الإسلام المعاصر وتحدّيات الواقع..
.. يقودنا البحث والتأمّل في واقع الإسلام المعاصر إلى التعرّف على الكثير من المعضلات والمشاكل التي انسحبت بشكل أو بآخر على الحياة العامّة للإنسان المسلم, وتجسّدت في الكثير من المواقف الثقافيّة, والفكريّة, والتربويّة, والسياسيّة, والاجتماعيّة التي تحكم المجتمع الاسلاميّ الكبير في هذا العصر .
وبعيداً عن بكائيّة التشرذم المذهبيّ الإسلاميّ, وما يعانية المسلمون من غياب منطق الحوار في ما بينهم, ولجوء بعض الفرق منهم إلى منطق التكفير, وأسلوب التّصفية الجسديّة انطلاقاً من أدلجة خطيرة تستولي على عقول التابعين وتصيّرهم أدوات طيّعة لا تملك نقداً او تساؤلاً أو اعتراضا, وبمنأى عن لازمة جلد الذات, أو تكرار الرثائيّة المعهودة للواقع المأزوم الذي نعيش, فإنني أحاول من خلال هذه الأسطر الإضاءة على بعض العناصر الإضافيّة التي أظنّ أنها مكوّنات أساسيّة في صناعة الأزمة .
فمن هذه العناصر ما هو متعلق بالبنيان التفسيريّ والاجتهاديّ للمصدر الأساسيّ للتشريع الإسلامي ـ أي القرآن الكريم ـ تليه السّنة النبويّة الشريفة, والتي تعتبر مصدراً مهمّاً من مصادر التشريع بعد الكتاب. وتكمن المشكلة في إخضاع النصوص القرآنيّة والروايات النبويّة إلى مزاجات شخصيّة, أو تأثيرات بيئيّة أو اجتماعيّة, أو مصالح سياسيّة, أدّت إلى مسخ النّص وإبعاده عن مساراته ومصاديقه الحقيقيّة.
فعلى سبيل المثال نجد في بعض التفسيرات محاولات مكشوفة لإثبات دعوى ما, أو تصحيح مسار تاريخيّ أو سياسيّ, أو إسقاط متعمّد لتبرير واقع اجتماعيّ, وإضفاء روح الشرعيّة عليه من خلال تطويع المصادر والأدلّة, فنلاحظ لدى بعض المفسرين اعتمادهم على آيات الوحدة بين المسلمين, وتزكية روح الجماعة, توصّلاً إلى شرعنة حكم الحاكم الظالم, وتهيئة الأمّة لتقبّله أمراً واقعاً يريده الله ويرضاه لأنّ فيه إبقاء على الوحدة, وحؤولاً دون شقّ عصا الطّاعة الموجب للضعف والتفرقة .
وفي نموذج آخر نرى بعض الإخباريين أو الفقهاء يعتمد على روايات مخالفة لصريح القرآن الكريم ويسعى إلى تأويلها وتبريرها بغية اعتمادها كأدلّة قاطعة على صوابيّة الأحكام والفتاوى المستنبطة, كما نلاحظ في كثير من الاجتهادات التفسيريّة والفتوائيّة التي تكرّس الواقع الذكوريّ في الدائرة العملانيّة, وتجعل من المرأة ناقصة حظّ, وعقل, ودين, مقدّمة لحرمانها من التكافؤ مع الرجل في المساحة الحقوقيّة.
وما يفاقم المشكلة أنّ جمهور المبلّغين والدعاة يتلّقى هذه الآراء بالإذعان والتسليم, ويأخذ بها أخذ المسلّمات بدافع من الشخصانيّة المستحكمة في سلوكه, وبالتالي فهو يشكّل حارساً أميناً لهذه الأحكام وسوراً منيعاً أمام كلّ محاولات النّقد والتشكيك والاعتراض.
وعليه فلا غرابة أن يتوقّف الزمن عند مجموعة من العلماء والمفسّرين الذين كان لهم فهمهم و تجربتهم في الماضي, ويتجمّد العقل البشريّ عن التفكير, والتحليل, والاستنتاج, ويوصد الباب أمام كلّ محاولة اجتهاديّة تجديديّة, ويتّهم أصحابها بالابتداع والمروق عن جادّة الحقّ والشريعة.
ومن العناصر المساهمة أيضاً في تكوين الواقع المؤسف الذي نحياه كمسلمين, التداخل العشوائيّ لسلطة العوام على المنتج الفكريّ للأمّة, والذي هو شأن أهل الاختصاص وحدهم, ضمن دائرة رحبة تتّسع للكثير من المجدّدين وأصحاب الروئ الموائمة بين محوريّة النّص ومتغيرات العصر .
إلا أنّ الفوضى الذي يحدثها الغوغائيون من شأنها أن تعيق حركة التجدّد في الفكر والفقه الإسلاميّين, وبالتالي تشكّل جداراً عازلاً أمام المحاولات المخلصة للإنتقال بالإسلام وإخراجه من دائرة الجمود إلى مواكبة الحاضر, وسدّ احتياجاته, وتقديم الحلول الملائمة لتعقيداته الكثيرة .
إنّ ما نشهده اليوم يعتبر انتكاسة خطيرة في الواقع الدينيّ تتمثل بسطوة العوام على الفتوى وفرضهم الرقابة الصارمة على اتجاهاتها, ما يولّد حالة من التردّد والحذر لدى المتنوّرين في طرح أفكارهم ورؤاهم التي من الطبيعي أن تواجه بالسبّ, واللعن, والشتيمة, والإخراج عن شروط الدّين والملّة .
وأمام هذا الواقع لا بدّ من إعادة ترسيم الحدود بين دوائر البحث والتحقيق, وبين الانفعاليين والببغائيين من الجمهور, الذين يفترض بأرباب المنابر والدّعاة أن لا يتخذوهم دفاعات ومتاريساً لحماية مواقعهم الدينيّة ومصالحهم الدنيويّة.
نحن اليوم بحاجة إلى الكثير من التواضع والاعتراف أنّنا في قفص الاتّهام, وأنّه علينا الإجابة على الكثير من التساؤلات, وردّ الكثير من التّهم التي لا تساق ضدّنا كإسلاميين وحسب, إنما توجّه ضدّ الإسلام كلّه شكلاً ومضمونا, كما أنّ علينا أن نتسلّح بالجرأة والشجاعة للخوض في قراءة نقديّة للموروث الثقافيّ والفكريّ الذي نختزن, والذي لا شكّ أنّه بحاجة إلى إعادة النظر والتقويم.
تعليقات: