تكريم المطران غريغوار حداد: انحياز واضح وملموس إلى الفئات الضعيفة
Download the original attachment
الحركة الثقافية انطلياس
عندما يرتقي الكفاح إلى مستوى التضحية، فهو شرف يستحقه القليلون، ممن ثابروا على العطاء أو أدمنوا عليه، فكيف إذا اقترن ذلك بالصمت، فإن الطريقة تصبح قيمة بذاتها، يتطابق معها الهدف والمضمون وكل التفاصيل في اللحظة المرهفة الفاصلة؟!
والتضحية لا حدود لها ولا حجم ولا مستراح، وأصحابها لا يطلبون ثمناً أو مكافأة ... وحتى كلمة تشجيع، فقد وهبوا النفس للدور، وروضوا الحوافز على التحدي، ولا يكاد يبارحهم الخطر في مسيرة الآلام و "الجلاجل" وسكب الروح نقية في فضاء التاريخ الذهبي، المرصّع بعرق الفقراء ودماء الشرفاء الذين سبقوا القوافل وانتشرت أحلامهم كالرياحين على جبهة الزمن.
من فرسان تلك الجولات وعلى هذا المسرح، حيث الإنسان، طفلاً وامرأة وشيخاً ومجتمعاً، هو المعني، كان وما زال الصديق المطران غريغوار حداد، ومنذ أكثر من نصف قرن وإنسانية الإنسان تختصر كل العناوين في فكره وأسلوبه ونمط حياته وطريقة نضاله.
من العسير جداً الخوض في تفاصيل التجربة الغنية للمطران حداد، يكفي أن أشير إلى محطات لا تنسى في تاريخه، وهي تحمل طابع تلك المدرسة المختلفة، وذلك الكتاب الذي لا يعرف من أول سطوره.
لقد حاول المطران حداد في مسيرته الاجتماعية الطويلة ترجمة الفكر الديني والسياسي إلى واقع ملموس، مع انحياز واضح إلى الفئات الضعيفة، ومقارعة الحرمان في كل زمان ومكان.
لقد قيل الكثير عن المطران حداد رجل الدين، سأحاول التحدث عنه كمصلح اجتماعي، إذ أتاحت لي الظروف، ومن موقع الالتزام المشترك بالمواطن والإنسان، العمل مع المطران حداد منذ أربعة عقود تقريباً وذلك من خلال الهيئات القطاعية المتخصصة، ومن ثم في "تجمع الهيئات الأهلية التطوعية في لبنان" حيث تولينا تباعاً مسؤولية المنسق العام فيه.
لقد حاول المطران حداد، في تجربته الاجتماعية، تطبيق ما تنادي به الكتب السماوية التي تعمل على تنظيم شؤون البشر في تأسيس العمل التطوعي عبر التكافل الاجتماعي على الأرض.
ففي سنة 1957 أسس "الحركة الاجتماعية" كحركة مدنية طوعية ملتزمة بالإنسان والمجتمع وبالتنمية. وبالرغم من كونه رجل دين، حاول الفصل بين الالتزام بالعقيدة الدينية التي هي حق لكل فرد، وبين التعصب والطائفية.
ولقد توسع نشاط الحركة الاجتماعية في الستينات، ولقد خاض أول تجربة عمل مشترك في ما بين الهيئات الأهلية من ناحية، ومع القطاع العام من ناحية ثانية، ممثلة بمصلحة الإنعاش الاجتماعي في حينه.
كما حاول أن يبرهن عملياً بأن الهيئات الأهلية بمعزل عن انتمائها (دينية كانت أم مدنية) مهمتها الدفاع عن مصالح الناس وبالتالي هناك فرق بين أن تكون المؤسسة دينية ويوجد العديد منها وهي تقوم بدور كبير على الصعيدين الخدماتي والتنموي، وممارسة السياسة الطائفية التي لم تسمح للبنانيين بشكل عام وللطوائف بشكل خاص منذ القرن التاسع عشر. في إرساء قواعد المواطنية الصالحة، والطائفية التي يتسابق الجميع على التنديد بها تزداد انتعاشاً. والطائفية التي تأخذ الدين غطاء لها لا علاقة لها به. فالدين الإسلامي، كما الدين المسيحي، يقومان على أسس المحبة والتسامح والغفران والخير والرحمة.
لقد اكتشف المطران غريغوار حداد من خلال عمله الميداني الطويل وفي أحلك الظروف الأمنية والسياسية وجود أصولية فكرية عاهتها الأساسية ادعاء كل طرف امتلاكه الحقيقة دون سواه الآخر، وتعامله مع الآخرين من موقع رفضه وتخوينه، انطلاقاً من الاعتقاد أن الصراع دوماً بين ملائكة وشياطين. وإن الآخر هو دوماً شيطان، إذ اختار منذ دخوله العمل في الشأن العام أن يسعى إلى تجميع الطاقات وإلى تقريب وجهات النظر في خدمة قضية الوطن والإنسان.
لقد كان خيار المطران حداد ولا يزال أن يكون إلى جانب الإنسان كل إنسان. والمنظمات الأهلية بالنسبة إليه هي منظمات لها رؤية إنمائية محددة من أجل حياة أفضل.
يبقى أن نسأل أنفسنا، أيها الصديق، في ظل تجربتك الطويلة والغنية، هل نجحنا في كل جمعية أن نمّلك الأعضاء المفاهيم المتعلقة بالتنمية والرؤية الشمولية حول الواقع الاجتماعي القائم وكيفية إيجاد السبيل لتأمين الحلول.
وعلى صعيد الأطر التنسيقية والشبكات، هل تمكنا من تحويلها إلى مؤسسة ام انها جزء من "عدة للشغل" تستعمل عند الحاجة؟ وهل هناك مستوى كاف من الوعي لدى القيمين عليها للتضحية بالسلطة الذاتية لمصلحة العمل المشترك؟
لقد حاول المطران حداد، في أطر العمل المشترك أن يجعل من العمل الاجتماعي، التطبيق العملي لمضمون العقائد: سياسية كانت أم دينية. لأنها كلها تدعو إلى إنصاف الناس والعدالة في المجتمع، أي احترام إنسانية الإنسان بمعزل عن انتمائه السياسي أو الديني أو الجغرافي، والعمل على مد جسور الحوار والعمل المشترك بين الناس، واستثارة الجانب المضيء داخل كل واحد منهم وإضعاف العدوانية والهجومية من داخلهم، أي رفع شعار التركيز على الإيجابي والعمل على تطويره فيما بينهم والانشغال بما يجمع وليس بما يفرق.
فاطمئن أيها الصديق العزيز، لقد أحاطك الناس بعاطفتهم وبحبهم وباعتزازهم بك. وعهداً منا لك أن نبقى معاً وأن نعمل في اعتماد أسلوب يقوم على أساس أن الحقوق الأساسية للمواطن هي حقوق نابعة من إنسانية الإنسان، من حيث تمكين الناس من التمتع بحقوقهم، وذلك الاستقلال عن الخيارات السياسية والثقافية للناس، وعن قدراتهم الاقتصادية وأن نتعاون مع مختلف بنى المجتمع المدني على صياغة ثقافة تقوم على أساس الحقوق المتساوية لكافة المواطنين بغض النظر عن الجنس والعقيدة والدين والمشاركة بين النساء والرجال.
وان لبنان الذي يعاني حالياً من تفاقم الأزمة المعيشية وإفقار الأكثرية من أبنائه، يقتضي علينا أن تكون نظرتنا الاقتصادية – الاجتماعية نظرة إستراتيجية لها بعد تاريخي وزمني، وليس نظرة تحكمها الأزمة الحالية الضاغطة. والسعي نحو الحلول الجاهزة والسريعة. من هنا أهمية تكوين رؤية وطنية شاملة ومحفزة، رؤية للبنان بعد عشرين أو ثلاثين سنة، وتصميم محكم لبلوغ هذه الرؤية على مراحل، وليس مرة أخرى مجرد قائمة من المشاريع العامة والتوجهات العامة والتمنيات سرعان ما نتخلى عنها أو نعجز عن تنفيذها، وصياغة عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع، شريطة صياغة سياسات تمكن الربط بين النمو الاقتصادي من جهة والتنمية الاجتماعية من جهة ثانية.
ويبقى الحلم أيها الصديق العزيز ، في الحراك العربي الذي دخل في مسار يقوده الجيل الجديد، سلاحه الحرية والديمقراطية والعدالة، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، والذي بات ملهماً لشعوب العالم وبالتحديد في الغرب الذي تزداد في مجتمعاته أعداد المهمشين والعاطلين عن العمل. فإننا سنبقى نناضل مع شركائنا في منظمات المجتمع المدني في الشمال والجنوب، لكي يكون هاجس العمل الإنساني، قضايا الشعوب العادلة وليس أداة لأجندات خارجية، وأن تكون قضية فلسطين في أولوياته، وتعمل على إرساء نظام عالمي على قاعدة العدالة والحرية، ومواجهة سياسة التصحيح الهيكلي المعتمدة حالياً والتي أدت إلى سباق حثيث على الأرباح وإلى احتكار قلة جوهر الثروات العالمية. ففي مواجهة عولمة رأس المال والاقتصاد، هناك ضرورة لعولمة النضالات الاجتماعية، والتي بدأت ملامحها في الحراك العربي وجيل الشباب الثائر والواعد، والتي ألهمت "حركة الغاضبين" في العالم، من أجل مستقبل أفضل للشعوب.
وفي الختام إننا إذ نتشرف في هذا اللقاء الحميم والعائلي وفي إطار الحركة الثقافية لأنطلياس حيث شرفني مجدداً الأصدقاء في الحركة الثقافية التي أنتمي إليها بالاختيار وبالاتصال الفكري المفتوح بإدلاء شهادة عن الصديق غريغوار، فإن إيمانك الراسخ بالإنسان وبحتمية التغيير أيها العزيز حيث تقول بأن "الإصلاح صعب ولكن ليس مستحيلاً"، فسنبقى كما يقول ادوار سعيد: "نعيش مع الحلم، ونعمل على تحويله إلى حقيقة".
مع حبنا والوفاء
وشكراً
* كلمة الدكتور كامل مهنا منسق عام تجمع الهيئات الأهلية التطوعية في لبنان ورئيس مؤسسة عامل الدولية بمناسبة تكريم المطران غريغوار حداد قي "الحركة الثقافية في أنطلياس" في 06/03/2012
تكريم المطران غريغوار حداد: انحياز واضح وملموس إلى الفئات الضعيفة
تكريم المطران غريغوار حداد: انحياز واضح وملموس إلى الفئات الضعيفة
تكريم المطران غريغوار حداد: انحياز واضح وملموس إلى الفئات الضعيفة
تكريم المطران غريغوار حداد: انحياز واضح وملموس إلى الفئات الضعيفة
تعليقات: