بعد الإفراج عن أنور تفرّغت لأداء واجباتها الدينية (أرشيف ــ هيثم الموسوي)
تصادف غداً الذكرى الثامنة لإنجاز احدى عمليات تبادل الأسرى بين حزب الله واسرائيل. عملية تنفّس إثرها أنور ياسين حريته، بعد أسر طال سبعة عشر عاماً. لكن ماذا عن والدته التي أوصلت قضيته ابنها ورفاقه إلى آخر مدى؟ اين هي أجمل الأمهات، جميلة ناصر؟
يمرّ شهر كامل ونحن ننتظر والدة الأسير المحرّر أنور ياسين، لتنزل من بلدتها الدلافة (قضاء حاصبيا)، فنلتقيها في بيروت أو صيدا. وقد اخترنا هاتين المدينتين، لاعتقادنا أنها لا تزال تقصدهما باستمرار لزيارة أولادها وعائلاتهم فيهما. لكن الشهر مرّ ولم تترك «أم علي» الضيعة.. حتى نصحنا أنور بأن نقوم نحن بزيارتها في الدلافة، كي لا تدهمنا الذكرى الثامنة لتحريره ونحن لا نزال ننتظر اليوم الذي ستترك فيه قريتها الهادئة وبيتها وحقلها الصغيرين وتعود إلى ضوضاء المدن. قررنا زيارتها يوم الإثنين الفائت الذي صادف التاريخ الذي علم فيه أنور بخبر الإفراج عنه من قبل مندوب الصليب الأحمر الدولي. فهل شكل ذاك التاريخ بداية «نهاية» أيقونة أمهات الأسرى واستعادتها لهويتها، بأنها السيدة جميلة ناصر وحسب؟
الطريق إلى الدلافة تمتد لأكثر من مئة كيلومتر. الساعة والنصف التي كانت تفصلنا عن لقاء أم أنور، جعلتنا نغرق في تخيّل حالها بعد ثماني سنوات من ابتعادها عن الأضواء. كيف تمضي وقتها في منطقة نائية بعدما كانت تتنقل بين المناطق اللبنانية حاملة قضية ابنها ورفاقه، وشاركت في مئات الأنشطة والاعتصامات طوال سبعة عشر عاماً؟ هل صنعت لنفسها في الدلافة تجربة تجعل منها «المختارة» بين الأهالي، كما كانت أيقونة خلال دورها في الحركة الأسيرة في لبنان وفلسطين المحتلة والعالم؟ تأخذنا الأفكار فنتخيلها «أبو ملحم» الدلافة التي يشاورها الجميع في شؤون عامة وخاصة. هل قادت النسوة إلى مشروع تنموي أم أسست تعاونية زراعية وحرفية؟. تلك السيدة التي قابلت شخصيات ودخلت مقارّ ومجالس يسمع عنها أهل القرية من وسائل الإعلام فحسب. نتساءل، بعدما كانت أجندتها مليئة بآلاف المواعيد، هل هناك من يزورها بعد مرور كل تلك السنين من آلاف المسؤولين والصحافيين والناشطين والثوريين من لبنان والعالم الذين جعلوا من بيتها السابق في الرميلة محجة؟ تحتدم الاحتمالات في مخيلتنا ونحن نتأهب لملاقاة السيدة التي لم نكن نخبر أحداً بأمر زيارتنا لها، حتى يحمّلنا السلام والتحية إليها، متسائلاً: «أوف، وين صارت؟».
نخترق أزقة القرية للوصول إلى بيت محمد ياسين. تبدو مقفرة تماماً. لا أحد يتنقل على الطرقات أو يتحرك في محيط بيته. نسأل إن كان السبب هو الطقس البارد، فيشير أنور إلى أنها خالية في معظم أيام السنة بسبب تواجد أبنائها إما في بيروت أو في بلاد الاغتراب. نصل إلى البيت الذي يكتنفه هدوء مماثل، لكن الدخان المتصاعد من مدخنة السطح والضوء المنبعث من غرفتين، يدل إلى وجود حياة هنا. يدق أنور الباب، فتفتح لنا سيدة بنغالية قرر وأشقاؤه الاستعانة بها لمساعدة والدته على أعمال المنزل. بلهجة عربية «مكسرة» تنادي: «ماما تعي شوفي... إجا حبيب قلبك». تركض أم أنور متلهفة باتجاهه. «يا تقبرني». تردّدها مراراً وهي تحضنه وتشمه، إذ إنها لم تره منذ عيد رأس السنة. ولأن لقاءهما يعتمد على «فضاوة» أنور، فإنه يقتصر على مرة واحدة في الشهر أحياناً. نحن أيضاً نأخذ نصيبنا من الاستقبال. وإن كنا قد التقينا بها مراراً في السابق، إلا أنها لا تتذكرنا بالضرورة، إما لأننا كنا جزءاً من جمهور طويل مرّ عليها، أو لأننا انقطعنا عنها بعد الإفراج عن ابنها. «العمر إلو حق» تبرّر. تبرير لا يخفي عتباً خفياً على تلهي الناس عنها وعن رفاقها ورفيقاتها من الأسرى وعوائلهم وما قدموه للوطن من دون تكريم لائق. عتب تقطعه بالقول: «هيدي حال الدنيا».
تنهمك سريعاً بإعداد وجبة لنا من دون أن تتزامن مع موعد الطعام. هذا طبعها وجزء من عادات القرويين. ترتّب سفرة على الأرض حول «الصوبيا»، ناصحة بتذوق الزيتون، صنع حقلها ويديها. يتناوب زوجها وابنها على مناداتها «يا حجة»، إذ إنها بعد اطمئنانها إلى ابنها، تفرّغت للقيام بواجباتها الدينية. أدّت مناسك الحج مع زوجها وزارت المقامات المقدسة. حتى أنها غيّرت في حجابها، فاستبدلت الإيشارب الذي كانت النسوة الجنوبيات يعتمدنه، بحجاب محكم يغطي الشعر والرقبة.
حول المائدة، تدخل الأسرة في أحاديث عائلية. بداية السؤال عن وليام وراشيل، طفلي أنور. ثم جولة مفصلة على أحوال الأشقاء والشقيقات الثمانية وأولادهم وأحفادهم. يغرقون في مناقشة هموم كلّ منهم ومشاغله. نقاش ينسي المرء أنه أمام عائلة مثّلت طوال سبعة عشر عاماً شعاراً لقضية نضالية واحدة. بل نحن أمام عائلة عادية لها أفراحها وأحزانها. حتى أن السيدة محور الزيارة، لم تعد أم أنور بل أصبحت أم علي. هي كذلك في الأساس نسبة إلى ابنها الأكبر، لكن الكنية الأخرى لبستها تدريجياً لتمييزها من قبل الناس بأنها والدة أنور ياسين. تلفت نظرنا إلى أنها لم تعد أم علي فحسب، بل عادت أيضاً جميلة ناصر. احدى الأمهات اللواتي ينذرن حياتهن لرعاية أبنائهن وأحفادهن وخدمتهم، ملتزمات البيوت. في الفترة الماضية، لم تتخلّ أم علي عن هذا الدور، لكنها تقرّ بأنها أعطت الجزء الأكبر منه لابنها الأصغر بسبب ظرفه الاستثنائي. تلك التجربة عكست جواً دائماً من المرارة والحزن الذي خيم على الأسرة لا سيما على الأم. الأعياد والأفراح والواجبات الاجتماعية والنزهات تفقد مذاقها.
يطول النقاش العائلي الذي يربكنا ويمنعنا من مقاطعته لطرح أسئلة حول تجربة الماضي. انشغال أم علي بالهموم الحياتية لأولادها يجعلنا نشعر بأنه لم يعد من جدوى لتذكيرها باللحظة التي أخبرها فيها الشهيد جورج حاوي أن المقاوم الذي حملت همّه، ودعت لأمه بالصبر بعدما أسره العدو الإسرائيلي من أرض المواجهات خلال عملية بطولية في جبل الشيخ، هو ابنها. مثل جرح اندمل، نؤثر عدم تذكيرها بالأداء الرسمي تجاه قضية الأسرى وبالأمراض التي أصابتها من الهمّ.
تختصر جميلة ناصر تجربة السبعة عشر عاماً ببعض الصور لأشخاص ومناسبات شكلت محطات مفصلية، كأنها لا تريد أن تتذكر سواها. في غرفة الجلوس التي تمضي فيها الوقت الأكبر، رفعت صورة للسيد حسن نصر الله الذي قابلته مرات عدة وتحفظ له ذكريات وأقوالاً خاصة. في غرفة أخرى، رتبت على طاولة صورة تؤرخ لحظة وصول أنور إلى صالة المطار إثر الإفراج عنه وأخرى للشهيد جمال ساطي الذي أطلق ابنها اسمه على عمليته تيمناً.
رفقة العمر
الرابح الأكبر من عودة أم علي (82 عاماً) هو أبو علي. يتشارك «الختياران»، الأيام المتبقية لهما. يزرعان الحقل ويختلفان على الطرق الزراعية في التتريب والسقاية. لكنهما في هدأة الليل الطويل، يتفحصان كيس نايلون جمعت فيه مئات الجرائد التي نشرت مقالات وأخباراً لأنور منذ اعتقاله وحتى خسارته في الانتخابات النيابية في العام 2005.
تعليقات: