لا تحدثونا عن الهوية الفنية... حدثونا عن الفن والفنانين

لا تحدثونا عن الهوية الفنية... حدثونا عن الفن والفنانين
لا تحدثونا عن الهوية الفنية... حدثونا عن الفن والفنانين


لا تحدثونا عن الهوية الفنية... حدثونا عن الفن والفنانين

الفنان اللبناني عارف الريس (1928 - 2005)

قد يستفز كلامنا الذي سنقوله بعض الفنانين والباحثين في الفن الذين ينادون بالهويّة الفنية اللبنانية أو العربيّة، ويطالبون بها كعنوان لإبداعنا الفني داخل حدود هذا الوطن الصغير المليء بالتلوّن الطائفي والمذهبي والمناطقي والسياسي أكثر مما هناك ألوان على باليت فناني هذا الوطن. لكنّ الحقيقة، التي نؤمن بها، يجب أن تقال يوماً ما كي لا تبقى عنواناً زائغاً زائفاً لقضيّة حقة ألا وهي قضية الفن التشكيلي.

إنّ مسألة الهوية الفنية في لبنان تعود إلى أوائل القرن العشرين بعد تأسيس دولة لبنان الكبير. أخذ همّ الهوية مداه مع جيل الأكاديمية اللبنانية للفنون التشكيلية ويعود سبب ذلك إلى عوامل عدّة لا تبتعد عن تعقيدات التركيبة اللبنانية بطوائفها ومناطقها وتعدّد الانتماءات الفكرية والسياسيّة والدينية...

إنّ العمر الزمني للفن التشكيلي في لبنان لا يمكن قياسه بعمر فنون الغرب والشرق الغارقة بالتجارب والنتاجات المواكبة لكل مناحي الحياة الفكرية والإبداعية المنوّعة. لا يمنعنا هذا من القول إنّ تاريخ منطقتنا لا يقلّ شأناً زمنياً وإبداعياً عن مثلائه في مناطق العالم على صعد مختلفة كالأدبية منها والتراثية المنوّعة.

نبدأ مقالتنا بسؤال بديهيّ حول ادّعاء البعض بضرورة وجود «هويّة فنيّة» خاصّة بنا كلبنانيين؟! هل الأمر حتميّ أم أنه لا يبتعد عن كونه شوفينيّة عربيّة ولبنانيّة، وعقدة نقص اخترعناها وتماهينا في إطلاقها وتصديقها، حتى أمست هاجساً لا يجد إجوبة ومخارج لائقة لتلك الترهة التي أرّقت، ولمّا تزل، بعض فنانينا الذين تبنّوها، كعنوان وشعار وجودي وفكري يُحدّد نتاجاتهم وقيمها ومستواها ومصيرها، من دون أن يصلوا بها إلى ما يُمكن تأكيده أو نفيه. إنّ الخوض فيها واجب وطني وفكري، كي لا تبقى عنواناً لعبث فني لا يُقدّم ولا يؤخر في لعبتنا الفنيّة.

هذا السؤال اقتضى منا جواباً مناسباً، أو موقتاً، لهذه المعمعة التي لا تخلو من مواقف شتى تتعدّد بين سياسية وطوائفية وديماغوجيّة ومناطقية!

إنّ فرضيّتنا تنطلق من قناعة راسخة بعدم وجود ما يُسمّى بالـ«هويّة الفنية» لأسباب سنذكرها في متون بحثنا هذا، بل إنّ الأمر يتعلق بوجود ما يُسمّى الهوية الفردية ليس أكثر.

قبل الغوص في تفاصيل حجّتنا سنقوم بجولة سريعة على فنون الغرب ودول العالم التي كان هدفها الإنسان ككائن فكري يبحث دائماً عن معنى لحياته قبل وصوله لمرحلة ما بعد الحداثة التي مثلت ضياعاً لهذا الإنسان ومتاهته الجنونية. فمنذ وجود الإنسان الأول في المغاور حاول السيطرة على الموجودات من خلال عقيدة الفن، ثمّ جاءت الحضارات الكبرى بفنونها التي غلبت عليها الرموز والماورائيات والأديان كعامل تفسيري وجمالي للكون وموجوداته، كأن نذكر على سبيل المثال الفنون البدائية والفن الفرعوني المصري وفنون الهند والشرق الأقصى والأدنى والأفريقي والآسيوي... فنون نجد فيها الهمّ الأساسي دائراً حول الإنسان ووجوده وصراعه مع الكائنات والمخلوقات والماورائيات، دون طغيان هاجس الهوية الفنية كإطار ضيّق خاص كما نحاول نحن اللبنانيين والعرب أن نحدّدها في رؤيتنا للعطاء الفني.

من ناحيته، شكل عصر النهضة محوراً أساسياً في العملية الفنية وتطوّرها ودورها في حياة الأفراد والشعوب والعطاء الفكري. لقد عرفت فنون هذا العصر امتدادها من خلال فنانيها وأساليبهم وتفرّدهم: ليوناردو دافنشي، ميكال أنجلو، رفاييل، جورجيوني، تيسيان، فيرونيز، كورّيجيو، تونتورينتو... الذين لم يتكلموا عن هوية فنية إيطالية أو غربية كهاجس وجودي بالرّغم من افتخارهم بانتمائهم لبلدهم (إيطاليا) ودورها الفاعل في تطوّر البشرية. كان همّ هؤلاء الفنانين البحث عن فن إنساني عالمي كوني ينقل الإنسان وفكره إلى مطارح كفيلة بإيصال الشعلة إلى أزمنة مستقبلية تشكل سلسلة في العطاء الإنساني. لا يختلف الأمر مع فناني ما بعد عصر النهضة الفنية كالباروك والروكوكو والتأنقية والكلاسيكية والرومنطيقية والواقعية... الذين نادى البعض منهم بالقومية والتعصّب الوطني كما هو الحال مع الفنان الألماني «البرخت دورر» الذي كانت له مواقف شوفينية ألمانية واضحة، حيث قال: «... إنه من الواضح أنّ المصوّرين الألمان مع الزمن لن يدعوا أمّة أخرى تحوز دونهم قصب السبق...». وكذلك الأمر مع بعض الفنانين الإيطاليين في العصر الحديث (فناني المستقبلية) الذين طغت على أفكارهم التوجّهات الفاشية الإيطالية متأثرين بأفكار موسوليني، يأتي على رأس هؤلاء الفنانين «أمبرتو بوتشيوني» منظر المجموعة المستقبلية. نقول إنه بالرّغم من تلك المواقف إلا أنّ هؤلاء الفنانين لم يبحثوا في مسألة الهويّة الفنية الوطنية، ولم ينتجوا فناً مستقلاً يتمتع بمزايا أتنية (أقليّة) مستقلة أو إنعزالية. ما ميّز هؤلاء هو أسلوبهم الذاتي، وما أضافوه إلى الفن التشكيلي من مزايا فردية وأبعاد فكرية كونية وعلمية، ترتبط بشؤون العصر قياساً إلى من سبقهم من الفنانين.

مدرسة باريس

بالإطلاع على فنون الغرب كافة وعبر عصوره، هل يُمكننا الحديث عن هوية فنية فرنسية أو إيطالية أو أسبانية أو هولندية أو أميركية...أو...أو...؟ بالطبع لا. لنوضح الأمر؛ يُمكننا الحديث عن تيارات وأساليب فنية تتعدّد بتعدّد الفنانين. أين الهويّة الفرنسيّة في «مدرسة باريس L`école de Paris» التي كان وراء نشأتها فنانون أجانب بمعظمهم جاؤوا من كل حدب وصوب، محمّلين بمخزون مكاني وتاريخي مختلف: مودلياني، باسكان، شاغال، كيسلنك، سوتين، جياكوميتي، أوتريللو... (إيطالي، برتغالي، روسي، بولوني، ليتواني...)؟ هل يُمكننا القول إنّ بيكاسو هو فنان فرنسي أم أسباني، وبأية هويّة أتى؟ كذلك الأمر بالنسبة إلى مواطنيه سلفادور دالي وخوان ميرو؟ أو فان غوغ الهولندي الذي استوطن فرنسا بديلاً لوطنه كغيره من الفنانين؟ أو بول كلي السويسري الأصل؟ أو فاسيلي كاندنسكي الروسي؟ أو... أو... أو...؟ ماذا يجمع فناني التكعيبيّة سوى تعدّد الأساليب الفرديّة للفنانين؟ ألم تختلف أساليب هؤلاء باختلاف فرديّتهم؟ هل تتشابه أعمال بيكاسو وبراك مع أعمال أندريه لوت أو خوان غري وفرنان ليجيه وبول سيزان...؟ بل هل تتشابه سوريالية دالي مع سوريالية خوان ميرو وبول كلي وهنري ميشو وأندريه ماسون ورينيه ماغريت وماكس إرنست وإيف تانغي وبول ديلفو...؟ وكذلك الأمر بالنسبة للانطباعية والتجريدية والمستقبلية والوحشية... إلى آخر سبّحة المدارس والتيارات الفنية المختلفة الأساليب والتوجّهات؟

ينشغل العالم بهمّ الابتكار والتجديد وخلق الأساليب، فيما يغرق فنانونا وباحثونا بهمّ الهويّة الفنيّة التي يراها البعض كامنة في المنظر الطبيعي (ولا سيّما الانطباعي منه)، وكأنّ المنظر الطبيعي هو صناعة لبنانية بحتة لم تعرفه أمكنة الأرض وأزمنة الفن التشكيلي عبر عصورها وقرونها!؟ فيما يرى آخرون أنها في الحروفية والخط العربي والفن الإسلامي والتراثي والشعبي والزخرفة؟ وكلا الاثنين ينطلقان من منطلقات لا علاقة لها بمبادئ الفن الحقة!

تطرّق رعيل الأكاديمية اللبنانية إلى مسألة الهوية الفنيّة كشعار رئيس لتحديد مفهوم اللوحة والعمل الفني فتحوّلت إلى هاجس كاد يقضّ مضاجع الفنانين وألوانهم وخطوطهم وأشكالهم. هاجم هذا الرعيل الفن الغربي وطالبوا بلوحة عربية لبنانية خاصّة لكنهم أنتجوا بالمقابل لوحة لا تختلف عن مثيلتها الغربية إلا بمرسلتها الفردية المبنيّة على منهج الغرب الفني.

ماذا نقول عن الهوية الفنية في هذا الوقت المسمّى بالربيع العربي (والمسمّم بالانقسامات الخطرة) حيث يُنظّم أبطاله مجالس العزاء في «العروبة» لإعلان وفاتها كفكرة وكعقيدة؟

أو ماذا نقول عن الهويّة في زمن الانترنت وهيمنة الكومبيوتر والفيسبوك وتوابعه التي أذابت الحدود بين الشعوب، وقلصت الجغرافيا والتاريخ إلى حدود الفرد الواحد؟ أية هوية تكون في ظل هذه التحوّلات التكنولوجية والفكرية والعقائدية وهيمنة الفكر الاقتصادي النفعي على توجّهات العالم وسياساته، وانقسام العالم العربي إلى عوالم ومناطق واتحادات ودول مُقسّمة بدورها إلى تكتلات وطوائف ولهجات...؟

يحيلنا حديثنا عن الهوية إلى كلام الأكاديمي والباحث اللبناني أحمد بيضون بحديثه عن الدولة، من وجهة نظر سياسية واجتماعية، الذي تطرّق إلى تعقيدات الواقع اللبناني منذ نشوء دولة لبنان الكبير حتى ثمانينيات القرن الفائت. يقول في كتابه «الصراع على تاريخ لبنان...» الصادر عن الجامعة اللبنانية: «... فإنما نحصر جلّ همّنا في إدراج وجهات النظر التي نقع عليها داخل جدل أشرنا إلى إنه يتجاوز نطاق الكتابة التاريخية ليتناول هوية لبنان والمكانة التي احتلتها في الماضي (و»استحقتها» بالتالي في الحاضر) كل من الجماعات المتنافسة ضمن المجتمع اللبناني المعاصر والتنافس الذي نلمح إليه هو، على وجه التحديد، ذاك الذي يدور حول الهويّة...»، ليخلص إلى القول: «إنّ الحكم الواحد قد يتخذ إذا ما أدرج في وجهتي نظر مختلفتين، قيمتين متضادتين، بل مختلفتين». يتابع أحمد بيضون كلامه في مكان آخر حول الهوية بمعياريها غير المتكافئين اللذين يتناهشان الدولة للاستحواذ عليها لبناء هويّتهم الخاصة: «... هكذا يبقى فكر الهوية مسحوقاً تحت وقع الأنموذج المجلوب ومأخوذاً، في الوقت نفسه، بهمّ حماية الجماعة التقليدية من المنافسة. فيبقى عاجزاً عن الاعتراف بنمط التنظيم الاجتماعي التقليدي في وضعيّته التاريخية، ويبقى عاجزاً، من الجهة الأخرى عن اصطناع المسافة اللازمة للنقد (انطلاقاً من هذا الاعتراف) بينه، من حيث هو موضوع. ثمة إذن معياران متعارضان وغير متكافئين، من حيث الصلاحية، يتجاذبان صورة المجتمع (مجتمع الماضي ومجتمع الحاضر) فيبقيانها، في نهاية الأمر، خارج متناول التفكير... وفي جميع الحالات يتبدى مثال الدولة. تجسيداً لهوية وطنية يتوق إليها الأفرقاء ولكن كل فريق يجهد ليستنفذ منها (أحياناً عبر محاولة الاستحواذ عليها) هويّته الخاصة...».

في ظل كلام كهذا، أي هوية يمكننا الحديث عنها بعد؟ أم أنّ الأمر لا يعدّ كونه سوى استهلاك كلاميّ وجلد للذات وتغميس خارج الصحن؟ انطلاقاً من هذا الكلام هل يمكننا الإصرار على الهويّة الفنيّة الخاصة بنا أو التباهي بها. وهي هوية من؟ أية طائفة؟ وأية منطقة؟ وأي شارع وزاروب؟ إننا نشفق على مطلقي ومصدّقي هذا الشعار «الهوية الفنية».

تختلف آراء الفنانين والباحثين في الفن التشكيلي حول مسألة الهوية، رغم قلة الكتابة عنها هذه الأيام، وقد عرفت أوجها مع فناني الأكاديمية اللبنانية يأتي على رأسهم الفنانان رفيق شرف وعارف الريّس اللذان شدّدا على أهميّة التراث كمرجع فني إبداعي، وقد وعيا جيّداً أزمة الفن التشكيلي في لبنان وتعدّد الأساليب والاتجاهات عند الفنانين التشكيليين.

حسم بيكاسو

شدّد الفنان الريّس في كتاباته ومقابلاته الصحافية على مسألة التراث والهوية، لكننا نشتمّ منها ضياعاً فكرياً وفنياً (كما هو الأمر مع غيره من الفنانين). يقول الريّس: «نحن الفنانين العرب، وخاصة جيلنا الذي درس في أوروبا، وعايش الحركة العالمية ومشاكلها، ودخل إلى العالمية قبل أن يكتشف الأصول والقواعد التي تميّز الفنون القومية والشعبية التي ورثها، وذلك لأننا عشنا تحت رعاية البرامج الأجنبية، ونشأنا على أيدي أساتذة أجانب أيضاً في مرحلة الاستعمار الذي عشنا تقلصه المباشر من منطقتنا العربية؛ عشنا حقاً بين الانتماء إلى العالمية والقومية. وفي قرارة أنفسنا كنا نشعر أنّ ما يخاطب به الفن في أوروبا لا يتضمّن ما نرغب به، ونحسّ أننا بحاجة إلى التعبير عنه. وهذا ما أيقظ فينا العودة إلى الكشف عن التراث وإزاحة الغبار الثقافي الذي أبعدنا عن واقعنا اللاشخصي والشخصي الذي يتصارع حوله الفن الغربي وأصبحت تعنينا، لأنّ تفتيشنا عن شخصيتنا العربية يفرض علينا موضوعياً أن نكون شخصيين ومنفتحين بحذر حتى لا نبتعد عن مفاهيم المعاصرة واللغة التشكيليّة العالمية بكل ما فيها من تناقضات... ولأنّ المجتمع العربي لم يتثقف فنياً بعد، مما يجعل حياة الفنان ضيّقة...». ويشدّد أيضاً على بدوّيته وانتمائه للصحراء.

أما الفنان شرف في كتابه الوحيد «كتاب رفيق شرف» فيرى أنّ المسألة منهجية والمشكلة التي تحدّد موقع الأشياء وأهميّتها ودورها، ويأتي على رأسها أزمة الفن التشكيلي والهويّة في الأوطان والدول والعصور. من ناحية أخرى، يرى في مقالاته الصحافية أنّ الهويّة تتجسّد بابتعاد الفنان العربي عن فنون الغرب. وخير ما عبّر عنه في بيانه الفني السرّي هو موقفه من القومية والفن داخل وطن وجمالية التراث...

أما الفنانة إيلين الخال فتغرّد على ضفة أخرى حيث ترى الهوية بابتعادنا عن التراث العربي واقترابه الدائم من فنون الغرب! فقد نوافقها على بعض أقوالها ونخالفها في أخرى؛ نوافقها على قولها: «الفنون في لبنان مثلها مثل الشعب والحياة في هذا البلد، متحرّكة متنوّعة حتى لتبدو وكأنّ ليس لها ماضِ مشترك موحّد لكثرة ما تعرّضت له من تأثيرات عديدة وردت إليه من مختلف البقاع». ونخالفها بقولها: «إنّ عدم الرجوع إلى التراث العربي هو أمر إيجابيّ وضع الفن اللبناني في طليعة الفنون في العالم العربي، وأتاحت له في الوقت نفسه أن يبتدع أسلوبه الخاصّ الذي يقع بين ما كان يحدث في الغرب وما كان ينتجه الفنانون في البلدان المجاورة». وترى الخال أنّ الأساليب العربية - الإسلامية كانت ثقلاً ينبغي التخلص منه وأنّ الرسامين اللبنانيين الأوائل حسناً فعلوا إذ تخلصوا منه. وترى أنّ الفن اللبناني (مع تحفظنا على النسبة) عليه دائماً أن يتبع الاتجاهات الغربية... فالفنان اللبناني، بحسب رأيها، مولع بالفردية لا يؤمن أبداً بالعقلية الإقليمية، وهو بالتالي شديد التأثر بما يجري حوله.

تختلف آراء الفنانين وهذا شيء طبيعي، لكنهم للأسف الشديد لا يتفقون على شيء يفيد العمل الفني. الفن تابع للسياسة والطائفة والمنطقة بدل أن يكون العكس هو الصحيح، حيث «الفن هو محرك التاريخ» حسب قول هيغل. كل يُغني على ليلاه كما يرى الباحث بيضون.

يرى الباحث «تود غيتلين» إنّ كثيرين من مؤيدي سياسة الهوية هم من المتعصّبين، أو «من الأصوليين» بلغة الأكاديميين. وينحرف الاعتقاد في وجود اختلافات جوهرية بين الجماعات عن مساره، ليتحوّل إلى اعتقاد في تفوّق جماعات على أخرى...

أما «جان غراي» فيرى أنّ «الهويات البشرية دوماً ما كانت من الشؤون المحلية، وإنها رواسب بعض أشكال الحياة المعتادة، ولا ترمز أبداً إلى النمط العام من الجنس البشري...». ليصل إلى قوله: «... فأي وجهة نظر نتبناها تنتمي إلى نمط معيّن من الحياة والممارسات التاريخية التي تشكل هذا النمط؛ فهي تعبير عن هوية بشرية محدّدة تاريخياً وليست هوية بشرية عالمية أو عامة».

أما «تايلور» فيركز على أهمية احترام الفرد لذاته، وأهمية الاعتراف بثقافة الآخر للوصول إلى سمات هوية ثقافية تكون شاملة وليست منعزلة ومحدودة: «إنّ الأساس الاجتماعي لهذا المعنى الأولي لاحترام الذات هو تقدير الآخرين لأنشطة الفرد وأهدافه... ولما كان ما يقوله الشخص ويفعله والخطط التي يضعها وينقحها تحمل إلى حدّ ما سمات هويته الثقافية فإنه لا يمكن الوفاء بشرط احترام الذات إلا في مجتمع يتمّ فيه الاعتراف بثقافات جميع أفراده وتأييدها من قبل الآخرين، سواء أكانوا يشتركون أو لا يشتركون في تلك الثقافات». (المرجع: عالم المعرفة، الثقافة والمساواة...، عدد 383).

مهما يكن من أمر، فإننا ندع بيكاسو يحسم الجدل بكلام عميق الدلالات، ولا يرقى إليه شك حول أهمية التجربة الفردية كعنوان للهوية التي نبحث عنها في قاموسنا المفترض. يقول بيكاسو: «... إنني مندهش من المبالغة في استعمال كلمة (تطوّر). أنا فقط أكون. ليس في الفن ماضٍِ، ولا مستقبل. الفن ليس في الزمان. لن يكون أبداً. فن اليونان، أو المصريين ليس من الماضي. بل هو حيّ أكثر من قبل. التغيير لا يعني التطوّر. وإذا غيّر الفنان أسلوبه فهذا نوع في طريقة تفكيره. أنا رسمتُ دائماً لعصري. ما أراه أعبّر عنه، ومرّات بطرق مختلفة. لا أحكم، ولا أجرّب. ليس من فن انتقالي. ثمة فنانون، وكفى».

تعليقات: