مختار برغز يشير إلى أضرار الكسارات المحيطة بها
الكسّارات قضت على ما لم تهدمه الاعتداءات الإسرائيلية فيها
برغز: قرية «منسيّة» تطالب بالطريق والمدرسة.. والماء والهواء
تكاد بلدة برغز القابعة عند الضفة الشرقية لمجرى الليطاني، أن تكون خارج الجغرافيا اللبنانية، لولا هجمة الكسارات المتصاعدة على خراجها، لتضعها من جديد وخلال السنوات العشر الأخيرة، في واجهة القرى المضروبة بالخطر البيئي، الناجم عن الغبار المتزايد الذي يطال كل شيء فيها ومن حولها، فيلوث الهواء، ويغطي النبات والشجر والحجر، ليضاف ذلك إلى حركة شاحنات الحصى الناشطة من وإلى الكسارات، التي خربت طريقها الوحيدة فغدت أخاديد ترابية محفرة، غاب عنها الإسفلت، وباتت غير صالحة لسير المركبات الصغيرة، خاصة في فصل الشتاء، ما ألزم سكانها على تركها باتجاه القرى المحيطة، تجنباً للمخاطر البيئية وليتسنى لأطفالهم التوجه بانتظام إلى مدارسهم.
الإهمال المزمن، إضافة الى الوضع البيئي الخطر في برغز، والمتصاعد في ظل تجاهل الجهات المراقبة المعنية، دفع بأصحاب الأرض والسكان إلى رفع الصوت عالياً، مطالبين بأبسط حقوقهم المشروعة، وجلهم من الطبقة الفقيرة، الذين يعتاشون وحتى اليوم من «ربع الشرش» وقسمة الإنتاج، «وهي حصتهم من أصحاب الأملاك التي يعملون فيها ومنذ العهد العثماني»، كما يشير مختارها أبو غسان اسماعيل حرفوش، الملقب بـ«حارس البلدة الأمين». حرفوش يصف وضع البلدة بـ«اليائس، وكأنها خارج الجغرافية اللبنانية منذ عهد طويل، فالحاجات كثيرة ولا من يسأل، فهي تبدأ بلقمة العيش حيث الكساد في المواسم، لتصل إلى شربة الماء التي تغيب عن البلدة مع نهاية الربيــع وحـتى الشتاء، ناهيك عن خطر الكسـارات التي تطــوقها من كل حدب لتلوث طبيعتها وتضرب الحياة فيها ومن حولها». ويفخر المختار الثمانيـني القوي البنية ببلدته الصغيرة، «التي لا تزال تحافظ بحنان على التراث القروي اللبناني، فالسكان يعملون في حقول البلدة وبساتينها على قاعدة حصة الإنتاج وربـع الشـرش، وهو نظام عثماني ويعني نيل المزارع ربع الإنتاج الزراعي الشجري، من خلال عنايته بالبسـاتين والعائدة بمعظمها لآل شمس». البلدة متشبثة بالتـقاليد القديمة، مثل بيت الناطور، الذي كان يتولى مراقبة وحراسة الأملاك ويشرف على قسـمة الإنتـاج بين المزارع وصاحب الأرض، وهي تحافظ على مدفأة الحطب في غرفها البسيطة الفرش، برغز مشهورة بالزيتون الروماني المعمر، وبالرمان والكرمة وتربية النحل. وفي خراجها الوعر يستوطن حيوان «الطبسون»، الذي يتكاثر بين صخورها الكبيرة وداخل عشرات المغاور.
رياض بهجت شمس، أحد مالكي الأرض أباً عن جد، يشير إلى أن «سكان برغز الأصليين، وفي أيام العز تجاوز 250 نسمة، جميعهم عمل في الزراعة وتربية الماشية والنحل، وكانت البلدة مخزناً كبيراً لمختلف أنواع الحبوب، خاصة القمح والترمس، إضافة إلى الخضار والفاكهة، ولكن مع دخول العمل الفدائي في السبعينيات تحولت المنطقة إلى محور عسكري ساخن، وباتت هدفاً للآلة العسكرية الإسرائيلية والمستمرة اعتداءاتها حتى اليوم، ما أثر سلباً على مختلف أوضاع البلدة الحياتية والأمنية والزراعية». ويلفت شمس إلى «تراجع الإنتاج الزراعي، وهجر معظم سكانها، ليقتصر عددهم الآن على خمسة عشر شخصاً فقط، تحتضنهم خمسة منازل بنيت من الحجارة والتراب منذ أكثر من مئة سنة، مورد رزقهم يقتصر على ما تبقى من أشجار مثمرة، أهمها الرمان والزيتون، وهؤلاء صامدون في البلدة، يرفضون المغادرة على الرغم من الإهمال وشظف العيش وقلة الاهتمام والحرمان المزمن، والتقصير الحاصل بحقهم لجهة عدم تأمين الحد الأدنى من المتطلبات الحياتية، وفي مقدمتها تأهيل وتعبيد الطريق الرئيسية التي تصل البلدة بجاراتها». ويقول شمس: «تاريخ ملكيتنا برغز البالغة مساحتها أكثر من 6000 دونم، يعود إلى أكثر من 850 سنة»، لافتاً إلى أن «الإنتاج الزراعي انخفض بنسبة كبيرة خلال السنوات الماضية ليصل إلى ما دون 2 في المئة، وبات لا يسد حتى أجرة العمال»، مشيراً إلى أن الاعتداءات الإسرائيلية «قضت على البساتين والمنازل، وفصلت بين اراضينا الزراعية، اي الأراضي شرقي مجرى الليطاني وغربه، بعدما دمر الجسر الوحيد الذي يصل بين ضفتي الليطاني عند طرف البلدة الغربي».
جسر برغز ومطالبها
ولجسر برغز حكايات تدمير أخرى، فخلال معركة حصلت في البلدة عام 1941 بين قوات تابعة لديغول وقوات حكومة فيشي خلال الحرب العالمية الثانية، والتي انتهت بهزيمة الأخيرة، «عمدت عناصرها انتقاماً إلى حرق برغز وهدمت منازلها، ومن ثم فجرت الجسر الذي كان بطول 30 متراً وعرض 7 امتار، وقد أعاد وزير الدفاع اللبناني الأمير مجيد ارسلان بناءه من الحجر المقصوب سنة 1945، وفي عام 1978 نفذت قوة اسرائيلية عملية عسكرية في المنطقة، وأقدمت ايضا على نسف الجسر بـ 40 عبوة ناسفة أدت إلى تدميره، بحجة انه ربطة وصل بين حاصبيا وجزين، وتولى بعدها مجلس الجنوب إعادة بنائه بتوجيه من رئيسه في تلك الفترة محمد شعيتو، وفي حرب تموز شنت الطائرات العدوة غارتين كانتا كافيتين لتدميره مرة ثالثة ولا يزال ركاما منذ عام 2006».
ويضيف شمس: «جاءتنا بعد التحرير موجة الكسارات، بتراخيص قانونية وبدون تراخيص، وبتجديد مهل وبدونها، فكان أن تلوث الجو وبشكل خطر، وغطى الغبار كل شيء، فقضى ذلك على كل ما تبقى من حياة للثمر والشجر، وأتلفت المزروعات وهجرت الطيور والمواشي، فتحولت البلدة إلى منطقة موبوءة»، لافتاً إلى أن «الاعتداء على البيئة متواصل بتغطية جهات نافذة، فمواجهتنا لها وحربنا معها ستكون حتما خاسرة، وما يهمنا اليوم تأمين مياه الشفة لمن تبقى من الأهالي»، مشيراً إلى أن مياه البلدة تؤمن عبر جرها من «نبعة الوادي» إلى خزان يوزع المياه إلى المنازل بواسطة قساطل مكشوفة، وما أن يحل فصل الصيف حتى تجف مياه النبع والخزان معها، وفي الكثير من الأحيان تصلنا المياه عبر صهاريج تابعة للوحدات الماليزية والإسبانية والهندية العاملة ضمن قوات «اليونيفيل». ولفت شمس إلى إنشاء الكتيبة الإسبانية مستوصفاً طبياً، ويقوم أطباء من الكتيبة الماليزية بمعاينة أهل البلدة مرة كل اسبوعين، وقد وعدنا بتزويد البلدة بالمياه من مشروع الليطاني. وشدد شمس على مطالب منها «دفع أضرار القصف الإسرائيلي، وإعادة فتح المدرسة، وتعبيد الطريق، وكلنا أمل أن يتجاوب وزير الأشغال العامة غازي العريضي ويعمل بسرعة على اعادة تأهيل وتعبيد الطرق، والحد من خطر الكسارات، وبناء الجسر المهدم».
ويستغرب دانيال حسنية، أحد طلاب البلدة، الذي يتابع دروسه في حاصبيا، «تجاهل الدولة لوضع بلدته المأساوي»، فليس في البلدة سوى شاب آخر من عمره، معتبراً أن «الجميع ترك البلدة إلى الجوار»، وهو في طريقه إلى الهجرة بالرغم من حبه لبلدته، لأنه يطمح بإنهاء المرحلة الثانوية وتأمين حياة أفضل لصعوبة العيش فيها، الذي يقتصر على القطاع الزراعي وما فيه من صعوبات حياتية.
والسؤال المطروح اليوم هل ستبقى هذه الضيعة منسية، وكلما اشتد ساعد أحد من أبنائها هجرها مخلفاً بقايا ذكرى وحنين، أم أن عين المسؤولين تعيد النظر إليها وتشملها ببريق أمل طال انتظاره.
تعليقات: