يفضّل الحديث دائماً عن مهنته الأولى في بيع الصحف (الأخبار)
قبل كلّ شيء، كان حسن صالح بائعاً للصحف في الحمرا، وبفضلها تابع دراسته وتحوّل إلى أستاذ جامعي وكاتب ومؤرّخ وصاحب شركة... قبل أن يقرر «الاعتزال» والعودة إلى القرية للعمل في الأرض إلى جانب التأريخ
الرجل الذي ولد في عام الاستقلال، 1943، لا يقيم وزناً للتجارب السياسية والحزبية التي خاضها، على ذات القدر الذي يقيمه إلى تجربته في بيع الصحف. بفضلها، تحول إلى كاتبٍ ومؤرّخ ومدرّس في الجامعة اللبنانية، إذ سمحت له، منذ كان صغيراً، بالتعرّف إلى الأدباء والشعراء والمثقفين «أمثال جواد بولس وسلام الراّسي وفؤاد رقّة وأمين نخلة وشارل مالك». كانوا قدوته، وهم «شجعوني على القراءة والمتابعة العلمية». صالح، المقيم اليوم في بلدته تبنين، بعد 60 عاماً في بيروت، لا يحنّ إلى المدينة ... «منذ كان عمري ثماني سنوات، وأنا أتحمّل معاناة العيش في بيروت التي كنت وما زلت أكرهها وأحلم بالعيش في ضيعتي تبنين بين الحقول والجبال الخضراء». هكذا يعزل نفسه، بين الكتب والحقول التي جناها من كدّه في توزيع الصحف. تراجع بيع الأخيرة اليوم، إلى حدّ لم تبلغه في تاريخ لبنان المعاصر .
يؤلمه ذلك: «كانت الصحف تطبع على صفحات متفرّقة، ونحن نعمل على جمعها وطيّها، قبل أن نوزعها». ويعترف، بطيبة خاطر «كنا نجني أرباحاً كثيرة من البيع، فقد كان عدد قرّاء الصحف كبيراً جداً نسبة إلى اليوم». على سبيل المثال، كان متعهّد بيروت لتوزيع الصحف يوزّع للباعة المتجولين فقط 40 ألف نسخة من جريدة «النهار» وحدها، أما اليوم، بحسب معلوماته، فإن «صحيفة من أهم الصحف لا تطبع أكثر من 10 آلاف نسخة يومياً». كان سعر الجريدة اليوميّة 75 قرشاً لكن «الأدباء والمفكرين الذين كنت أوصل الجريدة الى منازلهم كانوا يدفعون لي ليرتين عن كل جريدة». ساعده ذلك في المعيشة، إضافة إلى أن «هذه المهنة علّمتني في طفولتي اللغة الفرنسية، فجميع زبائني كانوا يتكلمون بالفرنسية، وكانوا يطلبون مني الجلوس معهم والاستماع لأحاديثهم». وفي موضوع الصحف، يذكر أن الصحف الأكثر مبيعاً في الخمسينيات «كانتا جريدتي الحياة والجريدة». يستفيض سارداً التفاصيل القديمة: «في العام 1958، كانت ثورة المعارضة المسلّحة على حكم الرئيس كميل شمعون، وكانت جريدة بيروت المساء لصاحبها عبد الله المشنوق جريدة المعارضة الأولى، قد منعت من التوزيع من قبل السلطات المحلية». كان عمره 15 سنة آنذاك، عندما قصد طريق القصر الجمهوري، على دراجته الهوائية عبر طريق القنطاري حيث سكن الرئيس شمعون، بهدف بيع الصحف. أوقفه ضابط في الحرس الجمهوري وطلب منه جريدة الأوريان، فارتبك: «مدّ الضابط يده وسحب جريدة الأوريان ليجد بداخلها جريدة بيروت المساء». ابتسم الضابط وأمر أحد جنوده بفتح كل الصحف وتفتيشها، واعتقاله، واحضار عصا تمهيداً لـ«الفلقة». أجهشت في البكاء «ما ساعدني على اطلاق سراحي بعد محاضرة عن وطنية كميل شمعون وعمالة عبد الله المشنوق لعبد الناصر وسوريا والمصريين».
بقي صالح في المدرسة رغم عمله. فقد «استطعت الحصول على الشهادة المتوسطة في مدرسة حوض الولاية، ثم انتقلت الى مدرسة رمل الظريف فحصلت على شهادة البكالوريا القسم الأول». وقتذاك، قدم طلباً للتدريس في التعليم الرسمي أسوة بزملاء له، رغم عدم رغبته في التعليم، وحبه لمهنته الأولى، لكن «قبولي في التعليم جعلني أترك مهنة بيع الصحف والانتقال إلى بلدتي تبنين، فأدركت أن وضعي المالي قد تراجع». والسبب بحسب صالح يعود إلى أن « انتاجي في بيع الصحف كان أكثر بكثير من راتبي كمدرّس، كنت وأنا تلميذ في المدرسة أجني 500 ليرة شهرياً من بيع الصحف، أما راتبي كمدرّس فقد كان 192 ليرة فقط». عندها أدرك أن «عليه متابعة دراسته». درس البكالوريا ــ القسم الثاني في المنزل، وكانت «لغته الفرنسية وثقافته المتواضعة هي السبب في نجاحه من بين 12 زميلاً تقدموا إلى الامتحان في العام 1965». وفي العام نفسه انتقل صالح إلى التدريس في بلدة كفرمتّى. وفي العام 1970 نقل الى مدرسة الزيدانية في بيروت، ما سمح له بمتابعة دراسته الجامعية والحصول على اجازة في الأدب العربي من جامعة بيروت العربية. وقتها قرّر صالح العودة إلى شغفه الأول: بيع الصحف. أنشأ «الشركة العامة لتوزيع الصحف والمطبوعات»، فنجح في تجارته الجديدة، مقرّراً «الاستقالة من التعليم». لكن عائلته رفضت ذلك «ما أتاح لي فرصة تولّي ادارة مدرسة الزيدانية الرسمية، ثم متابعة دراستي العليا، الى أن حصلت على شهادة الدكتوراه في الأدب العربي من الجامعة اللبنانية وأصبحت مدرّساً في كلية التربية».
في العام 2008 قرّر صالح ترك التعليم نهائياً والتفرّغ للبحث العلمي، كذلك قرّر التنازل عن عمله في الشركة، التي ترك ادارتها لأحد أبنائه. مذّاك، أصبح فلاّحاً في فترة ما قبل الظهر، وقارئاً وباحثاً في التاريخ في فترة ما بعد الظهر. بفضل بيع الصحف، اشترى عشرات قطع الأراضي، وهو اليوم يجني ثمارها، إضافة إلى «تربية الدجاج والحيوانات الداجنة». إلى ذلك، يعتقد صالح أنه «يملك الآن أكبر مكتبة شخصية في جبل عامل تضمّ أغلب المراجع التاريخية والأدبية المتعلقة بتارخ لبنان وبلاد الشام والتاريخ الاسلامي الشيعي». كان صالح علمانياً. نشط في حزب البعث العربي الاشتراكي السوري، وتولّى مسؤولية أمين فرع الحزب في بيروت من العام 1975 حتى العام 1987 غير أنه يقرّ بمخالفات كثيرة كانت ترتكب من قيادة الحزب، وقد فصل منه أصلاً . يشير إلى أن «عديله»، الأمين القطري، عبدالله الأمين، فصله بسبب رفضه «سحب ترشيحي للانتخابات النيابية على لائحة كامل الأسعد عام 1992، وقد خضت الانتخابات حينها وحصلت على 18000 صوت». خاض الانتخابات البلدية في تبنين وكان «أوّل الخاسرين بـ700 صوت مقابل لائحة الاقطاع السياسي الجديد». ويذكر أنه سجن ثلاث مرّات قبل العام 1968 «بسبب العمل الحزبي والمقاوم من دون أي أحكام قضائية»، كما «عمدت ميليشيات متطرفة في 6 حزيران 1976 إلى احراق مكاتب شركتي في الزيدانية والبسطة التحتا والغبيري بعد نهبها». لكنه يفضّل الحديث دائماً عن مهنته الأولى، التي كان يشاركه فيها عدد من الشباب الذين وصلوا إلى مراكز عالية، أمثال «النائب والوزير السابق محمد عبد الحميد بيضون والوزير الراحل علي حراجلي». «البسطة» الأولى، أو «الكشك»، الذي كان يوزّع فيه الجرائد والذي كان يملكه والده، لا يزال مكانه في شارع الحمرا، مقابل سينما السارولا. ولا يزال شقيقه يتولى بيع الصحف فيها، حتى اليوم.
مؤلفات جنوبية
ألّف الدكتور حسن صالح عدداً من الكتب المتعلقة بقريته ومحيطها، منها «تاريخ تبنين»، «أنطولوجيا الأدب العاملي» ، «جبل عامل في قرن»، «الصالونات الأدبية في تبنين»، «التشيّع المصري الفاطمي»، «ديوان زينب فواز»، «تطوّر الخطاب التربوي في جبل عامل»، إضافة إلى جمعه قصائد في ثلاثة دواوين شعرية للمرجع الراحل السيد محسن الأمين ونجليه حسن وهاشم.
تعليقات: