واحدة نحو الهدف من المحافظة على هذه الصداقة. فهايتمان عاد الى ابل السقي للمرة الاولى عام 2005، بمبادرة فردية منه، والتقى جمعيات أهلية ومنظمات غير حكومية للاطلاع على الوضع وخصوصاً في منطقة عمل كتيبة بلاده سابقاً (من ابل السقي مروراً بقرى العرقوب وصولاً الى شبعا)، بهدف الاطلاع على مشاكلها وحاجاتها، ومحاولة تقديم المساعدة الضرورية اليها. من هنا كانت البداية، عاد هايتمان الى النروج والتقى مورتين في "جمعية قدامى المحاربين" الذين خدموا في مهمات دولية بينها لبنان، وقرّرا أن يتميّزا بتفعيل علاقة المحاربين القدامى في جنوب لبنان بهذه المنطقة، وكانت البداية مع أول نشاط اجتماعي نسّقه هايتمان وهو عبارة عن تقديم حقائب مدرسية الى تلامذة المنطقة. وتلاه نشاط آخر تمثّل بإرسال 10 أطفال من ابل السقي الى النروج للمشاركة في العيد الوطني في 17 أيار.
وعاماً بعد عام نما اهتمام المحاربين القدامى بلبنان عبر الانضمام الى النادي الجديد الذي تأسّس أوائل الثمانينات، وبات يضم قرابة 200 عنصر لديهم بزّة موحّدة يرتدونها في مناسبات رسمية، اضافة الى شعار خاص وموقع الكتروني يغطّي نشاطاتهم وأخبارهم وذكرياتهم عن لبنان.
لخدمة الإنسانية
"نحن أولاً جنود، لكننا نستخدم مهارتنا العسكرية في أمور إنسانية"، هكذا عبّر هايتمان عن ترابط العمل العسكري بالإنساني، وأضاف: "ننطلق من معرفتنا بهذه المنطقة وهذا البلد. خدمنا هنا كعسكريين، وأصبحنا جزءاً من الشعب اللبناني، ومن خلال زياراتنا المتكرّرة بتنا نعرف حاجة السكان، ونسعى عبر امكاناتنا الى مساعدتهم". أما مورتين فذكر أنهم حين قدموا الى لبنان عام 1978، كانوا محايدين في الصراع بين لبنان وإسرائيل، "ولكن بعد يومين بدأنا نميل الى الشعب اللبناني، وبعد ستّة أشهر إنحزنا مباشرة الى لبنان، وهذا ما دفعنا للعودة مجدداً اليه لخدمة شعبه بطريقة إنسانية تختلف عن المهمة العسكرية السابقة ضمن اليونيفيل". ويفاخر مورتين بأن انحيازه الى اللبنانيين كان سبباً لمواجهته جنوداً اسرائيليين في بلدة الهبّارية ببندقيته لمنعهم من تجاوز المنطقة، علماً أنه كان الأصغر سناً.
ويشرحان، كل على طريقته، أن هذا الاسلوب في التعامل هو من صفات الشعب النروجي "المسالم" الذي يعكس هذه الصفة على كل المهمات التي يقوم بها، وهذا ما يفسّر اختيار النروج دوماً مركزاً لعقد محادثات السلام أو اختيار نروجي لقيادتها، فضلاً عن أن النروج تعيش سلاماً منذ عام 1945 مما يسمح لشعبها التفكير بسلام والعمل من أجل السلام، ويؤكدان أن السبب الرئيسي الذي دفعهما مجدداً الى لبنان هو "عدم نسيان التاريخ". ويقول مورتين: "لقد ولّى زمننا، نحن نتطلع الى المستقبل، نريد أن ننقل الى أطفالنا والاطفال اللبنانيين هذه المرحلة المهمة من تاريخنا المشترك، والهدف الأبرز الذي نعمل من أجله عبر زيارة الاطفال اللبنانيين لبلادنا، أن يتعلموا كيف نغيّر المستقبل، لأنهم هم مستقبل بلدهم. صحيح أن المسار طويل جداً، ويتطلب وقتاً، ولكن خطوة خطوة نتوصل الى الهدف المنشود".
الحاجة الى الدعم الدولي
اثناء اللقاء مع هايتمان ومورتين، صودف مرور عدد من الجنود الدوليين العاملين ضمن "اليونيفيل" من جنسيات مختلفة مثل الهندية والاسبانية والماليزية والاندونيسية، فكانت ردة فعلهما لافتة، اذ لفتا الى أن الكتيبة النروجية كانت وحدها تقوم بكل المهمات التي تقوم بها اكثر من ثلاث فرق حالياً، على رغم ان الوضع اليوم اسهل بكثير مما كان في السبعينات والثمانينات. ولم يخفيا ألمهما من وضع هذه المنطقة التي لا تزال في حاجة الى مساعدة ودعم خارجيين، لأن اسباب الصراع لا تزال هي نفسها على رغم كل هذه السنين. ويذكر مورتين ان المشاكل الحدودية التي تحصل اليوم سياسية اكثر من قبل. وهنا يتدخل هايتمان: “نعلم جيداً هذه المعاناة التي يعيشها ابناء المنطقة، لذا فنحن هنا لاعطائهم املاً ولو بسيطا في ان البداية تكون من نقطة صغيرة".
وبالعودة الى الذكريات في لبنان، يقول مورتين أنه لا يزال يذكر اليوم الاول الذي وصل فيه الى المنطقة، وقد اعجبته المناظر الطبيعية التي شاهدها، لكن المفارقة ان لبنانيين رشقوهم بالحجارة ظنا منهم انهم اسرائيليون لكونهم قدموا من الجهة الاسرائيلية، "ولم يكن حينها في بلدة ابل السقي سوى رجلين، ولكن مع الوقت عاد الاهالي وبدأنا بمساعدتهم على اعادة بناء منازلهم المهدّمة، ولاحقا تطور الوضع وفُتحت محال تجارية عدة، كما سُجلت اكثر من 50 حالة زواج مختلط"، على قول مورتين الذي شرح اسباب عودته مجددا الى لبنان. فلمورتين ذكريات سيئة جدا اثّرت على حياته سنين طويلة، فقرر معالجة نفسه بالعودة مجدداً الى هنا بعد قرابة 15 عاما. "عدت بحثا عن اجابات لأسئلة كثيرة في رأسي شوشت تفكيري وأثّرت على حياتي. وبعد زيارات ولقاءات عدة مع ابناء المنطقة، استعدت عافيتي شيئاً فشيئاً، وبدأت حملة اقناع لعدد من المحاربين القدامى الذين عاشوا حالات صعبة في لبنان لزيارته مجدداً لأنه "الداء والدواء"، وهذا ما يحصل فعلا. ففي 17 ايار من كل عام، يأتي عدد من المحاربين القدامى للمشاركة في العيد الوطني النروجي الذي يقام في "ساحة النروج" وسط ابل السقي والتي يتوسطها نصب لـ21 جندياً نروجياً قضوا في لبنان"، يقول مورتين.
وفي اطار آخر، يقول هايتمان ان جمعيتهم قامت بـ"ثورة سلمية"، ويضيف: "بلادنا متقدمة في هذا المجال، لكنه عمل فردي. فليس لحكومتنا اي علاقة بهذا الموضوع"، على رغم انها تهتم بما نقوم به. فعام 2008، اقيم احتفال رسمي لمناسبة مرور 30 عاما على مشاركة بلادنا في "اليونيفيل" في لبنان، حضره الملك هارولد الخامس الذي كان مهتما كثيرا بالاطلاع على نشاطاتنا في بلاد الارز، فأعددت له كتيبا تضمن كل هذه النشاطات والمشاريع والافكار، وقد وعدنا بمتابعة عملنا عن كثب وتشجيعنا قدر الامكان.
وختاماً كان الجواب عن نظرتهما الى مستقبل لبنان صعبا، لأن المشكلة لا تأتي من الجانب الاسرائيلي فحسب، وانما تنتج من كل ما يحصل في المنطقة. وقال هايتمان: we can do some changes for someones for some time اي "نستطيع ان نحدث بعض التغيير لبعض الاشخاص لبعض الوقت".
تورطوا في حبهم للبنان
هذا الاندفاع النروجي حيال الجنوب وتحديداً ابل السقي، تقابله ايضا عاطفة لبنانية وعرفان جميل من اهالي البلدة تمثّل باطلاق تسمية "ساحة النروج" على ساحتها التي تضم نصبا لشهداء الكتيبة، واقامة متحف نروجي.
ويشير احد ابناء البلدة الياس اللقيس الذي يتولى التنسيق مع الجمعية النروجية، الى "أن الشعب النروجي غيّر نظرته حيال الشرق الاوسط بعد خدمة عسكرييه في جنوب لبنان. "أحبّوا المنطقة الى درجة تفانيهم من أجلها، فالمهمة التي جاؤوا من اجلها الى منطقتنا اصبحت بالنسبة اليهم الكرامة الموازية للأرض، وهو امر لم نلحظه لاحقاً مع اي فرقة دولية أخرى. بالنسبة الى الشعب النروجي تطبيق المهمة يأتي ضمن المحافظة على النظام العالمي بشكل سلمي. من هنا يأتي حبهم لمنطقتنا واصرارهم على تطوير هذه العلاقة وتأريخها للأجيال اللاحقة" على قوله.
وعن الافادة المتبادلة بين الشعبين، قال: "تعلموا منا بعض المفاهيم الاجتماعية المهمة مثل الروابط العائلية والاحترام المتبادل والصداقة بين الزوجين، اضافة الى حسن الضيافة والتفاني في العمل. وتعلمنا منهم الولاء للوطن مهما اختلف انتماؤنا السياسي. ففي بلادهم، مهما تعددت الاحزاب والانتماءات، الولاء للعلم امر مقدس والنظام واحترام القوانين دون الخوف من أي حسيب". واضاف: "قبل مغادرتهم بلادنا كانوا دوما يقولون لنا عندما نتقاعد سنعود مجدداً الى لبنان، لم نصدّقهم في البداية، لكنهم اثبتوا لنا انهم صادقون جدا و "متورّطون" في حبهم للبنان والمحافظة على هذه العلاقة المتبادلة".
رونيت ضاهر - مرجعيون
هايتمان يقدم كتابه عن لبنان الى ملك النروج.
مورتين في شبعا عندما كان يخدم في كتيبة بلاده.
تعليقات: